اهم المشكلات التي تهدد البناء الأسري
يعد العنف الأسرى أحد أشكال اضطرابات الأسرة التى تعانى منها عديد من الأسر سواء فى المجتمعات الشرقية أو المجتمعات الغربية. فبعض الأسر تعانى بشكل واضح من صعوبة فى التوافق مع أزمات الحياة، مثل هذه الأسر قد نجد أن المشكلات البسيطة نسبياً بها تكون غير قابلة للحل، بل والأكثر من ذلك قد تأخذ مثل هذه المشكلات مساراً قد يصل إلى حد الاضطراب النفسي والصراعات الهادمة لكيان الأسرة. ومن ثم مع هذا التدهور فى القدرة على مهارات التوافق نجد مثل هذه الأسر تنتقل من أزمة إلى أخرى دون أدنى شعور بالرضا عن الحياة.
ومع هذا فجميعنا على يقين أنه لا توجد أسرة متكاملة الأركان، فأية أسرة تنتابها نقاط من القوة والضعف. غير أن نقاط الضعف حينما تتفاقم لتصبح صراعات تهدد كيان الأسرة، وتؤدى فى كثير من الأحيان إلى هدمها، وجب مواجهة مثل هذه الصراعات وتحديد أبرز المشكلات التى تهدد هذا البناء الأسرى، تمهيداً للعلاج.
ومن أهم المشكلات التى تهدد البناء الأسرى ما يلى:
أولاً: العنف الأسرى: والذى قد يطلق عليه أحياناً العنف المنزلي Domestic Violence وتعرفه رابطة علم النفس الأمريكية: بأنه أى شكل من أشكال العدوان اللفظى أو البدنى أو النفسى ،المباشر أو غير المباشر يمارسه أحد أو بعض أفراد الأسرة ضد أية عضو من أعضاء الأسرة (American Psychological Association, 2010). ومن بين أشكال العنف الأسرى التالى:
1- العنف الأسرى اللفظى: والذى فى الغالب قد يكون موجهاً من قبل رب الأسرة ضد المرأة والأبناء بشكل يغلب عليه الطابع القهرى، فتسود الألفاظ النابية التى تقع على الأبناء لأتفهه الأسباب، وتكثر المشاحنات بين الأبناء باستخدام ألفاظ جارحة، مهينة لكرامة كل فرد من أفراد الأسرة، وقد يمتد مثل هذا النوع من العنف الأسرى اللفظى لنجده سمة سائدة لدى الأطفال حتى وسط جماعات الأقران فى المدرسة، فيشكوا القائمين على الطفل من حدة سلوكه، وعدوانيته اللفظية وعدم امتثاله للتوجيهات أو التعليمات الموجهة إليه، ومن ثم تدهور فى مهاراته الاجتماعية خاصة فى كيفية تكوين علاقات وصداقات، بالإضافة إلى تدهور فى قدرته على التحصيل الدراسى. وقد ينشأ هذا النوع من العنف الأسرى اللفظى نتيجة كثرة الانتقادات اللاذعة السلبية، وكثرة التوبيخ، والتوجيه ذو النمط الحاد العنيف من قبل أحد الوالدين أو كلاهما لبعضهما البعض، أو لأحد أبنائهما، أو من الأخ الأكبر للأصغر.
2- العنف الأسرى الجسدى: وهو أحد أبرز أشكال العنف الأسرى السائدة فى كافة المجتمعات، ويخطئ بعض الدارسين حين يصنف هذا النوع من العنف الجسدى ضمن الاعتداءات الجسدية فحسب، إذ أنه يمتد من الإشارة بالأيدى وإيماءات الوجه الحادة الغاضبة لأتفهه الأسباب أو حتى دون سبب، تجاه أية عضو من أعضاء الأسرة، إلى الاعتداء الجسدى العنيف بالضرب، والصفع، والتعذيب، واستخدام بعض الأدوات كالعصا، ...وغيرها. وفيه يعبر أحد أفراد الأسرة عن شعوره بالغضب نتيجة الضغوط المختلفة بشكل يغلب عليه الطابع المادى سواء المباشر أو غير المباشر، فنجده يلوح بيده، أو يكثر من التأفف والتذمر، ثم يأخذ شكلاً أكثر ضراوةً قد يصل فيه الفرد إلى الاعتداء على أية عضو من أعضاء الأسرة بالضرب المبرح أو غير المبرح، والذى قد يؤدى فى كثير من الأحيان إلى أضرار جسمانية ونفسية يصعب مداواتها.
3- العنف الأسرى الجنسى: ومثل هذا النوع من العنف لا يشترط أن يكون موجهاً من الزوج تجاه زوجته أثناء العلاقة الجنسية، لتأخذ شكل علاقة سادية، لا يشعر فيها أحدهما بالرضا إلا مع شعوره أو شعور الطرف الأخر بالألم الجسدى، أو قد يظهر العنف الأسرى الجنسى فى شكل أخر أثناء العلاقة الجنسية، بحيث يهتم فيه الزوج بذاته، وإشباع احتياجه الجنسى على الرغم من عدم استعداد أو موافقة الطرف الأخر –الزوجة- على البدء فى العلاقة، فتصبح بذلك مقهورة على الفعل، ومن ثم لا تصل إلى حد الرضا فى العلاقة، الأمر الذى يترتب عليه فى كثير من الأحيان إصابة المرأة بالاكتئاب، والضيق، وحتى بعض الأعراض السيكوسوماتية –أى النفس جسدية- بالإضافة إلى ذلك، قد نجد العنف الأسرى الجنسى فى كثير من الأحيان موجهاً من أحد أفراد الأسرة تجاه فراً أخر، مثل أخ تجاه أخته، أو تجاه أخ أصغر له، أو من أخت تجاه الأخت أو الأخ الأصغر لها، وفى كثير من الأحيان قد يتجلى هذا النوع من العنف بشكل غير مباشر من أسرة الفرد، أى أنه قد يحدث للفرد على مستوى عائلته الكبرى، فنجد بعض الأطفال وحتى المراهقين قد يُعتدى عليهم جنسياً من قبل أحد أبناء العم أو الخال أو حتى من قبل أحد أصدقاء الأسرة المقربين، أو أحد الأقران أو المعلمين داخل المدرسة، ومن هنا يمتد تأثير هذا العنف إلى الأسرة الصغرى، لتقع المسؤلية على الوالدين.
4- العنف الأسرى العاطفى: أو ما يشيع تعريفه فى كثير من الأوساط العلمية والإعلامية بالخرس الزواجى Marital Mutism. وفيه نلاحظ غياب الدعم والمشاركة بين أفراد الأسرة وبعضهما البعض، وكأن مجموعة أفراد يعيشون تحت سقف واحد دون أن تربطهما أية عاطفة، فنجد الزوج بجوار زوجته مصاب بالخرس لا يحرك ساكناً ولا ينطق بكلمة واحدة يظهر فيها عاطفته تجاه أم أبناءه، أو حتى يبدى بها اهتمام بتلك المرأة التى صاحبته فى مشوار الحياة، ومن ثم يقل التواصل بينهما إلى أن ينعدم، الأمر الذى يؤثر على علاقتهما بالأبناء وعلاقة الأبناء ببعضهما بعضاً. وقد تشكوا الزوجة من الفتور العاطفى، وكأنها تعيش كالترس داخل آلة دون عاطفة، وقد يمتد الأمر ليصل إلى العلاقة الحميمية بينهما فتصبح كالفرض أو الواجب الشرعي لا تتم دون أية عاطفة. ومن هنا تظهر أعراض الاكتئاب، والضيق، والحزن، وفقدان التواصل، وتنشأ الأسرة مفككة دون أية عوامل دعم، كل فرداً منها يعيش فى عالمه المستقل.
ثانياً: التناقض فى أساليب التربية والتنشئة بين الوالدين: وتعد مثل هذه المشكلة من أبرز وأكثر المشكلات شيوعاً داخل كثير من الأسر، والتى تهدد استمرار البناء الأسرى بشكل صحى. وفيها قد نجد عدم توافق واتفاق كلا الوالدين فى تبنى أسلوب واحد لتربية الطفل أو المراهق عبر الموقف الواحد، فقد يوجه الأب ابنه نحو ضرورة القيام بسلوك معين فى موقف معين ثم تأتى الأم بعد ذلك أو فى نفس الموقف لتبدى توجيهاً مختلفاً تماماً أو حتى على العكس تماماً مما ذكره الأب، والعكس صحيح، من هنا ينشأ الطفل متشتت الشخصية، غير قادراً على اتخاذ قراراً وتحمل مسئوليته. ولا يقتصر الأمر على هذا النحو فحسب، فأيضاً قد نجد أن كلا الوالدين لا يتفقان حول أساليب الثواب والعقاب نحو السلوك الواحد فى الموقف الواحد، فقد تدعم الأم طفلها على سلوك إيجابي فى موقف معين من وجهة نظرها ثم يأتى الأب ليعاقب الطفل على نفس السلوك فى موقف آخر. أو قد يقوم أحدهما بإثابة الطفل بشئ معين عن سلوك إيجابي معين، ثم يأتى الآخر ليثيبه أو يدعمه بشئ آخر ـ قد لا يرغبه الطفل ـ عن نفس السلوك الإيجابي الذى سبق وأن قام به، ليرتبط بذلك السلوك الإيجابي بشئ غير مدعم للطفل، فلا يكتسبه أو يتعلمه، ومن ثم لا يصدره من جديد. أو قد يحدث أن كلا الوالدين معاً يُبديا قَبولاً أو ابتساماً بسلوك معين يصدره الطفل فى موقف معين ـ كأن يقوم بقذف الكره على وجه أخيه الأكبر أثناء اللعب ـ ثم يُعَاقبه الوالدين على نفس الفعل، إذا ما قام به أمام الضيوف أو الغرباء.
ثالثاً: عدم التعبير عن الذات: وهى من أكثر المشكلات التى تهدد البناء الأسرى للفرد شيوعاً، وفيها يقهر أحد الوالدين أو كلاهما الأبناء فى التعبير عن آراءهم فى المواقف المختلفة، ويريد الوالدين خاصة الأب أن ينصاع إليه كل أبناءه الكبير منهم قبل الصغير، وقد يبرر ذلك أو حتى لا يبرره، وفى حال ما إذا برره فإنه يستند على أشياء ترتبط بضرورة نفاذ سلطته وأوامره كَرب لهذه الأسرة، وبناءاً على خبراته المكتسبة وتنشئته الأسرية السابقة تتبلور توجيهاته لأبنائه، ويغفل عليه اختلاف نمط التنشئة، والبيئة، والثقافة، وعوامل التعلم المختلفة، فيصبح الأب بذلك متصلباً أسير خبراته السابقة، وعوامل تنشئته والتى قد لا يشترط أن تكون متوافقة مع أبنائه فى مجملها، ومن ثم يفتقد الأبناء مهارة التعبير عن الذات، وتوكيد الذات فى المواقف الاجتماعية المختلفة، بل والأكثر من ذلك قد يصاب بعضهم باضطرابات نفسية مختلفة أبرزها القلق والخوف أو الرهاب الاجتماعى، واضطراب سؤ التوافق.
رابعاً: الحماية الزائدة والتدليل الزائد: قد تمثل الحماية الزائدة والتدليل الزائد أحد أغلب أنماط المشكلات الأسرية الشائعة فى كافة المجتمعات. وفيها يقوم أحد الوالدين أو كلاهما نتيجة خبراته الخاصة، والتى قد تكون على سبيل المثال متمثلة فى فقد أحد الأبناء من قبل، أو فى شدة وقسوة تربية أسرة أحد الوالدين، بالمبالغة فى توفير كافة احتياجات الطفل أو المراهق داخل الأسرة، بل والأكثر من ذلك محاباة الطفل عند قيامه بسلوك سلبى غير مرغوب به، وهذا ما يعرف بنمط التدليل الزائد، وفى نفس الاتجاة قد يأخذ أحد الوالدين أو كلاهما نمطاً أكثر تصلباً بحيث لا يترك أى مجال للطفل أو المراهق يسمح فيه بقدر من الاستقلالية والاعتماد على الذات، فيبالغ فى حمايته بكل الأشكال والسُبل التى قد تمثل عبئاً على الطفل أو المراهق لا يستطيع تحمله، وهذا ما يعرف بنمط الحماية الزائدة، وكلا النمطين يؤديان إلى مسار و مآل مرضى، تتسم فيه الشخصية بالاعتمادية، والسلبية، وضعف القدرة على اتخاذ القرار، ومن هنا تستفحل الصراعات داخل الأسرة، ويلقى كل طرف من الوالدين بالمسئولية على الطرف الآخر، وبينهما تتضارب شخصية الطفل أو المراهق، ليجد بذلك المرض النفسي الثغرة التى ينفذ منها والدرب الذى يسير عليه.
خامساً: المقارنات المستمرة والمبالغة فى التوقعات: قد يتصور البعض للوهلة الأولى أن مثل هذه المشكلة تقوم على العامل الاجتماعى أو الاقتصادى فحسب، ولا يُعد ذلك بالتصور الخاطئ، إلا أنه ليس بالتصور الجامع المانع. فقد تشمل المقارنات المستمرة داخل بعض الأسر، اتخاذ أحد الوالدين بها نمط مقارنة مستواها الاقتصادى والاجتماعى بأسرة أخرى، وقد يلقى ذلك على الطرف الأخر، كأن تقارن الزوجة حالها وحال أسرتها بغيرها من الأسر الأكثر ثراءً أو الأثقل مكانة فى المجتمع، مما يمثل ضغطاً قوياً على الزوج بوصفه رب الأسرة المسئول عن حالها الراهن، وقد يعيقه ذلك على تحمل صعوبات الحياة، ومن ثم يتدهور أداءه الوظيفى، وتبدأ الصراعات وتتفاقم نتيجة المقارنات المستمرة. أما التصور الأشمل والأكثر ضراوة وخطورة لهذه المقارنات، حين يتعمد أحد الوالدين أو كلاهما مقارنة أبنائهما ببعضهما البعض، أو بغيرهما ممن هم فى نفس المرحلة الدراسية أو الطور الزمني، بدافع من التحفيز والرغبة فى رفع كفاءة الأداء سواء الدراسى أو الاجتماعى، الأمر الذى قد يترتب عليه شعور الأبناء بالتمييز والتفرقة من ناحية، وبالغيرة والغضب من ناحية أخرى. ومثل هذه المشكلات يقع فيها كثير من الآباء والأمهات دون وعى، بالإضافة إلى ذلك، قد يبالغ أحد الوالدين فى حجم التوقعات والمسئوليات المطلوبة من الطرف الأخر، أو الملقاة على عاتق أحد الأبناء، مما يجعله باستمرار فى حالة ضغط، وسعى مستمر لتحقيق هذه التوقعات، وفى حالة عدم القدرة على بلوغها وتلبيتها، يصاب الفرد داخل الأسرة بالإحباط، وينشأ الشعور بالعجز المكتسب، ويميل للعزلة والانسحاب الاجتماعى، وتبدأ أعراض الاكتئاب المرضى فى الظهور والتفاقم، وتنشأ الصراعات التى قد تؤدى إلى انهيار البناء الأسرى.