لدرس يحتاج إلى التشويق..!
لذا فقد قررت أن أبحث عن التشويق، أذهب للفصل، أنظر إلى حوائطه صماء باردة لا تحكي ولا تتكلم، لا تعبر ولا تصور. أتأملها عل ذرة من تشويق علقت بها، أستخدمها منكها للدرس، لكني لا أجد، أنظر تحت مقاعد وطاولات الطالبات، عل جرما من تشويق كمن تحتها، لكني عبثًا أحاول..
الكتاب، المقرر، المنهج، مؤكد أنه أم التشويق وأبوه، أفتحه على عجل: أسطر متراصة، سوداء لا شية فيها، طباعة بائسة، ومعلومات ناقصة، مضامين كئيبة، وموضوعات حزينة «رثاء وبكاء، ومآسي العالم الإسلامي، معارك وقتال، وحروب وخصومة، مدح منافق كاذب، حكم باهتة ونصائح بائتة» وكلها من أموات! لا يجدر بالأحياء أن ينطقوا أو يقولوا شيئا، إنهم يصمتون ليتكلم الأموات، لا يوجد في الأحياء من هو جدير بسماع قوله، لأن الجميع سيختلف عليه، لكنه إن مات حظي بالإجماع والتكريم.
قالوا قديمًا وحديثًا: (إن الأدب مرآة الحياة) ولكن أي حياة يعكس الآن! الأوائل أو قدماؤنا عكسوا حياتهم بكل صدق وإخلاص وتجرد! وها نحن نجتر حيواتهم، وننفي حياتنا!.
هل وجود الآخر يقتضي نفينا، وهل وجودنا يقتضي نفيهم؟! ليست معادلة صائبة، هي خطوات ولبنات، يكمل بعضها بعضًا، سلم وأهرام تُبنى حجرًا حجرًا، لكن ما بالنا نرمي أحجارنا، ونثبت أحجارهم ؟ لن يكتمل البناء مادام هذا حالنا مع لغتنا، ستظل مبتورة عنا مفصولة عن إداركنا، إلى أن تدخل حيز إحساسنا ومملكة فكرنا، نحن نحن أبناء العصر الحديث..ونتخلص من عقدة الأوائل والأواخر..
وما زلت أبحث عن التشويق الموصى به..كل ما سبق، كان قد يشفع له عرض بأسلوب مشوق، ملون مزده، كعجوز تصبغ وجنتيها، وتلون شعرها، طلبا للحياة، لكن مناهج لغتي، حتى الحياة لا تطلبها ولا تتطلبها، لكنها تطالب الجميع أن يحيا بها!
أنظر إلى ذاتي، لاشك أنني أستطيع أن أكون مصدرًا لبعث التشويق - المنصوح به بشدة - كيف لا، وأنا معلمة المادة الجهبذ، خبيرة النحو واللغة والأدب، ولكن أنى لي أن أرسل تشويقا لم أحظ به، وحماسة لم أشعر بها، هل أمثل، أكذب وأخادع، أقول: يالروعة القصيدة ويالعظمة الشاعر! وأنا أغص بهما!. وما أبسط قاعدة النحو هذه! وما أجمل درس البلاغة ذاك! وأنا أقمع المقت في داخلي لشدة تعقيدها وسوء عرضها!
وكيف أنفصل عن أعباء تطاردني خارج الفصل وداخله، وأول الدوام وآخره، كلها تطلب إنجازا أشبه بالإعجاز، وجميعها تأخذ بتلابيب فكري وجهدي وصحتي، وإن سقط بعضها مني سهوًا أو عجزًا، فلا أجد معينًا أو شفيقًا متفهمًا أو رحيمًا. ولا أجد إلا نبرة واحدة مكرورة: هذا هو عملك، فلا تتذمري، وهذا هو قدرك فلا تتشكي! وأقول سمعًا وطاعة! لكن لا تطلبوا مني حماسة ولا تنتظروا مني تشويقا، ولا تبحثوا لدي عن إبداع!
ولكن ما زال لدي أمل أن أجد التشويق - الموصى به بشدة - إما أنا وإما التشويق!
قالوا التشويق في استخدام حديث التقنية، وجديد الأجهزة، قلت أنى لنا ذلك؟ في فصول غير مجهزة وقاعات غير مهيأة، قالوا جربي ولن تخسري، وكل جهد إضافي منك احتسبيه، وكل مال تنفقينه عند المولى ادخريه، قلت: الله المستعان على ما تصفون!
وبذلت وسع الطاقة في إيجاد أجهزة حديثة تستخدم مع مناهج غير حديثة، (فلا يصلح العطار ما أفسد الدهر)، أدخلتها الفصل، وقبلها مكثت ساعات أدخلها في الدرس إدخالا، وأقحمها في الموضوعات إقحاما، علها تدخل جوا من البهجة وبعضا من التشويق!
وبدأت رحلة التوصيل والتشبيك، والتمديد والتسليك، حتى أصبح الفصل ورشة، وضاع من الوقت نصفه، ومع ذلك أبى ذلك الجهاز واستكبر أن يكون مع الطائعين، وانضم إلى فريق الظالمين! ثم أكملت درسي بالطريقة التقليدية التي تزعج طالبي التشويق وتربك مريدي التجديد..!
قلت: ها أنا أعذرت لنفسي أمام نفسي، وبرئت من لوم ذاتي، فقد عملت بالنصيحة، وأخذت بالمشورة، لكن هيئوا لي بيئة تعليمية وفصولاً ذكية، وبعدها طالبوا بما شئتم، واكتبوا ما أردتم!
عندها يئست من رحلة البحث عن التشويق، فما كان مني إلا أن أخذت قصاصة من ورق وسطرت فيها، للمطالبة بالتشويق: عزيزتي، بحثت عن التشويق ولم أجده، أرجوك إن وجدته داخل أسوار المدرسة، وبين جدران الفصول، أن تبعثيه لي، وأقسم لك أنني سأعزه وأكرمه، وأجله وأخدمه، ولن يغادرني أبدا مادمت حية!