الرحمن الرحيم
الغلو الزيادة بأن تفعل شيء ما شرعه الله، هذا غلو، تقول: غلى القدر إذا ارتفع الماء بسبب النار، الغلو معناه الزيادة في غير المشروع، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- (إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين)، والله يقول -سبحانه-: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ[النساء: 171]، فالغلو الزيادة في المحبة، في الأعمال التي شرعها الله، يقال له: غلو، مثلاً تقول الله افترض علينا خمس صلوات، أنا أحط سادسة ........ وأوجبها على الناس، أنت مثلاً سلطان أو أمير تقول: ..... زيادة خير صلاة سادسة هذا ما يجوز، الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) هذا غلو، أو تقول: أنا أحب النبي -صلى الله عليه وسلم- فأدعوه من دون الله، أقول يا رسول الله اشفي مريضي وانصرني بعد موته، هذا غلو، ..... الله، الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: ادعو الله، أمرك أن تدعو الله، ما أمرك أن تدعوه، أمرك أن تدعو الله، والله يقول: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ[غافر: 60]، فعليك أن تدعو الله لا تسأل الرسول، ويقول -جل وعلا-: وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ[المؤمنون: 117]، فدعاء غير الله من الأموات والأشجار والأحجار حتى النبي كفر أكبر، هذا من الغلو, ومن الغلو أن تزيد فيما شرع الله من سائر العبادات، شرع الله أن توسل بأسماء الله وصفاته وبالأعمال الصالحة، تزيد أنت توسل بجاه النبي، أو ببركة النبي، أو بحق النبي، هذا بدعة هذا غلو، لكن توسل بالأعمال الصالحة، بحبك للنبي نعم، اللهم إني أسألك بحب نبيك، بمحبتي نبيك، بإيماني بنبيك هذا طيب، هذه وسيلة شرعية، لكن بجاه نبيك هذه ماله أصل، بحق نبيك هذا ما هو مشروع، ببركة نبيك هذا ما هو مشروع، المشروع أن تتوسل بمحبتك، بإيمانك به، باتباعك له، بطاعتك له، هذه الوسيلة الشرعية، أو بأسماء الله وصفاته أو بالإيمان بالله ورسوله.
حب النبي بين الغلو والجفاء
, نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلَّم تسليماً كثيراً...
أما بعد:
فإن الله تعالى افترض على العباد طاعة نبيه -صلى الله عليه وسلم- ومحبته وتوقيره والقيام بحقوقه, وسد الطريق إلى جنته فلن تفتح لأحد إلا من طريقه، فشرح الله له صدره، ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره, وقام المسلمون بأداء ما افترضه الله عليهم من محبة نبيه وتوقيره وإكرامه وبره واتباعه وطاعته حق قيام، وظهر من حبهم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما جعلهم يفدونه بكل عزيز وغال، ويؤثرونه على الأهل والأوطان والأموال، حتى باعوا أنفسهم وأموالهم لرب العالمين؛ نصرة لدينه، ودفاعاً عن نبيه -صلى الله عليه وسلم- ونشراً لهذا الدين في العالمين، فرضي الله عنهم أجمعين.
حتى إذا دب الضعف في هذه الأمة، أدركتها سنة الله في الأمم، فظهر فيها التفرق والاختلاف، والعداوة والبغضاء، وتفرق أهل القبلة على فرق شتى وطرائق قدداً، واتخذ النفاق فرصته السانحة في توسيع شقة الخلاف، ورفعت الزندقة رأسها، ودخلت معترك الفرق بقديم حقدها، وكوامن غيظه؛ كيداً لهذا الدين الذي قوض أركانها، وأذهب من الأرض سلطانها.
وقد استمال هؤلاء الزنادقة الأغرار بالعقائد الباطلة، واستغلوا الفتن التي وقعت بتدبيرهم في تزيين الكفر وإلباسه ثوب الغلو في علي -رضي الله عنه- وآل البيت من ذريته, حتى خرجوا بأكثر الناس من الإسلام إلى مذاهبهم الباطلة, وتوارث أخلافهم سنتهم في الغلو, فغلوا في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أخرجوه من نطاق البشرية إلى مرتبة الألوهية، ونسبوا إلى الله ورسوله ما لا يليق من صنوف الكفر والبهتان الهادمة لما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- من أصول الإسلام والإيمان, وزعموا أنهم بذلك يريدون إظهار حبه وتعظيمه، وأوهموا المخدوعين بهم أنهم أولى الناس بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وأكثرهم حباً له, وحاولوا إخفاء زندقتهم بدعاوي الزهد والتنسك والتصوف, فمال إليهم الأغرار، وظنوا أنهم من الأبرار الأخيار، وأنهم أحباب النبي المصطفى المختار.
ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون, فقيض سبحانه من عباده المخلصين، وحزبه المفلحين من أزاح الغشاوة عن الأبصار، وبين للناس زيف الزنادقة الأشرار، وأنهم لا يريدون إلا هدم الدين وتغيير سنة خاتم المرسلين, فتتبعوا أقوالهم وأحوالهم، وكشفوا عن وجوه زندقتهم, حتى غدا أمرهم لأولي الأبصار مكشوفاً واضحاً، وتبين لأولي النهى من كان لله ورسوله محباً صادقاً، ومن كان في دعوى المحبة دجالاً كاذباً، ولإفساد دين المسلمين ساعياً.
الاعتقاد الصحيح عند ذوي العقل الصريح:
إن الاعتقاد الصحيح الذي يرضاه الله من عباده هو أن يعلم المسلم أن ربه العليم الحكيم شاء أن يكون رسله إلى الناس بشراً من جنس المرسل إليهم وبلسانهم ليبينوا لهم شرع ربهم، ولتقوم بهم الحجة على الناس، وتنقطع عنهم المعاذير، ويسهل عليهم اتباع رسلهم، والفهم عنهم، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (4) سورة إبراهيم. وقال تعالى: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} (11) سورة إبراهيم.
ويوضح الله بعض جوانب هذه البشرية فيقول سبحانه: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} (20) سورة الفرقان. ولم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدعاً من الرسل بل كان بشراً كغيره من الأنبياء والرسل السابقين عليه, قال تعالى: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ} (9) سورة الأحقاف. وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} (110) سورة الكهف.
وهذا أبلغ تأكيد من الله على أن الرسولَ -صلى الله عليه وسلم- بشر مثلنا له كل خصائص البشر وصفاتهم وهو مع ذلك مفضل بالوحي والرسالة.
والآيات القرآنية تثبت بشرية الرسول -صلى الله عليه وسلم- في مواقف كثيرة, وتوضح أنه بشر لم يخرج عن نطاق البشرية، وأن ما أتى به من وحي أو جرى على يديه من آيات فإنما هو بقدرة الله وحده، وأن الرسول لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً إلا أن يشاء الله, قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ} (50) سورة العنكبوت. وقال تعالى: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (188) سورة الأعراف.
وكما أن الرسول لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً فهو من باب أولى لا يملك لغيره الضر والنفع أو الهداية والصلاح، بل كل ذلك بيد الله وحده؛ قال تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ * وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء} (129) سورة آل عمران. وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} (21) سورة الجن. وقال تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (56) سورة القصص.
ولما طالب كفار قريش الرسول -صلى الله عليه وسلم- بمطالب تعجيزية ذريعة لهم للتكذيب والكفر، كان رد الله تعالى عليهم هو التأكيد على بشرية الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال تعالى: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا* َ أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا* أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً* أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً} (90-93) سورة الإسراء.
ففي قوله تعالى: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً} تأكيدٌ على أن الرسول بشر يقف عند حدود بشريته، ولا يأتي بشيء من عنده.
وإن المتأمل في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسيرته توضح هذا الأمر أتم توضيح فقد عاش -صلى الله عليه وسلم- بشراً تجري عليه أعراض البشرية طيلة حياته منذ أن ولد إلى أن مات فأكل وشرب، ومشى في الأسواق، وباع واشترى، وتزوج وأنجب، وحارب وسالم، وغضب ورضي، وفرح وحزن، وأدركه المرض فمرض، ومات كما يموت سائر البشر, صلى الله عليه وسلم.
وكل من عايش رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو تتبع سيرته أدرك هذه الحقيقة تمام الإدراك. والرسول صلى الله عليه وسلم بأقواله وأفعاله يؤكد هذا الأمر فيقول فيما رواه مسلم بسنده عن عبد الله بن مسعود وفيه ( إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَذْكُرُ كَمَا تَذْكُرُونَ وَأَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ).
وقال فيما رواه البخاري عن أم سلمة -رضي الله عنها-: ( إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ وَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ).
ففي الحديث الأول يبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه يتذكر وينسى أحياناً؛ وهو شأن البشر جميعاً، وفي الحديث الثاني يؤكد على عدم علمه للغيب بمقتضى طبيعته البشرية إلا أن يطلعه الله على ما شاء من الغيب كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا* إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} (26-27) سورة الجن.
ومع كون الرسول -صلى الله عليه وسلم- بشراً, إلا أن الله -عز وجل- هيأه تهيئة خاصة تتناسب مع هذا الأمر العظيم الذي اصطفي له, فكمله في الخلق والخلُق، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكمل البشر في كافة الجوانب البشرية، كما كان أكملهم عبودية لربه وقياماً بحقه, فكمال الرسول -صلى الله عليه وسلم- في عبوديته التامة لربه سبحانه وتعالى.
ولأجل هذا وصفه الله بالعبودية في أكمل مقاماته وأرفع درجاته -صلى الله عليه وسلم- فقال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (1) سورة الإسراء. وقال تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} (10) سورة النجم. وقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} (1) سورة الكهف. وقال تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} (19) سورة الجن.
فمنزلة العبودية لله هي أرقى درجات الكمال البشري؛ لأن الله إنما خلق الخلق لعبادته، وأكمل الخلق قياماً بهذا الأمر أتمهم عبودية له، ولا يصدق هذا في المقام الأول إلا على الأنبياء والرسل، وأكملهم محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي أكمل الله له مقام العبودية, فلم يختر عليه ما سواه لعلمه بعظم هذه المنزلة عند ربه, فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحق هذه العبودية أتم قيام، فدعا الناس إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة، وأخرجهم من العبودية لأهوائهم وشهواتهم إلى العبودية لله رب العالمين، كما صان مقام عبوديته لربه من كل ما يفسده أو يضعفه.
كفاكم غُلوَّاً أيها المُدَّعون:
لقد أعلَمَ –عليه الصلاة والسلام- أمَّته أن منزلته الحقيقية هي العبودية والرسالة فقال فيما رواه الإمام أحمد بسنده عن أنس وفيه: ( أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولُهُ, أَنَا مُحَمَّدٌ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي الَّتِي أَنْزَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ). وأخرج البخاري بسنده عن عمر -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ).
لقد استحق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يكون العبد الأول لربه، ولذلك خصه الله من عباده المرسلين بما لم يعطه أحداً غيره، فهو أول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع، وأول مشفع.
ومع وضوح هذا الأمر لعامة المسلمين وخاصتهم إلا أننا نرى بعض الطوائف المنتسبة إلى الإسلام غلت في الرسول -صلى الله عليه وسلم- بما يخرجه عن حد البشرية، ولقد كان الشيعة أول من فتح باب الغلو في الأشخاص وذلك بغلوهم في علي -رضي الله عنه- وذريته حتى ذهبوا في ذلك مذاهب شتى, فمنهم من ادعى أن علياً وذريته معصومون, ومنهم من ادَّعى أن علياً كان نبياً، ومنهم من غلا فيه حتى ادَّعى أنه إله وأن روح الإله حلَّت فيه وفي الأئمة من ذريته.
ولما كان علي -رضي الله عنه- ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وزوج ابنته، ووصيه وخليفته من بعده- على مذهبهم- كان طبيعياً أن يبتدئ غلوُّهم من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويأخذ دور التسلسل إلى علي -رضي الله عنه- والأئمة من ذريته، لذلك نجد لدى غلاة الشيعة عقائد باطلة تدور حول أزلية وجود الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأسبقيته على الكون وأنه ليس كسائر البشر بل هو مخلوق من نور.
وقد روى الكليني نصَّاً منسوباً زوراً وبهتاناً إلى جعفر الصادق يدور حول أزلية وجود النبي -صلى الله عليه وسلم- أو ما يطلق عليه الصوفية الحقيقة المحمدية أو النور المحمدي, يقول النص على لسان جعفر الصادق: "كنا عند الله وليس عنده أحد سوانا لا ملك ولا غيره, ثم بدا له فخلق السماوات والأرض فخلق ونحن معه" إلى أن قال: "ونصب الخلق في صورة كالهباء قبل دخول الأرض ورفع السماء، وهو في انفراد ملكوته، وتوحيد جبروته، وأتاح نوراً من نوره فلمع، ونزع قبساً من قبسه فسطع، ثم اجتمع النور في وسط تلك الصورة الخفية فوافق ذلك صورة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- فقال الله عز من قائل: أنت المختار والمنتخب وعندك مستودع نوري وكنوز هدايتي، من أجلك أسطح البطحاء، وأموج الماء، وأرفع السماء، وأجعل الثواب والعقاب والجنة والنار، وأنصب أهل بيتك للهداية، وأوتيهم من مكنون علمي ما لا يشكل به عليهم دقيق، ولا يغيب عنهم به خفي، وأجعلهم حجتي على بريتي والمنبهين على قدرتي ووحدانيتي". ومما قال: "ولم يزل الله تعالى يخبئ النور تحت الزمان إلى أن وصل محمداً في ظاهر الفترات، فدعا الناس ظاهراً وباطناً .... ثم انتقل النور إلى غرائزنا، ولمع في أئمتنا فنحن أنوار السماء وأنوار الأرض، فبنا النجاة، ومنا مكنون العلم، وإلينا مصير الأمور وبمهدينا تنقطع الحجج، خاتم الأئمة، منقذ الأمة، وغاية النور ومصدر الأمور!!!!".
وصور الغلو في رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كثيرة وبيانها ظاهر في كتب الصوفية الملاحدة كالحلاج وابن عربي وغيرهما ممن ادعوا حب النبي زوراً وبهتاناً بقصد إغواء الناس ونقلهم إلى أفكارهم الهدامة تحت مبرر حب النبي وآله, ومن أمثلة ذلك ما ذكره الأشعري في مقالات الإسلاميين أن الصنف الخامس عشر من أصناف غلاة الشيعة يزعمون أن الله -عز وجل- وكَّل الأمور وفوضها إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- وأنه أقدره على خلق الدنيا فخلقها ودبرها, وأن الله سبحانه لم يخلق من ذلك شيئاً, ويقول ذلك كثير منهم في علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
احذر الجفاء:
إذا كان الغلو مذموماً, فإن هذا لا يعني أن يتصف العبد بنقيض ذلك حتى يصل إلى الجفاء, ولا يتأدب بما أوجبه الله على عباده تجاه رسول الله –صلى الله عليه وسلم, بل المؤمن الحق هو الذي يتصف بالوسطية والعدل في شؤونه كلها ومن ذلك عبادة الله وتعظيم الأنبياء وإعطائهم حقهم من التعظيم دون غلو أو جفاء.
وإن من الجفاء الذي يجب نبذه: عدم التأدب في الحديث والكلام عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كصنيع بعض الشعراء والكتاب في تشبيه بعض الولاة والحكام أو وصفهم بصفات الرسول -صلى الله عليه وسلم- الخاصة به, كقول المعري مثلاً:
لولا انقطاع الوحي بعد محمد
قلنـا محمـد عن أبيـه بديـل
هـو مثله في الفضـل إلا أنـه
لـم يأتـه برسالـة جبريـل
ومما يلحق بالجفاء ترك الصلاة والسلام عليه لفظاً وخطاً، أو الاستهانة بهديه وسنته وقلة المبالاة بها, أو التعظيم لشأن المفكرين والكتاب والقادة بما يغض من شأنه -صلى الله عليه وسلم- مع أن هؤلاء مهما بلغوا لن يصلوا إلى مرتبة واحد من عامة الصحابة.
وقد كثر الجفاء في زماننا هذا بكثرة المارقين والمنهزمين من الكُتَّاب والأدباء الذين سودوا الصحائف بالاستهزاء بتعاليم الإسلام وقيمه, وربما بالتطاول على مقام النبوة, كما عزف كثير من المسلمين عن مطالعة سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- ومذاكرة سنته وكثرة الصلاة والسلام عليه, مما أدى إلى الجفاء للنبي -صلى الله عليه وسلم- وعدم توقيره.
ولقد كان سلفنا الصالح إذا ذكر عندهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أو حديثاً من أحاديثه ظهر عليهم من الهيبة والإجلال والتأدب كما لو كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أمامهم حتى إن بعضهم كان يبكي عند ذكره -صلى الله عليه وسلم- فكان محمد بن المنكدر –رحمه الله- إذا سئل عن حديث بكى حتى يرحمه الجالسون، وكان عبد الرحمن بن مهدي –رحمه الله- إذا قرأ حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر ال
ين بالسكوت وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} (2) سورة الحجرات. ويتأول أنه يجب له من الإنصات عند قراءة حديثه ما يجب عند سماع قوله -صلى الله عليه وسلم- وهكذا كان أدب سلفنا الصالح مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسنته فأين منا هذا الأدب وذلك التوقير؟ نسأل الله العافية.
لقد أوجب الله على الأمة كلها تعظيم النبي -صلى الله عليه وسلم- وتوقيره فقال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا* لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (8-9) سورة الفتح. فالتسبيح لله -عز وجل- والتعزير والتوقير للنبي -صلى الله عليه وسلم- قال تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (157) سورة الأعراف.
والتعزير بمعنى التعظيم, قال ابن جرير في تفسير الآية الأولى: "معنى التعزير في هذا الموضع: التقوية والنصرة والمعونة ولا يكون ذلك إلا بالطاعة والتعظيم والإجلال".
ويعرف ابن تيمية التعزير بأنه اسم جامع لنصره وتأييده ومنعه من كل ما يؤذيه، والتوقير اسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال والإكرام، وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد الوقار".
وقد أبان الله في كتابه عن وجوه الأدب مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وتعظيمه, وما ينبغي على المسلم أن يتأدب به مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وذلك في آيات شتى وبأساليب متنوعة.
وقد اشتملت سورة الحجرات في صدرها على مجموعة من التوجيهات التربوية للمسلمين في كيفية تعاملهم مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والتأدب معه, فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ* إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ* إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ* وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (1-5) سورة الحجرات.فقد أشارت هذه الآيات إلى بعض وجوه الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم, وهي ظاهرة لمن تأمل ذلك, وهي الوسط والعدل في إعطاء الحقوق لأصحابها كما أمر الله تعالى, ومن الأدب نحو رسول الله كما بينت ذلك الآيات:
عدم التقدم بين يدي الله ورسوله بقول أو فعل أو إذن أو تصرف,كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}. قال ابن جرير في تفسير هذه الآية: "لا تعجلوا بقضاء أمر في حروبكم أو دينكم، قبل أن يقضي الله لكم فيه ورسوله، فتقضوا بخلاف أمر الله وأمر رسوله وهذا الأمر فرض باق على الأمة إلى يوم القيامة- مثل طاعته -صلى الله عليه وسلم- حياً وميتاً, فالتقدم بين يدي سنته بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم- كالتقدم بين يديه في حياته، ولا فرق بينهما عند ذوي العقول السليمة، فالأدب كل الأدب معه -صلى الله عليه وسلم- تقديم سنته وأقواله على كل قول أو رأي, ومنها عدم رفع الصوت فوق صوت النبي -صلى الله عليه وسلم- وعدم الجهر له بالقول مخافة حبوط العمل.
فالأدب معه في حياته غض الصوت عنده مع الهيبة والإجلال له، وأن يكون مجلس علم وحلم ووقار وسكينة، وأن يكون الحديث معه بتأدب وتلطف.
وإذا كان الله قد حرم رفع الأصوات فوق صوت نبيه، وحرم الجهر له بالقول لما في ذلك من الجفاء والإيذاء لنبيه -صلى الله عليه وسلم- فكذلك رفع الأصوات عند قبره -صلى الله عليه وسلم- في حكم رفع الصوت عنده في حياته من حيث التحريم؛ لأن حرمة النبي -صلى الله عليه وسلم- ميتاً كحرمته حياً.
ومن مخالفة الأدب في هذا الباب رفع آراء بعض البشر وأقوالهم ومذاهبهم على سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- ومحاولة إسكات صوت السنة والداعين إليها وفي هذا من الإيذاء والجفاء ما هو أكبر بكثير من مجرد رفع الصوت عند النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن الأدب مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- عدم جعل دعائه كدعاء الناس بعضهم بعضاً، كما قال تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا} (63) سورة النور.
نسأل الله -عز وجل- أن يهدينا إلى الحق وأن يعيننا على الالتزام بوسطية المنهج الشريف, بعيداً عن الغلو والجفاء, وصلى الله وسلم على نبينا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين, وآخر دعوانا أن
رب العالمين.