من عرف نفسه عرف ربه لا ينتفع بنعمة الله بالإيمان والعلم ، إلا من عرف نفسه، ووقف بها عند قدرها، ولم يتجاوزه إلى ما ليس له، ولم يتعد طوره، ولم يقل هذا لي، وتيقن أنه لله ومن الله وبالله ؛ فهو المانّ به ابتداء وإدامة بلا سبب من العبد ولا استحقاق منه، فتـُذِله نِعم الله عليه وتكسره كسرة من لا يرى لنفسه ولا فيها خيراً البتة، وأن الخير الذي وصل إليه فهو لله وبه ومنه، فتحدث له النعم ذلاً وانكساراً عجيباً لا يعبر عنه. فكلما جدد له نعمة ازداد له ذلاً وانكساراً وخشوعاً ومحبة وخوفاً ورجاءً.
وهذا نتيجة علمين شريفين: علمه بربه، وكماله، وبره، وغناه، وجوده ، وإحسانه، ورحمته، وأن الخير كله في يديه، وهو ملكه يؤتي منه من يشاء ويمنع منه من يشاء، وله الحمد على هذا، وهذا أكمل حمد وأتمه.
وعلمه بنفسه، ووقوعه على حدها ، وقدرها ونقصلها، وظلمها، وجهلها، وأنها لا خير فيها البتة، ولا لها ولا بها ولا منها، وأنها ليس لها من ذاتها إلا العدم، فكذلك من صفاتها وكمالها ليس لها إلا العدم الذي لا شيء أحقر منه ولا أنقص، فما فيها من الخير تابع لوجودها الذي ليس إليها ولا بها.
فإذا صار هذان العلمان صبغة لها، ولا صيغة على لسانها، علمت حينئذ أن الحمد كله لله، والأمر كله له، والخير كله في يديه، وأنه هو المستحق للحمد والثناء والمدح دونها، وأنها هي أولى بالذم والعيب واللوم.
ومن فاته التحقق بهذين العلمين، تلونت به أقواله وأعماله وأحواله، وتخبطت عليه، ولم يهتد إلى الصراط المستقيم الموصل له إلى الله، فإيصال العبد بتحقيق هاتين المعرفتين علماً وحالاً، انقطاعه بفواتها.
هذا معنى قولهم: من عرف نفسه عرف ربه؛ فإنه من عرف نفسه بالجهل والظلم والعيب والنقائص والحاجة والفقر والذل والمسكنة والعدم، عرف ربه بضد ذلك، فوقف بنفسه عند قدرها ، ولم يتعد بها طورها ، وأثنى على ربه ببعض ما هو أهله، وانصرفت قوة حبه وخشيته ورجائه وإنابته وتوكله إليه وحده، وكان أحب شيء إليه، وأخوف شيء عنده وأرجاه له، وهذا هو حقيقة العبودية.
ويحكى أن بعض الحكماء كتب على باب بيته: إنه لن ينتفع بحكمتنا إلا من عرف نفسه، ووقف بها عند قدرها؛ فمن كان كذلك فليدخل، وإلا فليرجع حتى يكون بهذه الصفة