أ.د محمد عبد العليم الدسوقي
الأستاذ بجامعة الأزهر بالقاهرة
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد:
فما جرى ظهر الخميس 5/ 5/ 2011 من تظاهرة لبناتنا وأخواتنا المنتقبات الفضليات أمام مشيحة الأزهر تطالبن فيها بالحرية الشخصية في ارتداء النقاب باعتباره واحداً مما أمر الله سائر نساء المؤمنين.. وذلك على إثر قرار اتخذته الإدارية العليا بمنعه في بعض الحالات، وعلى إثر واقعة جرت قبل ذلك مع فضيلة شيخ الأزهر السابق سامحه الله، استنكر خلالها – وإبان تفقده والوفد المرافق له لبعض المعاهد الأزهرية – على إحدى الفتيات ارتداءها النقاب، وقال كلاماً لا يليق بمقامه ولا يجوز التفوه به أو الإفصاح عنه.. وكلاماً شبيهاً به ذكره فضيلته قبل ذلك أثناء زيادة (ساركوزي) رئيس فرنسا حالياً والذي أضحى بعدُ، حرباً على النقاب في بلده، ووصل الأمر به لحد أن أقر عقوبة من تلبسه: غرامة 150 يورو، وعقوبة من يدعو إليه: السجن لمدة عام أو غرامة 15 ألف يورو.. وعلى إثر ما أعقب كل ذلك من عمل كتاب تبنته وزارة أوقاف النظام البائد يعتبر النقاب عادة وليس عبادة.
أقول: إن كل تلك الاعتبارات تستوجب القول بأن هذه حرب استقوت على أمر من أوامر الله واستندت على دعاوى باطلة.. ذلك أن ما يتردد كثيراً حيالها من أن النقاب مجرد سنة أو عادة وأن فقهاء المذاهب قد اختلفوا بشأنه، ليس صحيحاً بالمرة، وليس هذا تشدداً كما يحلو للبعض أن يصوره، وإنما هو حكم شرعي ربما يغيب عن كثيرين.. فالآية الكريمة: (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين.. الأحزاب/ 59)، نص عام وصريح في فرضيته، ذلك أن أحداً من أهل العلم لا يستطيع أن ينكر فرضيته على نساء وبنات النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا دلالة لعطف نساء المؤمنين عليهن سوى مشاركتهن لهن في الحكم والعلة.. وكان يمكن أن يَسْلم للمدَّعين أن الأمر من الله في الآية جاء بالاكتفاء بما يستر العنق والرأس، أو بإدناء الجلباب وفقط دون ما شيء آخر – كما قال بذلك بعض علمائنا المعاصرين – لو لم يأت قوله: (عليهن) التي لا دلالة لها سوى تضمين الفعل قبلها معني: (يُرخين)، ولو لم يأت حرف (من) الذي هو للتبعيض، والذي يعني كما ذكر غير واحد من المفسرين: أن المرأة تتغطي ببعض جلبابها وتتلفع ببعض، والمراد: يرخين بعضأ من الجلباب على الوجوه إذا خرجن لحاجتهن.. يقول صاحب البحر المحيط: "(مِن) في (من جلابيبهن) للتبعيض، و(عليهن) شامل لجميع أجسادهن، أو (عليهن): على وجوههن لأن الذي كان يبدو منهن في الجاهلية هو الوجه".
كما جاء الأمر بوجوب النقاب عاماً وصريحاً في قول الله تعالى: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن.. النور/ 31).. فقد أمرن بستر ما بين الرأس والصدر وهما الوجه والرقبة، وإنما لم يُذكر هنا للعلم بأن الضرب بالخمار على الجيب، لا يعني سوى تغطيهما.
وقد فطن لهذا وذاك، نساء الصحابة من الأنصاريات والمهاجرات، تحكي حال الأوليات منهن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فتقول كما في رواية أبي داود وعبد الرزاق: "لما نزلت هذه الآية (يدنين عليهن من جلابيبهن.. الأحزاب/ 59)، خرج نساء الأنصار كأن على رءوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها).. وفى رواية أبي داود وابن مردويه من طريق عائشة: (شققن مروطهن فاعتجرن بها فصَليْن خلف رسول الله كأنما على رءوسهن الغربان)، ولا يتأتى تشبيههن بالغربان إلا مع سترهن وجوههن بفضول أرديتهن بحيث لا يُرى منهن شيء.. كما تحكي حال الأخيرات، عائشة زوج النبي أيضاً، فتقول فيما أورده البخاري في صحيحه تحت باب (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) (4758): يرحم الله النساء المهاجرات الأول، لما أنزل الله (وليضربن بخمرهن على جيوبهن .. النور/ 31) شققن مروطهن فاختمرن بها، وفي رواية أخرى له عن عائشة أيضاً: (أخذن أُزرَهن فشققنها من قِبل الحواشي فاختمرن بها).. وفي رواية للطبري في تفسير الآية: (شققن البُرَدَ مما يلي الحواشي فاختمرن بها)، وفي أخرى له: (شققن أكثف مروطهن فاختمرن بها)، قال الحافظ ابن حجر 8/ 347: "قوله: (فاختمرن) أي: غطين وجوههن".
ولنا أن نتصور تفاصيل ما جرى، لنتأمل صدق وقوة إيمان الفضليات من النساء الأُوَل وتنافسهن في تنفيذ هذا الأمر الوجوبي، وذلك فيما رواه ابن أبي حاتم من طريق صفية بنت شيبة، قالت: بينا نحن عند عائشة فذكرنا نساء قريش وفضلهن، فقالت عائشة: إن لنساء قريش لفضلاً، وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار؛ أشد تصديقاً لكتاب الله ولا إيماناً بالتنزيل، لمَّا أنزلت سورة النور: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله عليهم فيها، ويتلو الرجل على امرأته وبيته وأخته وعلى كل ذي قرابته، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل فاعتجرت به تصديقاً وإيماناً بما أنزل الله من كتابه، فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم معتجرات كأن على رءوسهن الغربان".
ومعلوم أن إجماع الصحابة والصحابيات – فضلاً عن صريح القرآن – حجة لا يصلح معهما القول أن الأمر في النقاب مجرد عادة وأنه قد خرج عن حد العبادة، إذ كيف لا يرقى لدرجة العبادة وفيه امتثال وانصياع لما في صريح القرآن ولما أقرته السنة المطهرة؟ وكيف يكون عادة والعادة في الجاهلية تركه وإبداء الوجه كما جاء في عبارة أبي حيان السالفة الذكر؟.
كما فهم المفسرون ذلك أيضاً، وقد حكاه عنهم د. وهبة الزحيلي صاحب (التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج) حيث قال في 22/ 106: 110ما نصه: "قد اسُتدل بالآية – آية الأحزاب – على لزوم تغطية وجه المرأة، لأن العلماء والمفسرين كابن الجوزي والطبري وابن كثير وأبي حيان وأبي السعود والجصاص والرازي، فسروا إدناء الجلباب بتغطية الوجوه والأبدان والشعور، عن الأجانب أو عند الخروج لحاجة"، وكلام غيرهم لا يخالفه، وقد جمعت في كتابي (فصل الخطاب في ترجيح أدلة النقاب) التي قامت بطبعه مشكورة دار اليسر، ما يقارب الستين قولاً، كل أصحابها يقول بذلك.. وعليه فما قيل من أن علة الإدناء، هي: أن يُميزن عن الإماء – كذا على إطلاقه – وليس ثمة، فلا وجوب.. كلام غير صحيح بالمرة، بدليل ما جاء في كلام بعض المفسرين كابي حيان من "أن الظاهر أن قوله: (ونساء المؤمنين) يشمل الحرائر والإماء، والفتنة بالإماء أكثر؛ لكثرة تصرفهن بخلاف الحرائر، فيحتاج إخراجهن من عموم النساء إلى دليل واضح"، وكذا ما جاء في عبارة ابن تيمية في (تفسير سورة النور) ونصها: "وكذلك الأمة إذا كان يُخاف بها الفتنة، كان عليها أن ترخي من جلبابها وتحتجب، ووجب غض البصر عنها ومنها".. الأمر الذي يؤكد أن العلة إنما تكمن في التمييز بين الحرائر وبين المتبذلات من أهل الجاهلية اللواتي كن يعرفن بالسوء، كما نص على ذلك ابن جزي في التسهيل، يعني قريباً مما هو عليه حال المتبرجات الآن.
يقول الحافظ ابن كثير 3/ 535: "يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمر النساء المؤمنات – خاصة أزواجه وبناته لشرفهن – بأن يدنين عليهن من جلابيبهن ليتميزن عن سمات الجاهلية وسمات الإماء" ثم ساق في ذلك أثري ابن عباس وعبيدة السلماني القاضيين بذلك.. وبنحوه فعل فضيلة شيخ الأزهر أحمد مصطفى المراغي ت 1945 حيث قال بعد أن ذكر آية الإدناء: "طلب سبحانه من نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر النساء المؤمنات المسلمات وبخاصة أزواجه وبناته، بأن يسدلن عليهن الجلابيب إذا خرجن من بيوتهن ليتميزن عن الإماء، روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: (أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة)".
ويفهم من كلامه أن لابن عباس في تغطية الوجه رأيين، أحدهما: ما سبق وهو الموافق لرأي ابن مسعود، والثاني وهو المشهور عنه وفيه يرى أن المستثنى من التغطية في (إلا ما ظهر منها): الوجه واليدين.. وفي التوفيق بينهما يقول ابن تيمية في الفتاوى22/ 110 وفتاوى النساء ص28: " قبل أن تنزل آية الحجاب كان النساء يخرجن بلا جلباب، يرى الرجال وجهها ويديها، وكان إذ ذاك يجوز لها أن تُظهر الوجه والكفين، وكان حينئذ يجوز النظر إليها لأنه يجوز لها إظهاره، ثم لما أنزل الله آية الحجاب بقوله: (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن) حُجب النساء عن الرجال.. وقد حكى عبيدة وغيره أنها تدنيه من فوق رأسها فلا تُظهر إلا عينها، ومن جنسه النقاب – فكن النساء ينتقبن، وفي الصحيحين: (إن المحرمة لا تنتقب ولا تلبس القفازين)، فإذا كن مأمورات بالجلباب وهو ستر الوجه أو ستر الوجه بالنقاب، كان حينئذ الوجه واليدان من الزينة التي أمرت ألا تَظهر – يعني فيما عدا الإحرام عند أمن النظر إليها – للأجانب.. فابن مسعود ذكر آخر الأمرين، وابن عباس – يعني في رواية استثناء الكف واليدين – ذكر أول الأمرين"، وهكذا هو الحال في التوفيق بين روايتي ابن عباس.. وهذا هو الحق الذي يجب أن يصار إليه، ذلك أن الجمع بين قولي الصحابيين وبين رأيي الصحابي الواحد المختلفين أولى.. ويؤيد ما سبق أن ما صح من الأحاديث والآثار التي تفيد إظهار الوجه، إنما كان ورودها قبل نزول آية الحجاب في السنة الخامسة للهجرة، أو كان عن إظهار بدون عمد أو كان لضرورة أو لعذر شرعي كخطبة ونحوه.
على أنه لا خلاف لدى فقهاء المذاهب الأربعة على وجوب تغطية الوجه للمرأة، وإنما نشأت إشكالية الخلاف فيما بينهم، فيما ساقه البعض مما كان حديث الأئمة فيه عن عورة الصلاة، إذ فيها يجوز للمرأة كشف وجهها ويديها، فحمل هذا البعض ولا يزالون، كلام الأئمة الذي تكلموا فيه عن حدود عورتها في الصلاة، على أنها هي عينها حدود عورتها خارج الصلاة، وهذا من الخطأ بمكان.. وعلى الافتراض جدلاً أن ثمة خلافاً، فإجماعهم على وجوب ستر الوجه عند عدم أمن الفتنة، ولا أظن أحداً يخالفني الرأي أن هذا ما ينطق به حالنا، نسأل الله العفو والعافية.. والله تعالى أعلى وأعلم.