أحيانًا استمع في داخلي إلى صوت يشبه صوتي أو يماثله.. صوت لا يسمعه غيري، تزعجني أحاديثه، يحرمني لذة النوم يزيد من ضربات قلبي، يرصد حركاتي كمؤشر، ويزيد من
ترددي في كل شيء، ومن تعمقي في تفاصيل الأشياء التي أعلم يقينًا أنها لا بد أن تنتهي، فكل شيء ينتهي..! فلا شيء يستحق أن نتعب من أجله، هكذا يراودنا الشعور, ولكن من منا الفذّ الذي يستطيع ألا يشعر بالتعب؟
أوقاتي ضائعة وخطوط قلمي المكسور متقطعة.. فهل لدي ما يستحقّ أن يُقرأ؟
فإن كنت لا تحبُ أن تقرأ ما يكتبه قلم مكسور فتوقف هنا، فليس ثمة ما يستحقُ القراءة!
بماذا يمكن أن أبتدئ؟
فقد تكررت محاولاتي بشكل جاد أن أزن قلمي بين إبهامي وسبابتي، فأجده معوجًا، لا يرى عوجه وكسوره سواي، أخبئُ كسره كما أخبئ كسوري كلها، فأنا أجيدُ الاختباء جيدًا، فاسمحوا لي أن أترك الاختباء قليلاً وأن أفضي ببعض انكساراتي!
سأتحدث عن حكمتي التي تصفني بها صديقاتي، وعن قوتي في النصحِ، ومحبتي في إظهار الحقائق، والتعامل العقلاني، وربما تضحكون في نهاية الأمر. فصديقاتي لا يعلمن أني أكذبُ معهن دائمًا، لا يعلمن أني أنصح بأشياءَ لا أستطيع أن أفعلها، كل ما أقوله لهن مجرد ترديد لشعارات تبنيتها وأرددها دون تجربة..
أبادر لنصحهن حين أرى أحداهن حزينة أو منزوية أو وجهت لها كلمة كرصاصة قاتلة، وأشجعهن على التجاهل، مؤكدة أن تسعة أعشار ما نعاني منه في الحياة يجب أن نواجهه بالتجاهل، ولكنني آخر من يطبق هذا الأمر!!
فأنا أكذب على أمي التي تعتقد أني معطاءة جدًا، وتتوقع أني أفعل أشياء جميلة لغيري، تتوقع أمي أني لو استطعتُ الإحسان بكل ما امتلكُ لفعلت، وأشعر بها تحزن لأني أقلق أو أحملُ هموم الآخرين, وأني أحاول مساعدتهم بما أستطيع به، لكني لستُ نبيلةً إلى هذا الحدّ أبدًا، تتوقع أمي أني من العظماء الذين يرهقون أنفسهم لأجل غيرهم، ولكن أنا لست كذلك !..
وليتني كذلك!
أتمنى لو استطعت أن أصل لمرحلةٍ أجبّر بعضَ كسوري، وأمضي ْفي طريقي، فكل ما أخطط له، وما أفكرُ به كثيرًا، لا يأتي أبدًا كما ما خططتُ له، أو ما فكرت به، ومع ذلك أنا لا استطيع أن أكفّ عن التفكير، أو التخطيط دون أن أحقق أي نتيجة.
أسمع كثيرا وأقرأ أحاديث مملة عن التخطيط ووضع الهدف والنجاح وإدارة الوقت، ويؤلفون لأجلها كتبًا، ويقضون في سرد حقائقها وقتًا، ويبذلون جهدًا ويستمرون في إزعاجنا بها! ولكنها أبعد ما تكون عن التنفيذ في حياتنا الواقعية حين لا نملك زمام أمورنا.
ولو ألفتُ كتابًا، حينها سأنصح أن نمارسَ الحياة كما هي.. بلا تخطيط مرهق، وأن على كل من يستطيع التوقف عن التفكير أن يفعل.. فهو في نعيم لن يشعرَ به إلاّ حينَ يفتقده، ككل النعم.
لا شيء يدعوك أن تسبق تصورك لعشرين سنة قادمة.. فهذا هراء كبير يريدون إثباته،
وهذا يأتي من خلال تجربةٍ لي.. تندر الأشياء التي لا أخطط لها، وقليلة هي الأمور التي لا أفكر لأجلها قبل أن تأتي.. ولكن كلها لم تأت كما فكرت، ولم تجئ كما خططت .. فلم العناء؟
هذه ليست كذبة.. أو شعارًا أردده، هذه حقيقة.
لأولِ مرة تخليتُ فيها عن كل شيء، ورأيتُ بها الأمور على ماهي عليه.. من الجميل أحيانًا أن نعيش طموحوبل أماني، فالأمنية حين لا تتحقق فهي مقدمة لهموم جديدة..! موت أمنية يعني حياة لـ همّ.
والحياةُ مع أمنية تعني أن نعيش حياتين منفصلتين، حياتنا الواقعية، وحياة أخرى للأمنية
ولكن دون ضمان ..
لا شيء يشبه الأمنيات، فما أن تنتهي إحداها..
حتى تأتي التي تليها، لتعود من جديد ولادة أمانيّ جديدة.. ولتموت مرةً أخرى، وهكذا دواليك..
لا أتخيل العيش بأماني كلها ميتة.. أو أمنيات تولد قبل أوانها، فتأتي عليلة تنبئ بموتها مبكرًا أو بعد ولادتها مباشرة..
❊ ❊ ❊
حين أجد نفسي أمام دموع طفلٍة مريضّة، تعرفُ جيدًا روائح المطهرات.. تتقن أسماء أدويتها.. تدمن بياض ملاءة السرير.. تخرسُ عند دموعها كل الدموع..
هنا أقفُ بخضوع.
عن موتِ أيّ الأمنيات كنت أتحدث؟
عن أي الهموم كنت أتوجع..
تلك يتيمةٌ، كثيرة الالتفات.. تائهة، حائرة ..
تفتقدُ التفاصيل الصغيرة التي تمنحها الأم..كيف تأكل بلباقة ؟ وكيف تشرب؟ وكيف تجلس بأدب؟ تطلقُ نظراتها إلينا وكأننا ملكنا كنوز الأرض! ونحن بالفعلّ نملك ما يغني عن كنوز الأرض!
وعن أي الأمنيات كنت أتحدث؟ عن أي الهموم كنت أتوجع؟
أسمع خطواتهن يتبعها وصويحباتها بضع نساء.. أشعر بأنهنّ يحيين أمنياتهن، وأمنيات غيرهن..
لم يتفرغن لأمنياتهن فقط، بل انشغلن ببثّ الحياة لأمنيات غيرهن، ومنها استطعن تحقيق ذواتهن، واستطعن الوصول إلى أن يجدن مواقع أقدامهن في معترك الحياة..أحاديثهن تدور حول
الأسر المنتجة، الأعمال التطوعيةّ، إسعاد الأطفال، إسعاد الأمهات، الفقيرات، المسنات، الأرامل والأيتام..
هل هناك أعمق من أن نهتم بحياة أماني غيرنا، وأن يكونَ جلّ أمانينا ومساعينا ألا تموت أمنياتهم؟