علبة الحلوى
كانت ليلة هائجة فقد كانت الريح تزأر بعنف والمطر يضرب النوافذ بموجات هائلة.
جلسنا -بوارو وأنا- مقابل الموقد وقد سرحنا سيقاننا باتجاه ألسنة اللهب البهيجة كانت بيننا طاولة صغيرة وعليها -أمامي- كوب ضخم من الشاي الحار وأمام بوارو كوب من الشراب الكاكاو الكثيف الذي ماكنت لأشربه لو دفعوا لي مائة جنيه!
ارتشف بوارو ذلك المزيج الثخين البني من كوبه الصيني الأحمر وتنهد باطمئنان ورضا قائلا: يا للحياة الجميلة!
- نعم انه عالم جيد فها أنا لدي عمل وعمل جيد أيضا! وها أنت مشهور...
قاطعني بوارو محتجا: آه ياصديقي!
- ولكنك مشهور بالفعل وعن جدارة أيضا! عندما أستعيد في تفكيري سلسلة نجاحاتك الطويلة فانني أدهش لها لا أعتقد أنك تعرف ما هو الفشل!
- إن من يستطيع ادعاء ذلك يكون مهرجا غريب الأطوار!
- كلا ولكن قل لي بجد: هل أن سبق أن فشلت أبدا؟
- مرات لا حصر لها ياصديقي ماذا بوسعك أن تفعل؟ ان المصادفة السعيدة لا يمكن أن تكون دائما الى جانبك كثيرا ماتم استدعائي في وقت متأخر جدا وكثيرا ما وصل قبلي شخص آخر كان يعمل باتجاه الهدف نفسه مرتين صرعني المرض تماما عندما كنت على حافة النجاح على المرء أن يأخذ بالاعتبار حالات النجاح وحالات الفشل معا ياصديقي.
- ليس هذا ماقصدته بالضبط ما عنيته هو: هل فشلت من قبل تماما في قضية بسبب خطأ ارتكبته أنت؟
- آه فهمت! انك تسأل ان كان قد سبق أن جعلت من نفسي حمارا كما تقولون في بلادكم هما؟ مرة واحدة يا صديقي...
وتبدت على وجهه ابتسامة بطيئة متأملة وأضاف: نعم مرة واحدة جعلت من نفسي أضحوكة!
ثم اعتدل فجأة في كرسيه وقال: اسمعني يا صديقي أعرف أنك احتفظت بسجل لنجاحاتي الصغيرة وعليك أن تضيف قصة أخرى الى مجموعتك قصة فشل!
انحنى الى الأمام ووضع حطبة في الموقد وبعد أم مسح يديه بعناية بمنشفة معلقة بمسمار قرب الغرض لهذا الغرض عاد ليسترخي على كرسيه وبدأ قصته:
هذا الذي أرويه لك حدث في بلجيكا منذ سنوات عديدة كان ذلك في زمن الصراع الرهيب في فرنسا بين الكنيسة والدولة كان السيد بول ديرولار نائبا فرنسيا نابها ولم يكن سرا أن حقيبة وزارية تنتظره كان واحدا من أكثر المعادين للكنيسة وكان من المؤكد أنه سيضطر لمواجهة عداء عنيف لدى توليه السلطة وقد كان رجلا متميزا من عدة جوانب ومع أنه لم يكن يشرب ولا يدخن الا أنه لم يكن متزمتا كثيرا في جوانب أخرى هل تفهمني يا هيستنغر أعني في النساء... انهن دوما في الصورة!
كان تزوج قبل بضع سنوات امرأة شابة من بروكسل أعطته مهرا لا بأس به ولا شك أن المال كان مفيدا له في حياته المهنية اذ لم تكن عائلته غنية مع أنه كان -من جهة أخرى- مخولا بتسمية نفسه بارونا لو أراد لم يسفر الزواج عن أطفال وماتت زوجته بعد عامين نتيجة سقطة من الدرج ومن ضمن الممتلكات التي ورثها عنها بيت في شارع لويس في بروسكل.
في ذلك البيت حدثت وفاته المفاجئة تصادفت وفاته مع استقالة الوزير الذي كان مقدرا له أن يخلفه وقد نشرت كل الصحف مقالات مطولة عن حياته السياسية وعزت موته -الذي حدث بشكل مفاجئ تماما بعد طعام العشاء- الى حدوث أزمة قلبية.
في ذلك الوقت كنت ياصديقي -كما تعلم- عضوا في جهاز التحري البلجيكي ولم تكن وفاة السيد بول ديرولار مثيرة بشكل خاص بالنسبة لي فأنا -كما تعلم- متدين أيضا وقد بدت لي وفاته أمرا مفرحا.
بعد ثلاثة أيام من وفاته وكانت اجازتي على وشك أن تبدأ جاءتني زائرة الى بيتي كانت امرأة تضع خمارا سابغا ولكنها بدت شابة تماما وأدركت علىالفور أنها كانت فتاة كأجمل ما يمكن للفتاة أن تكون. سألتني بصوت عذب منخفض: أنت السيد هيركيول بوار؟ فانحنيت لها. قالت:من جهاز التحري؟. انحنيت ثانية وقلت: تفضلي بالجلوس أرجوك يا آنستي.
أخذت كرسيا ورفعت خمارها كان وجهها ساحرا رغم الدموع التي شوهته وكانت ذاهلة كأنها مسكونة بقلق حاد. قالت: سيدي إنني اعرف أنك ستأخذ إجازتك الآن ولذلك ستكون حرا للنظر في قضية خاصة. أنت تدرك بأنني لا أريد استدعاء الشرطة.
هززت رأسي يالنفي وقلت: أخشى أن لا يكون ما تطلبينه ممكنا يا آنستي فأنا أظل واحدا من رجال الشرطة ولو كنت في إجازة.
اتكأت الى الأمام وقالت: اسمع ياسيدي... إن كل ما أطلبه منك هو أن تتحرى وفيما يخص نتيجة تحرياتك فأنت حر تماما في تقديمها للشرطة إن كل ما أظنه صحيحا بالفعل فإننا سنحتاج الى كل "ماكينة" للقانون.
أضفى ذلك طابعا مختلفا بعض الشئ على القضية ووضعت نفسي في خدمتها دون مزيد من اللغو صبغ لون خفيف وجنتيها وقالت: أشكرك ياسيدي ان وفاة السيد بول ديرولار هي ما أطلب منك أن تتحرى عنه.
هتف مدهوشا: ماذا؟
قالت: سيدي ليس لدي من شئ أنطلق منه في هذه القضية... لاشئ سوى غريزة المرأة ولكنني مقتنعة -يقينا- بأن السيد ديرولار لم يمت ميتة طبيعية!
قلت: ولكن من المؤكد أن الأطباء...
قاطعتني قائلة: قد يخطئ الأطباء لقد كان مفعما بالحيوية قويا جدا آه ياسيد بوارو انني أتوسا إليك أن تساعدني...
كانت الطفلة المسكينة في غاية الهم والقلق وكانت مستعدة لأن تركع أمامي فهدأتها بأفضل ما استطعت وقلت: سأساعدك يا آنسة انني أكاد أكون واثقا من أن مخاوفك لا أساس لها من الصحة ولكننا سنرى. سأطلب منك -أولا- أن تصفي لي ساكني البيت.
قالت: يوجد الخدم بالطبع: جانيت وفيليس ودينيس الطباخة وقد عملت الطباخة في البيت من سنين عديدة أما الخادمتان فهما فتاتان ريفيتان بسيطتان يوجد أيضا فرانسو ولكنه هو الآخر خادم قديم وأيضا والدة السيد ديرولار التي تعيش معه وأنا. اسمي فيرجيني منسار وأنا ابنة عم فقيرة للراحلة زوجة السيد ديرولار ولقد أصبحت عضوة في أسرة ساكني المنزل منذ أكثر من ثلاث سنوات. لقد وصفت لك الآن ساكني المنزل ولكن لدينا أيضا ضيفان يقيمان في المنزل.
- وهما؟
- السيد دوسان آلار وهوجار للسيد ديرولار في فرنسا وصديق انكليزي هو السيد جون ويلسن.
- ألا يزالان معكم؟
- بالنسبة للسيد ويلسن فانه موجود ولكن السيد دوسان آلار غادر بالأمس.
- وما هي خطتك يا آنسة منسار؟
- إن أمكنك المجئ الى البيت خلال نصف الساعة القادمة فسأكون قد رتبت قصة لتبرير وجودك من الأفضل أن أقدمك على أنك مرتبط بالصحافة بشكل أو بآخر سأقول انك جئت من باريس وانك أحضرت بطاقة تعريف وتوصية من السيد دوسان آلار ان صحة مدام ديرولار عليلة تماما ولن تلتفت كثيرا للتفصيلات.
وبناء على التبرير العبقري للآنسة دخلت المنزل وبعد مقابلة قصيرة مع والدة النائب المتوفى -التي كانت ذات شخصية جليلة أرستقراطية رغم وضوح تداعي صحتها- تحررت من المقدمات وبسط الأعذار.
يُتبع ..