(ثلاثة معلمين ينتحرون في منطقة الرياض خلال عام واحد) عنوان مثير وبالبنط العريض كما يقولون، سيستغله الصحفيون ويحبرونه تحبيراً، ويضيفون عليه من نكهاتهم الخاصة ومساحيقهم التجميلية لينالوا به قصب السبق الصحفي ثم ينشرونه بين ظهرانينا. ربما ـ وأقول ربما ـ نراه عما قريب في الصفحة الأولى على صفحات جرائدنا ـ ونسأل الله ألا يكون ـ .يدلف المعلم إلى فصله بنشاط وحيوية، ويبدأ درسه بعد توزيع الابتسامات هنا وهناك؛ ليقبل طلابه على العلم إقبال النهم الجشع على الأكل، ثم يخبرهم بأدب جم أن درس النحو اليوم عن (الفاعل) وأنه مرفوع من أول وجوده على هذه البسيطة، فما أقلت الغبراء ولا أظلت السماء مرفوعاً كالفاعل، وقد قالت العرب المستغربة ـ بالغين المعجمة ـ «مرفوع ولا كالفاعل»، وأعلم أيها النهم النجيب أنك مهما توجهت وأينما يممت وجهك ستجد الفاعل مرفوعاً، وقد اتفق على ذلك المشارقة والمغاربة، وأيدهم عليه أهل الأرض قاطبة، وشاركهم الرأي بل ووقع عليه أهل المريخ والمشتري، وشاطرهم إياه وبأغلبية ساحقة أهل عطارد، هذا هو درس اليوم يا شبيبة المستقبل. وإذا سألهم معلمهم عن الدرس ليرى ما حققه من أهداف سلوكية ومعرفية، وجد العقول خاوية على عروشها، بل يجد من يجر الفاعل أو يجزمه أو ينصبه، ولا أثر للرفع البتة وكأنك يا أبا زيد ما غزيت. ولإصابةٌ بحمى متصدعة أو أمراض موجعة أو جراحات قاتلة، أهون من إجابة طالب بعد طول احتراق، وَلَقرض بالمقاريض ونشر بالمناشير أحب إلى معلمنا من هذه الأورام الإعرابية، ولسان حاله ومقاله يردد:فيا موت زر إن الحياة ذميمة ويا نفس جُدّي إن دهرك هازلويعيد المعلم الدرس ثانية وثالثة وعاشرة والعقول تزداد إصراراً على أن الفاعل مجزوم، فيحلف المعلم المسكين الأيمان المغلظة ويقسم الأقسام الشديدة وأن نساءه طوالق وهو حلال المال مهدور الدم بأن الفاعل مرفوع ولا يمكن بحال أن يكون غير ذلك، وتبلغ القلوب الحناجر وتطعن بالخناجر الإعرابية، ولا أثر!سكنات الخليل، وفتحات سيبويه، وضمات المبرد، وتنوين الكسائي، وسائر الحركات الإعرابية النحوية مازالت مشكلة المشكلات وباقعة الدهر على رؤوس طلابنا، تفجؤك الإجابات، وتسقمك خوارق الأعاريب، وتحزنك طوراً غوامضها وربما أطربتك أحياناً طرائفها التي ما فاهت بها حنجرة مخلوق.هذا الشبح الجاثم على قلوب طلابنا، عشش وباض وفرخ وهم يلوكون أوجهاً إعرابية ـ حفظوها عن ظهر قلب ـ تنتظم في سلك حدائق بابل المعلقة والغول والعنقاء والخل الوفي!لست من دعاة العامية الحمقى ولا ضد النحو والعربية لغة القرآن ـ شلت يميني إن كان ذاك مقصودي ـ أعوذ بالله من ذلك وأستغفره، بل هذا ما أراه وأسمعه ممن عايش العلم والتعليم، وحتى تعلموا صدق مقالي وسطوع برهاني هاكم بعض الأوجه البشعة الشنيعة التي لو علمها أباطرة الرومان العجم لاستنكروها وعدوها ضرباً من الخيال وشنشنة لا تغتفر، وجعجعة بلا طحن، تأتيك من بين أنامل تلاميذنا الأعزاء بعد سنوات الدرس والتحصيل التي دامت ما يقرب من تسع سنوات حافلة بالفاعل المرفوع والمفعول المنصوب، والمجرور المنحط!فهذا إعراب يحتاج إلى التحصن بالأذكار الشرعية والأوراد النبوية: (فعل مضارع مسكون) عافانا الله وإياكم من شر شياطين الإنس والجن.وهذا يحتاج إلى قاموس محيط يحيط علماً بلغة البشر وغير البشر: (فعل ماض مجرور بالسكنة).وهذا آخر يحتاج الإحاطة الكاملة إحاطة السوار بالمعصم بعلم النفس الأردوفيشي: (اسم مجزوم وعلامة نصبه الجرة الطائرة منع من ظهورها التعذر لحركة المناسبة).وذاك (فعل مجزوم بالنصبة مرفوع بالسكنة منصوب بالرفعة) وإياك وإياك أيها القارئ الحصيف أن يدور في خلدك أن هذا سبق لسان أو جرة قلم، بل هو علم مكنون مخزون في خبايا وزوايا عقول طلابنا، فأنت تسأل الطالب: هل أنت في كامل قواك العقلية؟ وهل تعي ما تقول؟ وانتبه ففي إجابتك قطع الرؤوس! فيجيب بملء فيه زهواً وفخراً وبأعلى صوته وكأنه أنحى نحاة دهره بأن الفعل كما ذكر مجزوم مرفوع منصوب بنصبة وسكنة ورفعة على التوالي!أما كلمة (بعوضة) فتنتف هذه الكلمة نتفاً؛ ليأتي الإعراب ناسفاً (الباء) عن (عوضة) مفرقاً بينهما في المضاجع اللغوية، فـ(الباء): حرف جر، و(عوضة) اسم مجرور. وهو علم خاض حرب داحس والغبراء التي دارت رحاها في ربوع خنشليلة.ومثلها (أنت): فـ(أن) حرف نصب واحتيال، و(التاء) اسمها منصوب!تُرى أبَعْد هذه البواقع والصواقع هل سينتحر المعلم ويكون فارس الصحف وغلاف المجلات؟!هذه أمثلة ليست من نسج الخيال ولا من روائع لافونتين ولا هرطقات أرسطو، بل هي من عقول أبنائنا مطبوعة طبعاً في عقولهم ومنسوخة نسخاً على أوراق الامتحانات عرضنا لبعضها مما تقبله العقول، وما خفي من الدواهي أدهى وأمر، لم نذكره حتى لا نكتب محالاً ولا يظن بنا ظن سوء أو يقال: بنا مس من الشيطان. والسؤال المحير الذي يحتاج إلى إجابة شافية كافية: من المسؤول عن ذلك؟هل عقول طلابنا عقمت عن الإبداع؟ أبداً فعقولهم بحمد الله أراض بكر خصيبة.أم معلمونا يهرفون بما لا يعرفون؟ ولا هذا فكلنا يعلم علم اليقين أن بلوى الشعوذات الإعرابية بلوى عامة طامة. أم مناهجنا مليئة بالأخطاء المطبعية والمنهجية؟ ربما.أم أن آثار قنبلة هيروشيما كان لها أثر السبق في ذلك، أثرت على خلايا الإحساس فما عاد هناك إحساس ولا إمساس ولا إبساس؟أم أن النحو من أوله إلى آخره خزعبلات ينبغي أن توضع في متحف اللوفر؟ ولا هذه فتلك شكاة بان عوارها، فهذه إحدى الخرافات التي طنطن بها المستشرقون وروجها أذنابهم، فالنحو لم يستعص على أحد مذ أن ظهر إلى الآن، وما سمعنا هذه الشكاية إلا قبل ثلاثة عقود تقريباً.أعتقد اعتقاداً جازماً لا مرية فيه أن لا شيء مما ذكر، وهناك ثغرة ولج منها فيروس الطوام الإعرابية، تحتاج إلى كاسحة ألغام لتريح البلاد والعباد من مثل هذه الأعاريب.وأخيراً لا نحتقر شيئاً ولو صغر، فربما يكون المسؤول الأول والأخير عن هذه البلايا عامل النظافة في مدرستنا!