الحلقة الاولى
قلم د.عبدالمطلب بن أحمد السح
لطالما احترمت الحذاء، و لكنني في ذلك اليوم احترمته أكثر ، كنت في العيادة عندما سمعت طفلاً يبكي ، و أمه تحاول إسكاته ، دخلا العيادة ، فحصته ، كتبت الوصفة ، لم يكن المرض يبكيه، كان هناك سبب آخر ، سألت الأم ، أجابتني : لا شيء يا دكتور ، الأولاد هكذا ، أنت تعرف ، شعرت أن كرامة نفسها منعتها من الإفصاح عن الحقيقة ، مددت يدي إلى تفاحة كبيرة و ناولته إياها ، فاجأني بقوله : أريد حذاءً أبيض ، خجلت الأم و حاولت نهره ، ابتسمتُ ، و قلت لها : يا أم ماجد أنا مثل أخوكم ، و ماجد مثل ابني ، قالت : يا دكتور أنت تعرف العين بصيرة و اليد قصيرة ، قلت لها : لا تكملي يا أم ماجد ، تعالي يا فاطمة - ناديت على ممرضتي - ، و قلت لها : اليوم بعد نهاية الدوام ستأخذين ماجداً إلى بائع الأحذية و تشترين له الحذاء الذي يريد ، سكت الطفل على وعدي ، و حاولت أمه شكري ، و لكنني سارعت لتغيير الحديث فسألتها عن أبي ماجد و عـن صحته ، و دعتني و قلبها يزيِّن أركان عيادتي بدعاء مستجاب .
لقد كانت عائلة أم ماجد تعيش فقراً لم يستطع أن يقضم إباءها ، كان ماجد يحلم بحذاء كان يراه على واجهة محل قريب ، كان يتكلم خلال نومه قائـــــلاً : " بوط " جديد يا ماما … اليوم عيد يا بابا ، كانت أمه تتألم و تبكي عندما تسمع الحلم ينساب من بين الشفتين الرقيقتين ، أما الأب فكان يقول : لا حول و لا قوة إلا بالله ، كانت أمه تعِدُه بشراء الحذاء العيـــد القادم ، و كانت صادقة النية ، و لكن ما إن تجمع بعض النقود حتى يبدّدها جديد الأيام ، و يبقى بعيداً عيد الصغير .
في المساء ذهبت الممرضة إلى بيت الطين و الأسقف الخشبية و استأذنت سيدة دامعة العينين بأخذ ماجد ، كانت ربة البيت تقول : " يا خجـلتنا منكم ، أتعبناكم معنا ، روح الله يوفقك يا دكتور ، الله يستر عليك يا بنتي و يعطيـــــك ابن الحلال " .
ذهبت فاطمة و ماجد إلى المحل ، و صُدم الصغير عندما لم يرَ الحذاء المقصود على الواجهة ، دخلا المحل ، ركض ماجد باتجاه حذاء مركون في الزاوية يبدو أن أحد الزبائن قد جرّبه ، حمله بلهفة ، ضمه إلى صدره ، انتعله ، و صار يمشي كمن يطير ، نسي مرضه و آلامه ، حاول أن يسابق الريح لولا أن الممرضة أمسكته من يده خوفاً عليه من سيارات الطريق .
لقد كنت أعلم أن الحذاء عزيز على قلوب الأطفال ، و كنت أرى كيف أن أطفالي ينتعلون أحذيتي و أحذية أمهم و يمشون بها بسعادة لا توصف بكلام و بخيلاء طفولية يصمت أمامها البيان، كنت أعرف أن خزانة الأحذية الصغيرة قرب الباب كانت بيت الألعاب المحبب لابنتي الصغيرة، حتى أن جدار عيادتي كان يفتخر بصورة معلقة على صدره ، لقد كانت صورةَ طفلةٍ تنتعل حذاء أمها و هي ترفع ثوبها قليلاً لترى الحذاء و السرور يرسم محياها ، لكنني حقيقة لم أكن أعلم أن الحذاء قد يصبح حلماً يحتضن ما سواه .
وصل ماجد بيت أهله ، و هناك جُنَّ جنونه ، صار يرقص بالحذاء كما البلابل ، و من ثم يخلعه ليمسحه و ينظفه ، ثم يأخذه و يضعه بأناة في خزانة الملابس الخشبية اليتيمة ، و بعد ذلك يفتح الباب الذي لا يقفل ليأخذ الأمير الأبيض و يجعله يعتلي الكرسي كي يحلو له تأمله ، ثم يذهب إلى أمام باب الدار ليراه أطفال الحي ، و لا يلبث أن يعود ليجلس على سرير تكسّرت نوابضه و يمد ساقين نحيلتين يبتسم الحذاء عليهما ، و بقي على تلك الحالة حتى ساعة متأخرة من الليل ، لقد كان يوم عيد عنده و عند أهــل آخر العنقود .
لم يحاول النوم إلا بعد أن تعب حقاً ، و لكن ما إن وضع رأسه على وسادة بدون غطاء حتى نهض مسرعاً نحو الباب ذي الشقوق ، بحث عن الحذاء في الظلمة حتى وجده ، تفقّده ، و وضعه في زاوية من البيت اختارها لغاية في نفسه البريئة ، و عاد لينام ، لكنه نهض ثانية و لمس الحبيب ، و من ثم غطّاه بجريدة كانت تلعب بأوراقها رياح مندسّة عبر النافذة المخلوعة ، و عاد لينام ، أعاد الكرّة، و أمسك بالحذاء و أدناه من السرير و نام قرب الحافة و رأسه يتحرك لخارجها من حين لآخر ليدع العينين تطمئنان.
لم تعد الأم تتمالك نفسها من الضحك ، و اختلط سعال الأب بضحكاته ، و قال : الله يعطيك يا دكتور من عطاياه ، حمل الصغير الحذاء و أودعه تحت الوسادة ، و كان يجلس مراراً ليرى الحذاء ينعم بالدفء ، و من ثم وجد أنه من الأنسب أن يحتضن الحلم و ينام ، و لكنها لم تكن إلا لحظات حتى نهض و انتعل الحذاء الأبيض ، و جمع جسده الهزيل ، و مد يده لتلامس الحذاء و أخلد إلى النـوم .
_________________________________________________________
كانت هناك نملة مجتهدة تتجه صباح كل يوم إلى عملها بنشاط وهمة وسعادة، فتنتج وتنجز الكثير، ولما رآها الأسد تعمل بكفاءة متناهية دون إشراف؛قال لنفسه: "إذا كانت النملة تعمل بكل هذه الطاقة دون أن يشرف عليها أحد، فكيف سيكون إنتاجها لو عينت لها مشرفاً؟وهكذا قام بتوظيف الصرصور مشرفاً على أداء النملة، فكان أول قرار له هو وضع نظام للحضور والانصراف، وتوظيف سكرتيرة لكتابة التقارير وعنكبوت لإدارة الأرشيف ومراقبة المكالمات التليفونية
ابتهج الأسد بتقارير الصرصور وطلب منه تطوير هذه التقارير بإدراج رسوم بيانية وتحليل المعطيات لعرضها في اجتماع مجلس الإدارة، فاشترى الصرصور جهاز كمبيوتر وطابعة ليزر، وعيَّن الذبابة مسئولة عن قسم نظم المعلومات.
كرهت النملة المجتهدة كثرة الجوانب الإدارية في النظام الجديد والاجتماعات التي كانت تضيع الوقت والمجهود،
وعندما شعر الأسد بوجود مشكلة في الأداء، قرر تغيير آلية العمل في القسم، فقام بتعيين الجرادة لخبرتها في التطوير الإداري، فكان أول قراراتها شراء أثاث جديد وسجاد من أجل راحة الموظفين، كما عينت مساعداً شخصياً لمساعدتها في وضع الاستراتيجيات التطويرية وإعداد الميزانية.
وبعد أن راجع الأسد تكلفة التشغيل، وجد أن الضروري تقليص النفقات تحقيقاً لهذا الهدف،
عيّن البومة مستشاراً مالياً، وبعد أن درست البومة الوضع لمدة ثلاثة شهور رفعت تقريرها إلى الأسد توصلت فيه إلى أن القسم يعاني من العمالة الزائدة، فقرر الأسد فصل النملة لقصور أدائها وضعف إنتاجيتها..._________________________________________________________
كان هناك حمال ماء في الهند لديه دلوان كبيران وكل واحد منهما معلق على طرف السارية التي اعتاد حملها على رقبته وأكتافه. - See
كان أحد الدلوان مثقوب بينما كان الآخر في حالة ممتازة ويوصل الحصة الكاملة من الماء في نهاية الطريق الطويلة من النهر إلى منزل السيد، فيما لم يوصل الدلو المثقوب إلى نصف كمية المياه التي توضع فيه عند النهر.
استمر هذا الحال لعامين كاملين ظل الحمال ينقل خلالهما حمولة دلو ونصف من الماء يومياً إلى منزل سيده. كان الدلو الممتاز فخوراً بإنجازاته، لكن الدلو الآخر المسكين كان يشعر بالعار من العيب الذي فيه، وحزيناً لكونه لم يكن قادراً على إنجاز إلى نصف ما يفترض به أن ينجز.
وبعد عامين مما رآه ذلك الدلو فشل موجع، تحدث إلى حمال الماء ذات يوم عند النهر. "أنا خجل من نفسي وأريد أن أعتذر لك." فسأله الحمال عن سبب ذلك قائلاً: "وما الذي يخجلك؟" الدلو: "لم أقدر خلال العامين الماضيين إلا على إيصال نصف حمولتي بسبب ذلك الثقب على جانبي والذي سبب تسرب الماء إلى الخارج طوال طريق العودة إلى منزل سيدك. كان عليك أن تقوم بكل هذا العمل بسبب الشقوق، ولم تحصل على القيمة الكاملة من جهودك."شعر حمال الماء بالأسى تجاه الدلو القديم المثقوب، وقال له: "بينما نحن في طريق العودة إلى منزل سيدي، أريدك أن تلاحظ الأزهار الجميلة على طول الطريق." وبالفعل عندما صعد إلى الهضبة، لاحظ الدلو المثقوب أزهار عباد الشمس والأزهار البرية الجميلة على جانب الطريق وأبهجه ذلك قليلاً. لكنه في نهاية الأمر ظل يشعر بالاستياء لأنه سرب نصف حمولته من الماء جانباً واعتذر إلى الحمال مجدداً عن إخفاقه.فقال الحمال للدلو: "هل لاحظت أن الأزهار كانت على جانبك من الطريق فقط، ولم يكن هناك أزهار على جانب الدلو الآخر؟ ذلك لأني كنت دائماً على علم بالشق الذي لديك وقد استفدت منه. لقد زرعت بدور الأزهار على جانبك من الطريق وكنت تسقيها في كل يوم عند عودتنا من النهر. لقد كنت قادراً على قطف تلك الأزهار الجميلة لعامين لأزين مائدة سيدي. ولولا أنك كذلك، لما حظي سيدي بذلك الجمال في منزله." الحكمة: كل منا لديه شقوقه وتصدعاته الخاصة والفريدة. كل منا دلو في هذا العالم ولا شيء يضيع. قد تفكر كذلك الدلو المثقوب وتظن أنك غير فعال وعديم الجدوى في بعض المجالات في حياتك، لكن تلك التصدعات يمكن أن تتحول إلى أمور عظيمة في مجالات أخرى.