عفوًا!.. عدل مسارك قبل سقوطك وانهيارك (2)
اليوم المفقود لا يعود: إذا فاتك قطارٌ، قد تستقِلُّ آخر، وإذا خَسِرْتَ صفقةً، قد تَرْبح غيرها، وإذا فقدْتَ ولدك قد يعوِّضك الله بأخيه، أمَّا إذا ذهب يوْمُك فمَنْ يأتيك به؟ ومن يردُّه إليك؟ ومن يعيده إليك أو يعيدكَ إليه؟! ﴿ حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 99 - 100]، بل لا تتأخر ساعة ولا تتقدَّم؛ ﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [الأعراف: 34].
الناس يلهون، والقدَرُ معهم جادٌّ؛ ﴿ وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المنافقون: 11]، وينسون وكلُّ ذرَّة من أعمالهم مَحْسوبة؛ ﴿ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [المجادلة: 6]، ويغفلون وهم مَبْعوثون ليومِ وضْعِ موازين القِسْط؛ ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [الأنبياء: 47].
ويَعْصون مع أنهم أشتاتًا سيَصْدرون، وما ارتكبوا من أعمال سيرون؛ ﴿ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 6 - 7]، ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 30].
رقائق: فاحذر أن يأخذك الله وأنت على غفلة، فقد كان السَّلَف يلْتَقون ويفْتَرقون على ثلاث كلماتٍ: مَن عمل لآخرته كفاه الله - عزَّ وجلَّ - دنياه، ومَن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومَن أصلح سريرتَه أصلح الله علانيته.
يَحْكي محمَّدُ بن الْمُنكَدِر عن عِقابِ تَميمٍ لنفسه إذْ نام عنْ صلاة اللَّيل مرَّة، فيقول: "نام تَميمٌ الدَّاريُّ ليلةً لَم يَقُم فيها يتهجِّد حتِّى أذان الصُّبح، فقام سنةً كاملة لم ينَمْ فيها عقوبةً للذي صنع"؛ عام كامل بليلةٍ واحدة!
وقال أحد السَّلف: ما زِلْتُ أسوق نفسي إلى الله، وهي تبكي، حتَّى سُقْتُها وهي تضحك.
وقال عون بن عبدالله: قلب التائب بِمَنْزلة الزجاجة، يؤثِّر فيها جميعُ ما أصابَها.
فالموعظة إلى قُلُوبهم سريعة، وهم إلى الرِّقة أقرب، فدَاوُوا القلوب بالتوبة؛ فلَرُبَّ تائبٍ دعَتْه توبةٌ إلى الجنة حتَّى أوفدَتْه عليها، وجالِسُوا التوَّابين؛ فإن رحمة الله إلى التوابين أقرب؛ قال تعالى: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 31].
قال إبراهيم التميميُّ: مثلت نفسي في الجنة، آكل من ثِمارها، وأشرب من أنهارها، وأُعانق أبكارها، ثم مثلتُها في النار آكل من زَقَّومها، وأشرب من صديدها، وأُعالج سلاسِلَها وأغلالَها، ثم قلتُ لنفسي: يا نفسي، أي شيءٍ تُريدين؟ قالت: أريد أن أُرَدَّ إلى الدُّنيا فأعملَ صالِحًا، قال: فأنتِ في الدُّنيا، فاعملي.
إنَّها طريقةٌ اتَّخذَها الرجل في إيقاظ نفسه، وإن شئت فقُل: في إحياء ضميره! لقد خيَّل المتوقَّع واقعًا، والغائب حاضرًا، ثم قال لنفسه بعد أن عرض عليها بصورتين: تخيَّري واعملي... من كتاب "الإيمان والحياة".
عن حنظلة الأسيديِّ وكان من كُتَّاب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه مَرَّ بأبي بكر وهو يبكي، فقال: ما لكَ يا حنظلة؟ قال: نافَقَ حنظلةُ يا أبا بكر، نكون عند رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يذكِّرنا بالنَّار والجنة كأنَّا رأْيَ عيْن، فإذا رجعنا إلى الأزواج والضَّيعة نسينا كثيرًا، قال: فو الله إنَّا لَكذلك، انطلِقْ بنا إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فانطلَقْنا، فلمَّا رآه رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((ما لك يا حنظلة؟)) قال: نافق حنظلةُ يا رسول الله؛ نكون عندك تذكِّرنا بالنار والجنَّة كأنَّا رَأْيَ عين، فإذا رجعنا عافَسْنا الأزواجَ والضَّيعة، ونسينا كثيرًا، قال: فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لو تَدُومون على الحالِ الذي تقومون بِها من عندي لصافحَتْكم الملائكةُ في مَجالسكم وفي طرُقِكم وعلى فرُشِكم، ولكن يا حنظلة ساعة وَساعة وساعة))؛ صحيح الترمذي، والساعة هنا لا تُصْرف في معصيةٍ، وإنَّما أيضًا في طاعة.
قابل الفُضَيلُ بن عياض رجُلاً بلغ من الكِبَر عِتيًّا، فسأله: كم عمرك؟ قال الرَّجل: سِتُّون عامًا، قال الفضيل: توشك أن تَصِل إلى الله، قال الرجل: إنَّا لله وإنا إليه راجعون، قال الفضيل: هل عرفْتَ معناها؟ قال: نعم، إنِّي لله عبْد، وإني إليه راجع، قال الفضيل: إذا عرفْتَ أنك لله عبد، وأنك إليه راجع، عرفتَ أنك مسؤول، وإذا عرفت أنك مسؤول فأَعِدَّ للسُّؤال جوابًا، قال الرجل: وما الْحِيلة يرحمك الله؟ قال الفضيل: يسيرة؛ أن تَتَّقِي الله فيما بقي، يَغفِرْ الله لك ما قد مَضى.
أيُّها الباكي على أحبابِه الأموات، ابْكِ على نفسك قبل الفوات، وحاسِبْ نفْسَك قبل الممات، تَخلَّصْ من نَزواتِ الدُّنيا والشهوات، وتأهَّب لِنُزول البلايا والآفات، وتذكَّر يوم يُقال عنك: إنَّه قد مات، وتذكَّر أن الذي أتى الماضين قد أتاك، يوم تنطق جوارِحُك ويسكت فاك؛ ﴿ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [يس: 6]، ولو سألْتَهم: لِمَ شهِدْتُم علينا؟ قالوا: الأمر عند الذي أماتَك وأَحْياك، ﴿ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [فصلت: 21].
جاء رجلٌ إلى أُمِّ المؤمنين عائشة، فقال: إنَّ بِي داءً، فهل عندك دواء؟ فقالت: ما الدَّاء؟ قال: القَسوة، قالت: "بئس الدَّاء داؤك، يا هذا، عُدِ الْمَرضى، واشْهَد الجنائز، وتوقَّع الموت".
وقال ابْنُ عونٍ الْمِصريُّ: أما يَسْتحِي أحدُكم أن تكون دابَّتُه التي يركب، وثوْبُه الذي يَلْبس، أكثرَ ذِكْرًا لله منه؟ وكان لسعيد بن جبير ديكٌ كان يقوم اللَّيل بصِياحه، قال: فلَم يَصِحْ ليلةً من الليالي حتَّى أصبح، فلم يُصَلِّ سعيد تلك الليلة، فشقَّ عليه، فقال: ما له، قطَع الله صوتَه؟ قال: فما سُمِع له صوتٌ بعدها، فقالت أمُّه: يا بُنَيَّ لا تدْعُ على شيءٍ بعدها.
اقترب الحساب، ومع ذلك أعرضَت النُّفوس، ولعبت العقول ولَهَتِ القلوب، كيف؟ ﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِم مِنْ ذِكْرٍ مَنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ.. ﴾ [الأنبياء: 1 - 3].
عدِّل المسار، وإلاَّ الانْهيار: إذًا عدِّل مسارك وأنت في الطريق إلى ربِّك، إنَّه طريق وعر وطويل، تتخلَّله أشواكٌ، وتَظْهر عليه شدائد ونكبات، وتتناوله مكارِهُ وعقبات، ((حُفَّت الجنة بالْمَكاره، وحُفَّت النار بالشَّهوات))؛ صحيح الترمذي؛ لذلك قالت ابنة الربيع بن خُثَيم: يا أبتاه، ما لي أرى النَّاس ينامون، ولا تنام؟ قال: إنَّ جهنَّم لا تدَعُني أنام.
عدِّل مسارَك قبل أن يأتيك يومٌ لا مردَّ له من الله: ﴿ اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ ﴾ [الشورى: 47].
عدِّل مسارك بالاستقامة على طريق الله قبل أن تتفرَّق بك السُّبل: ﴿ وأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 153].
عدِّل مسارك بالتَّقوى تؤسِّسْ بنيانَك، وإلاَّ كان السُّقوط والانْهيار؛ ﴿ أفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [التوبة: 109].
يقول يَحْيَى بن معاذ: إِلَهي، كيف أفرح وقد عصيْتُك؟ وكيف لا أفرح وقد عرفْتُك؟ وكيف أدعوك وأنا خاطئ؟ وكيف لا أدعوك وأنت كريم؟
اللهم امْنَحنا التَّقوى، وجَمِّلنا بالعلم، وزينَّا بالْحِلم، اللهم استعمِلْنا في طاعتك، ولا تُذِلَّنا بمعصيتك، اللهم ثبِّت قلوبنا على دينك، وصرِّف قلوبنا على طاعتك، اللهم اشرح صدورنا، وأحسِن ختامنا وجَمِّل خلاصنا، اللهم اجعلنا مع النبيين والصِّدِّيقين، والشُّهداء والصالِحين، وحَسُن أولئك رفيقًا، اللهم ارزقنا الإخلاص في القول والعمل، ولا تجعل الدُّنيا أكبر هَمِّنا ولا مبلغ علمنا، وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلِّم،
والحمد لله ربِّ العالمين.
:الله سبحانه وت :الله سبحانه وت :الله سبحانه وت :الله سبحانه وت :الله سبحانه وت :الله سبحانه وت :الله سبحانه وت :الله سبحانه وت :الله سبحانه وت :الله سبحانه وت