لا شيء يبني كالمحبة ولا شيء يدمر كالحقد والكراهية والضغينة، لا بل إن ما تفعله المحبة والكراهية أهم وأخطر بكثير مما تفعله الأعمال والأفعال والسلوكيات النابعة من عنف أو دمار تخلفها الحروب وغيرها،
فما ينتج عن حرب يمكن أن يعاد بناؤه خلال سنة أو سنوات ولكن ما تخلفه الأحقاد والكراهية لايمحى أو تزول آثاره ربما في عقود أو قرون، والأكثر من ذلك ربما كان وقوداً لحروب وصراعات أخرى في القادم من الأيام.
ومن هنا تأتي قيمة فضيلة التسامح التي تؤنسن الحياة البشرية وتجعل الشعوب والأمم على مختلف عقائدها وانتماءاتها الثقافية والدينية والعرقية أكثر حباً وتعاوناً والعالم أكثر سلاماً.
إن في تراثنا الأخلاقي والروحي وعقيدتنا الدينية، مسلمين ومسيحيين، الكثير من الدروس والعبر والمواقف التي قد تصل إلى درجة العقيدة تحثنا على المحبة والتسامح والتعامل الإنساني مع الآخر مهما كان مخطئاً أو مجرماً، ففي التنزيل الإلهي على قلب الرسول العربي محمد عليه الصلاة والسلام ورد النص القرآني (فكأن الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) وجاء على لسان السيد المسيح: (أحبوا مبغضيكم)، وإذا وضعنا النصوص الدينية جانباً هناك الكثير من الأمثلة العملية في تراثنا الديني تؤكد فضيلة التسامح، ولعل موقف الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مع أهل مكة عند الفتح هو المثال الحي على ذلك، فعلى الرغم مما لقيه هو وأصحابه منهم من صنوف العذاب وهم في حالة قوة وأصحابه في ضعف إلا أنه عند الفتح وبعد تمكنه منهم سألهم: ما عساني فاعل بكم، فأجابوا: أخ كريم وابن أخ كريم، فقال كلمته المشهورة التي ربما كانت أول قانون عفو في تاريخ الإنسانية: «اذهبوا فأنتم الطلقاء».
مثال آخر في فضيلة التسامح جاء على لسان السيد المسيح عليه السلام فأثناء جريمة صلبه كان أبناء الشعب وهي التسمية الواردة في النص الديني يرددون يا أبت ادع عليهم فكان جوابه: يا أبت اغفر لهم فإنهم لا يعلمون ما يفعلون.
وفي هذا الإطار يمكننا الوقوف عند قول القديس بولس الرسول: (جربوا أنفسكم هل أنتم في الإيمان ؟ امتحنوا أنفسكم).
إن بوناً واسعاً بين الإيمان وحياة الإيمان، فالإيمان هو حياة نحياها أو عقيدة تقود إلى حياة، وأبطاله ليسوا فقط من دافع عن عقيدة وإنما أولئك الذين عاشوها حياة مثمرة مفعمة بالمحبة وجعلوا منها سلوكاً لبني البشر وأحيوا فيها النفوس الميتة المكوية بنار الحقد, إن نظرة لما يجري في عالم اليوم من حروب وعنف ومحاولات تخصيب لثقافة الكراهية تقودها دول وتنظيمات وأفراد وجماعات ووسائل إعلام على مختلف ألوانها وأشكالها، تجعل العالم بكل مكوناته وقواه الحية مسؤولاً عن مواجهتها بشكل فعال وحقيقي وبكل الوسائل الفردية والجماعية، لأنها بقدر ما تشكل خطراً على بعض الدول والجماعات راهناً فإنها ستكون مستقبلاً الخطر الأكبر الذي يواجه البشرية، فالدعوات العنصرية والاقصائية هي التي كانت من أهم أسباب نشوب الحرب العالمية الثانية التي ذهب ضحيتها عشرات الملايين من البشر ولعله من المؤسف أن نرى دولاً كبرى كالولايات المتحدة الأميركية ودول أوروبا الغربية التي يفترض أن تكون معنية أكثر من غيرها بالمسؤولية في الحفاظ على الأمن والاستقرار في العالم بحكم قوتها ونفوذها هي الأكثر عبثاً فيه وعملاً على تأجيجه متخذة عناوين كاذبة لتغطية سلوكها المشين هذا كالدفاع عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، في حين أنها تشجع العنف والتوتر والانقسامات المجتمعية في أكثر من مكان في العالم خاصة في منطقتنا العربية.
إن وجود سياسات رسمية غربية تأخذ المنحى المشار إليه لا يمنعنا من الإشارة إلى أن قوى خيرة كثيرة تعمل وتسلك طريقاً آخر في تعاطيها مع كل ما يجري في بعض دول العالم، يعكس روحاً إنسانية وثابة وسعياً للخير وتكريساً لقيم التسامح، فعلى الرغم من كل ما قام به تنظيم القاعدة من أعمال إرهابية أودت بحياة الآلاف من الأميركيين وألحقت الأذى بصورة وحقيقة الدين الإسلامي والمسلمين وفي رسالة لافتة أقامت كنيسة (اسم يسوع المقدس) وهي كنيسة كاثوليكية في مدينة بالم بولاية فلوريدا الأميركية صلاة قداس الأحد 22 أيار2011 على روح خمسة أشخاص من بينهم زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن الذي قتل على يد عناصر سيلز وهي قوات أميركية خاصة، وقد فسر راعي الكنيسة واسمه هنري بورغا ذلك بقوله: إن شخصاً مثل بن لادن يحتاج إلى المغفرة والرحمة وإن تعاليم الكنيسة الكاثوليكية تحث على الحب والتسامح.
وأمام هذا الموقف الإنساني والأخلاقي يحق لنا القول: إننا أمام عالم فيه أخيار وأشرار وأن نتساءل أمام ما يجري في بعض دول العالم من سلوكيات باسم الدين إلى أي مدى يشبه المسلمون والمسيحيون جوهر ديانتهم؟.