عليك بالسحر الحلال!
لسانك عدّة تدبيرك اصقله تفلح في تأثيرك
نعم، إنه اللسان، ذلك العضو بالغ التأثير. ولعلنا لا نبالغ إذا ما وصفناه ووصفنا ما يُحدثه من تأثير (عندما يتصف بالفصاحة والبلاغة والحكمة) بأنه سحر.
وهذا السحر قد يكون سحراً حلالاً وقد يكون سحراً حراماً، وذلك يعتمد على استخدامه الحسن أو السيئ. بقوّة اللسان وفصاحته ينقلب الحق (في أعين كثير من الناس) إلى باطل والباطل إلى حق، ويُعظَّم الحقير، ويقدم الجاهل الفصيح على العالم العيي.
تحسب أنه عضوٌ صغير؟ في لسانك انطوى العالم الأخطرُ!
يقول الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله مبيناً خطورة اللسان وأهميته:
(إنّ اللسان من نِعَم الله العظيمة ولطائف صنْعه الغريبة. فإنه صغيرٌ جِرْمُه، عظيمٌ طاعتُهُ وجُرْمُه، إذ لا يستبين الكفر والإيمان إلا بشهادة اللِّسان، وهما غاية الطاعة والعصيان.
ثم إنه ما من موجود أو معدوم، خالق أو مخلوق، متخيَّل أو معلوم، مظنون أو موهوم، إلاَّ واللسان يتناوله ويتعرَّض له بإثبات أو نفي. فإن كلَّ ما يتناوله العِلم يُعْرِب عنه اللسان، إمّا بحق أو باطل، ولا شيء إلاّ والعلم متناوِل له، وهذه خاصيّة لا توجد في سائر الأعضاء؛ فإن العين لا تصل إلى غير الألوان والصُّوَر، والآذان لا تصل إلى غير الأصوات، واليد لا تصل إلى غير الأجسام، وكذا سائر الأعضاء.
واللسان رَحْبُ المَيدان، ليس له مَرَدٌّ، ولا لمجاله منتهى وَحدٌّ، له في الخير مجال رحب، وله في الشرّ ذيل سحب، فمن أطلق عَذْبة اللسان، وأهمله مرخيَّ العِنان، سلك به الشيطان في كل ميدان، وساقه إلى شفا جُرُفٍ هار، إلى أن يضطره إلى البوار، ولا يكبُّ الناسَ في النار على مناخِرهم إلا حصائد ألسنتهم.
ولا ينجو من شرِّ اللسان إلا مَن قيَّده بلجام الشرع، فلا يُطلقُه إلا فيما ينفعه في الدنيا والآخرة، ويكفُّه عن كل ما يخشى غائلتَه في عاجله وآجله.
وعلمُ ما يُحمَد فيه إطلاق اللسان أو يُذمّ: غامض عزيز، والعمل بمقتضاه على مَن عرفه ثقيل عسير.
وأعصى الأعضاء على الإنسان اللِّسانُ، وقد تساهل الخلق في الاحتراز عن آفاته وغوائله، والحذَرِ من مصائده وحبائله، وإنه أعظم آلة الشيطان في استغواء الإنسان.)
لسانك عدّة تدبيرك..
اصقله تفلح في تأثيرك!
من أراد أن يصنع التأثير فعليه أن يعتني بلسانه، ويرفع من مستوى فصاحته، ويزيد من تراثه اللفظي، ويدرس النحو والبلاغة، ويتأمل قبل ذلك في كتاب الله الذي هو مصدر البلاغة والفصاحة، ويحفظ الشعر، ويطلع على النثر.
ولو تأملنا في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وكيف كان يخاطب الناس ويحاورهم ويتكلم معهم لوجدنا أنه كان يمتاز بفصاحة اللسان وبلاغة القول، وكان من ذلك بالمحل الأفضل، والموضع الذي لا يجهل، سلاسةَ طبع، ونصاعةَ لفظ، وجزالةَ قول، وصحةَ معان، وقلةَ تكلّف.
أوتي جوامع الكلم، وخص ببدائع الحكم، وعَلِمَ ألسنة العرب، يخاطب كل قبيلة بلسانها، ويحاورها بلغتها. اجتمعت له قوة عارضة البادية وجزالتها، ونصاعة ألفاظ الحاضرة ورونق كلامها، إلى التأييد الإلهي الذي مدده الوحي.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت:
(كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كلاماً فصلاً يفهمه كل من يسمعه).
اللسان ترجمان الفكر والواقع.. وصانعهما أيضاً!
من مآثر اللسان في حياة البشر
سأل رجلٌ رجلاً عن عمره قائلاً: كم سنك؟ فقال: اثنان وثلاثون، ستة عشر من أعلى ومثلها من أسفل. فقال: لم أرد هذا، أردت: كم لك من السنين؟ فقال: ما لي منها شيء، كلها لله. فقال: هذا حسن، ما سنك؟ قال: عظم. قال: ابن كم أنت؟ قال: ابن اثنين، أبي وأمي. قال: أقصد: كم أتى عليك؟ قال: لو أتى علي شيء لقتلني. قال: أرشدني، كيف أقول؟ قال: قل: كم مضى من عمرك؟
ولقد وقف هيوستن (سنة 1830) أمام الكونجرس الأمريكي يخطب خطبة بليغة لم يستعمل فيها كلمة مرتين، فسحر ألباب الرجال الذين كانوا أمامه، وكان قد نجح لتوه في تسكين ثائرة الهنود الحمر وجلبهم إلى توقيع اتفاقيات مع الحكومة، فاستدعاه الرئيس الأمريكي آنذاك وقال له: إن تكساس تتبع المكسيك، ومستقبل أمريكة متعلق بها، ولا بد من ضمها، وأريدها منك.
فقال هيوستن: نعم أنا لها، زودني بمال ورجال.
قال الرئيس: لو كان عندي مال ورجال ما دعوتك، بل تذهب منفرداً وبلا دولار واحد، وأبعث معك حارساً حتى تعبر نهر المسيسيبي وتعود.
ومع ذلك قَبِلَ هيوستن المهمة، وودعه الحارس على ضفة النهر، واندفع نحو تكساس، فلما دخل أول مدينة بها فتح له مكتب محاماة، فكان المدعي في المحكمة يخرج متهماً والمتهم بريئاً، لبلاغة وقوة لسانه، حتى انبهر به الناس فلاذوا به، فتلاعب بمفاهيمهم وأخيلتهم، وغرس فيهم معنى وضرورة الاستقلال، ثم غرس معنى الانضمام إلى الولايات المتحدة، فانضمت طواعية بالقناعات التي غرسها هيوستن.
وجاء هيوستن بعد سنوات قليلة إلى الرئيس الأمريكي وسلم مفتاح تكساس: لم تطلق طلقة أمريكية، ولم يصرف دولار. فشكره الرئيس، وخلدوا عمله بإطلاق اسمه على مدينة هيوستن التي هي الآن من أهم مدن أمريكة وعاصمة النفط فيها.
وذكر لنا التاريخ العربي أن قبيلة من قبائل العرب كانت تُسمى قبيلة (أنف الناقة) وكانت مستهجنة بين العرب لهذا الاسم، وذات يوم استضاف أحدهم الحطيئة فأكرمه ثم طلب منه حلاً لهذه المعضلة، فقال الحطيئة فيهم بيتاً واحداً من الشعر قلب فيه سمعة بني أنف الناقة رأساً على عقب، ترى ماذا قال فيهم؟ وما هي الكلمات التي نطلق بها لسانه فغير من واقع الأمر وبلغ تأثيره جميع منتسبي هذه القبيلة؟ قال:
قوم هم الأنف والأذناب غيرهُم فمن يسوِّي بأنف الناقة الذنبا؟
فكان كل واحد من أفراد هذه القبيلة يفرح أنّه منها ويفتخر بذكر قبيلته عندما يُسأل من أي قبيلة هو؟ بينما كان يتحاشى هذا السؤال من قبلُ ويتوارى من الخجل عند مواجهته، بل قيل إنه كان لأحدهم سبع بنات لم يتقدم إليهن أحد، وبعد كلام الحطيئة تسابق العرب على خطبتهن، فخُطِبْن جميعاً في يوم واحد.
احذر لسانك.. راقب سلاحك!
إن كان إطلاقه ذهباً فإمساكه إيمان
إن اللسان سلاح ذو حدين، فإما أن يرفع صاحبه إلى ذرى التأثير والمجد أو يهوي به إلى مهاوي الردى، ولذا حذر منه ونبه إليه العقلاء والحكماء عبر التاريخ.
ولقد حذّر الإسلام من الاستخدام السيئ للسان، ودعا إلى حفظه من فاحش القول وسيئ الكلام، وشجع على أن يتم استعماله فيما ينفع الناس ويحقق لهم مصالحهم الدنيوية والأخروية.
فعن معاذ رضي الله عنه قال:
قلتُ يا رسولَ اللهِ أخبرني بعملٍ يُدخلني الجنة، ويُباعدني من النار؟ قال: (لقد سألتَ عن عظيم، وإنه ليسيرٌ على مَن يسَّره الله تعالى عليه: تعبدُ اللهَ لا تُشرك به شيئاً، وتُقيمُ الصلاةَ، وتُؤتي الزكاةَ، وتصومُ رمضانَ، وتحجُّ البيتَ. ثم قال: ألا أدلُّك على أبواب الخير؟ الصوم جُنَّة، والصَّدقةُ تُطفئُ الخطيئة كما يُطفئ الماءُ النارَ، وصلاةُ الرجل من جوف الليل) ثم تلا: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} حتى بلغ {يعملون} ثم قال: (ألا أُخبرك برأس الأمر، وعمودِه، وذِرْوةِ سنامِه؟) قلتُ: بلى يا رسولَ الله، قال: (رأسُ الأمرِ الإسلام، وعمودُه الصَّلاةُ، وذروةُ سَنامِهِ الجِهادُ) ثمَّ قال: (ألا أخبرُكَ بمِلاكِ ذلكَ كله؟) قلتُ: بلى يا رسولَ الله، فأخذَ بلِسانِه ثم قالَ: (كُفَّ عليكَ هذا) قلتُ: يا رسولَ الله وإنّا لَمُؤاخذون بما نتكلَّم به؟ فقال: ((ثَكِلَتْكَ أُمُّك! وهل يَكُبُّ الناسَ في النارِ على وجوهِهِم إلا حَصائدُ ألْسنَتِهم؟)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال
(من كانَ يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ، فلْيَقُل خيراً أو لِيَصْمُتْ)