تَحْمِلُ
السماءُ تحتَها سَحبٌ جميلاتٌ مُبْهِراتٌ سائراتٌ ، و أحياناً تكون على
العَكسِ تِمَّاً و كمالاً ، في لحظةٍ تأمُّلِيَّةٍ لتلك السُّحُبِ ، و التي
تمرُّ في جوِّ السماءِ ، أَوْحَتْ إليَّ هُتافاً صامتاً ، فنقلته حديثاً
صائتاً ، فكلانا كانَ رَسُولَ المعنى باختلافِ المبنى
أَوْحَت السُّحُبُ :
إنَّ مسيرتي في السماءِ أكسَبَتني الكثيرَ من الخِبَرات ، و أنالتني العديد
من العِبَرِ في هذا الكونِ ، فلستُ أمرُّ على شيءٍ دون أجد فيه أثراً أو
أُحدِثَ فيه أثراً ، فلن يكون ذلك لي إلا بعد أن أُنَوِّعَ جِهاتي ، و
أُعدِّد مسيري ، فبكثرةِ تلك المساراتِ و تنوُّعِ الجهاتِ تحدثُ عندي
تنوُّعاتِ الرؤى و التوجهاتِ ، و لو كنتُ قاصرةً نفسي على محلٍّ واحدٍ
لملَلتُ نفسي ، لتَكرارِ الشيء ذاته عليَّ ، و هكذا كلُّ مخلوقٍ ، إن بقيَ
على حالٍ و في محلٍّ لا يُغادرُ و لا يُجاوِزُ فإنَّ نظرته تكون مقصورةً ، و
المقصورُ محصورٌ .
تلك المسيرةُ السماويةُ على البِقاعِ الأرضية جعلتني ألبسُ لكلٍّ أرضٍ
لباسَها اللائقَ بها ، فلا أجعلُ لأرضٍ ما لأخرى ، و هذه من صنائعِ الحِكمة
الربانيَّة ، و ذلك اللباسُ مَظهرٌ لجوهرٍ ، فالجوهرُ معرفةُ الأرضِ وما
تحتاجه منّي ، و كذلكَ يَعني جوهراً آخرَ و هو اعتباري معرفةَ الناسِ و
أحوالهم ، فلو لم أعرف شيئاً من أحوال الأراضي و أهلها ، لوقعتُ في الظلمِ
القبيحِ للكلِّ ، و الشريفُ لا يَظلمُ أحداً ، و إن كانَ فزَلَّةٌ لا
قَصْداً ، و لكَ أيها الإنسانُ أن تأخذَ هذا ، فبمعرفتك أحوال البلاد و
العبادِ تَعرفُ كيف تقوم بالتعامُل اللائقِ ، و حين تغفلُ أو تَجهَلُ ذلكَ
فإنَّك ستقع في الخللِ ، و لن تعرِفَ ذلك إلا بفتحِ آفاقِ عقلك لاكتسابِ
القدرِ الكبيرِ من المعرفة البشرية
حينَ تَعرفُ ذلكَ ، تُدرِك سِرَّ تغيُّري تجاه الأرضِ ، فمرةً أجيءُ بيضاءَ
ذات مطرٍ و غيثٍ ساقٍ مُنْبِتٍ ، لاستحقاق الأرضِ و أهلها ذلكَ ، حيثُ
الطُّهْرُ و الصِدْقُ ، و لو في ذواتهم ، و أجيءُ أُخرى سوداءَ ذاتٍ رُعودٍ
مُوْجِعة و بُروق مُفزِعةٍ ، حيث تناسُبُ حالي مع ما اعترى الأرضَ و أهلها
، و لم أجيءَ يوماً لأرضٍ بخلافِ ما استحقَّتْه ، لعلمي بما يُناسبُها ، و
ذلك تقديرُ عزيزٍ علمٍ ، فقد ألهمتُكَ سِراً فاحفظه
تابعٌ لذلك ، أنني ألحَظُ حالَ الزمانِ تماماً كما ألحظُ حال الذات و
المكان ، فإدراكُ الشيءِ من جهاتٍ و أبعادٍ كثيرةٍ يفضي بي إلى الثقةِ بما
أصنعه ، و صنيعي حُكمٌ ، و الحكمُ مبنيٌ على معرفةٍ تامةٍ ، و التقصيرُ
إخلالٌ و إفساد ، فاضبط ذلك تَغنم .
أسيرُ وحيدةً مراتٍ ، و أُخْرياتٍ مع جماعةٍ ، فأُوازِنُ في حالَيْ المسيرِ
في طريقي ، فوحدتي لحاجة نفسي لاختلاءٍ ذاتيٍّ ، و لتحقيقِ اعتمادي على
نفسي ، فلو بقيتُ في رابطةِ المسيرِ مع الجماعة طولَ مسيري لما كنتُ منجزةً
شيئاً لوحدي ، فأُهْلِكُ رُوحي و أهدم قُدُراتي ، و هذه جنايةُ جُرْمٍ على
ذاتي ، و لا أنعزلُ تماماً عَن الجماعةِ ، و بلا الجمْعِ ما كانَ الجمْعُ ،
فلزومُ الصِحابِ في مملكةِ السحابِ يَعني أُلْفَةً و تعاوناً ، و
الانفرادُ يَعني إدراكاً لوظيفة الذاتِ بناءً و اعتماداً ، و النأيُ في
وَقتِ اللَّمِّ جُرمٌ ، كما الجمعُ في حالِ التفرُّدِ ظُلمٌ ، فلكلِّ حالٍ
محلُّها
أُعطي الأرض و أهلَها طَهورَ مائي الذي أحملُه ، فلا أحملُ مما يأتيني إلا
طاهراً ، و لا أعطي إلا طهوراً ، فما أقتني شيئاً إلا و يُفيدني ، و لا
أعطي إلا ما يفيد ، فما يخرجُ مني أُحمَد عليه و به ، و ذا ذاتُه ما يجبُ
أن تكونَه ، فلا تجمَعَنَّ مما يَرِدُكَ إلا ما هو نافعٌ لك ، و لا تُعطِ
غيركَ إلا ما هو نافعٌ ، و لا تكون فيهما مُدركاً النفعَ إلا بصدقِ
الانتقاءِ و سلامة النقاءِ ، فكلُّ ما يخرجُ منكَ يَحكي عنكَ .
و تارةً يكون ما أُعْطِيهِ جامداً قاسياً ، و لكنَّه طيِّبٌ في أثَره ،
ليكون ذلك قانوناً في أنَّ الإعطاءَ ليس نَسَقاً واحداً ، فعلى قَدرِ
المُعطى يتنوَّعُ الإعطاءُ ، و جوهرُ المُعطى واحدٌ ، فلا يتخلَّف جوهرُ
عطائكَ يا صاح
هذا شيءٌ من عملٍ أقومُ به ، فلأُحدِّثُكَ عن شأنِ صفاتي ، لتكون على
بيِّنةٍ مما غابَ عنك سِرُّ جوهرِه ، و التهاؤك بالأرضِ و أعمالها و
أحوالها جعلَك في معزلٍ عن إدراكِ ما اعتلاكَ ، فإليكَ :
أبدو في كثيرٍ من الأحيانِ بيضاءَ اللونِ ، و ناصعةَ ذاك البياضِ ، لكوني
صادقةً في حالي مع نفسي ، فلم أُدنِّس يوماً حالي بأن كنتُ وضيعةَ الحالِ و
الشأن ، بل سَموتُ و ارتفعتُ في علياءِ الكونِ ، و كلُّ روحٍ سَمَت و
اعتَلَت فلها أن تكون ذات بياضٍ ، و ذاك البياضُ يُلبسني رونقاً و بهاءً
فأغدو في كلِّ أحوالي جميلةً حسنة المنظرِ و الصورةِ ، مما جعلني في ممادح
أهل الأشعارِ و الآثار ، و حين كنتُ في تلك الصفةِ كنتُ على الناسِ ظلاً
وارفاً ظليلاً طائفاً ، أقيهم الحرَّ في الصيفِ ، و أكون ، أيضاً ، صاحبةً
أنيسةً في الأسفارِ ، فكنتُ مأمونةً لديهم فلا يجيئهم مني خوفٌ و لا رُعبٌ ،
و لا تكون هذه إلا لمن كان البياضُ صفة له ، فلتَكُن سماويَّ الروحِ و
الذاتِ ، لتَسموَ أفعالك و تكون في بياضٍ ناصعٍ يُدركُه بعينِ قلبِهِ كُلُّ
مَن رامَ مُشابَهتَك و رام سماءك
و لو كنتُ سوداءَ ، حالكةً في سوادي ، لما أريتُهم مني إلا رُعباً و خوفاً ،
و لما وقيتهم حرَّ الشمسِ ، و هذا سارٍ ، صاحبي ، في كلِّ مخلوقٍ مألوفٍ ،
فلم يُؤلَف إلا لما كان عليه من بياضِ الجوهرِ ، و اعتبر الجوهرَ لا
المظهر ، فإنني لست إلا صورة لجوهرٍ ، و لذلك حَكَوتُ أسراراً لكَ ما كنتَ
تدريها قبلُ ، فَعِ يقيناً أيها السامي احاديث مرور السحاب