و بعد نحو الساعة اصطحبني إلى المنزل، و تركنا أمّي مع رغد... و التي كانت تغط في نومٍ عميقٍ بعد جرعةٍ من المخدّر...
وليد لم يتحدّث معي طوال الوقت... بل كان ذهنه شارداً لأبعد حدود... و فور وصولي للمنزل ذهبتُ إلى غرفتي مباشرة و أخذتُ أبكي إلى أن تصدّع رأسي فأويتُ إلى الفراش...
عندما استيقظتُ لم أكن بحالة أفضل إلا قليلاً و قرّرتُ أن أخبر وليد بتفاصيل ما حصل البارحة... حتى تتضح له الحقيقة و يتوقـّف عن توجيه الاتهام الفظيع لي.
لم أكن قد نمتُ غير ساعةٍ أو نحو ذلك... و توقّعتُ أن أجد وليد مستلق ٍ على سريره في غرفته و لكنني لم أجد له أثراً في المنزل...
و استنتجتُ أنه عاد إلى المستشفى...
أنا لا أدري ما القصّة التي قصّتها رغد عليه للحادث بيد أنني لا استبعد أن تكون قد أوهمته بأنني دفعتُ بها عمداً من أعلى الدرج...
لكن.. و الله يشهد على قولي... كان ذلك حادثاً غير مقصودٍ إطلاقا... و لو كنتُ أتوقّع أن ينتهي بها الأمر إلى غرفة العمليات لما كنتُ اعترضتُ طريقها و لتركتها تحمل هاتف زوجي إليه و أنا أتفرّج...
(زوجي) كلمة لم أعرف معناها... كما لا أعرف حقيقة الوجه الآخر لوليد
فالنظرات و التهديدات و الطريقة الفظّة العنيفة التي عاملني بها هذا الصباح تكشف لي جوانب مرعبة من وليد لم أكن لأتوقّعها أو لأصدّق وجودها فيه... و قد بدأتْ بالظهور الآن...
هذا الرجل قتل شخصاً عندما كان في قمّة الغضب... و مهما كان السبب فإن الخلاصة هي أن الغضب قد يصل بوليد إلى حد القتل !
اقشعرّ بدني من الفكرة البشعة فأزحتها بعيداً عن تفكيري هذه الساعة و حاولتُ شغل نفسي بأشياء أخرى... كترتيب و تنظيم أثاث المنزل و ما إلى ذلك...
كنتُ قد رأيتُ فراش وليد مبعثراً حين دخلتُ غرفته بحثاً عنه... و الآن عدتُ إليها لأرتّب الفراش و أعيد تنظيم الغرفة... كالمعتاد
و أثناء ذلك، و فيما أنا أرفع إحدى الوسائد رأيتُ شيئاً غريباً !
كانت ورقة فوتوغرافية ممزّقـَة... و أجزاؤها موضوعة تحت الوسادة
بفضولٍ جمعتُ الأجزاء و شرعتُ بإعادة تركيبها إلى أن اكتملتْ الصورة الفوتوغرافية
فظهرتْ صورةٌ لطفلةٍ تبتسم و بيدها دفتر رسم للأطفال و أقلام تلوين...
و من التاريخ اتّضح لي أنها التُقِطتْ قبل نحو 13 عاماً...
الأمر أثار فضولي الشديد و تعجّبي... لـِمَ يضعُ وليد صورة قديمة و ممزّقة لطفلةٍ ما تحت وسادته ؟؟
لكن لحظة !
دقّقتُ النظر إلى ملامح تلك الطفلة... و إذا لم تكن استنتاجاتي خاطئةً فأعتقد أنني عرفتُ من تكون.... !
دعوني وحدي رجاء ً !
أنا في حالة ذهول ... و لا أريد قول المزيد !
~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~
ظلّتْ رغد نائمة لثلاث ساعات أخرى بعد المنوّم و أنا و الخالة إلى جانبها...
كنتُ أراقب أي تغيّر يطرأ عليها... الصغيرة كانت تهذي أثناء نومها و ذكرتْ أمّي أكثر من مرّة... و كانتْ في كل مرّة... تطعن قلبي دون أن تدرك...
تركناها تنام دون أي محاولةٍ لإيقاظها... إذ كنتُ في خشيةٍ من أن تداهما الحالة العصبية الجنونية تلك مرّة أخرى...
و عندما فتحتْ عينيها تلقائيا ً تسارعتْ نبضات قلبي قلقاً… و تشدّقت بها عيناي مستشفـّتيـْن حالتها… بدتْ هادئة و مستسلمة... نظرتْ من حولها و لم تُظهر أية ردّة فعل … كانت متقبّلة لوجودنا أنا و الخالة إلى جوارها... تركناها بصمتٍ في انتظار أي كلمةٍ أو حركة ٍ أو إشارة ٍ منها، و لمّا لم يصدر عنها شيءٌ، و للهفتي في الاطمئنان عليها، تجرّأتُ و سألتها بتردد:
" صحوة حميدة صغيرتي... هل أنتِ بخير؟ "
هربتْ رغد من نظراتي و رأيتُ فمها يتقوّس للأسفل... لكنها تمالكتْ نفسها و لم تبكِ...
هنا حضر الطبيب المشرف على رعايتها... لتفقدها و قد تجاوبتْ مع أوامره و أخبرته أنها لم تعد تشعر بالألم. تحدث إليها مشجعا و طمأنها إلى أنها تحسّنتْ كثيرا و حاول حثـّها على تناول الطعام، لكنها بطبيعة الحال رفضتْه.
على الأقل أنا مطمئنٌ أكثر الآن إلى أنها لم تُجنّ، و أن حالتها النفسية الفظيعة تلك قد زالتْ... و أن ضغط دمها مستقر و الحمد لله...
بعد خروج الطبيب التفتُّ إليها مجدداً و سألتها :
" صغيرتي... أخبريني ... هل تشعرين بتحسّن؟ "
كنتُ متلهفاً جدا لسماع أي كلمةٍ مطمئنةٍ منها هي... فأنا لا يهمّني فقط أن يكون وضعها الصحي مستقراً... بل أريد أن تشعر هي بأنها بخير و تخبرني بذلك...
حرّكتْ رغد يدها اليسرى نحوي فأسرعتُ بضمها بين أصابعي مؤازرة ً... و قلتُ :
" أنتِ بخير... ألستِ كذلك؟ ..."
كانت تنظر إليّ و لكنها لم تجب.. بدتْ غارقة في بئر من الحزن... رققتُ لحالها و قلتُ مشجعا:
" كلّميني يا رغد أرجوكِ... قولي لي أنكِ بخير...؟؟ أنا أحتاج لأن أسمع منكِ... "
نطقتْ رغد أخيرا :
" وليد "
شددتُ على يدها و قلتُ بلهفة :
" نعم صغيرتي... هنا إلى جانبك... أكاد أموتُ قلقا عليكِ... أرجوكِ... أخبريني أنكِ بخير... طمئنيني عليكِ و لو بكلمةٍ واحدةٍ... قولي لي أنّك بخير و أفضل الآن... هل أنتِ كذلك؟؟ "
قالت رغد أخيرا... و هي تقرأ التوسل الشديد في عينيّ :
" الحمد لله "
كررتُ بامتنان :
" الحمدُ لله... الحمدُ لله "
و عقّبتْ الخالة :
" الحمد لله "
حرّكتْ رغد يدها اليسرى نحو رجلها المصابة و بأطراف أصابعها ضربتْ فوق الجبيرة... ثم سألتْ :
" كم ستظلّ هذه ؟ "
كان الطبيب قد أخبرني مسبقا بأنها ستظلّ بالجبيرة بضعة أسابيع... و خشيتُ أن أذكر ذلك فتصاب الفتاة بإحباطٍ هي في غنىً تام عنه... فقلتُ :
" ليس كثيراً كما أكّد الطبيب... كما أنك ِ ستغادرين المستشفى إن شاء الله خلال أيام"
و الجملة طمأنتها قليلا... فصمتتْ ثم عادتْ تسأل :
" و الجامعة ؟ "
قلتُ :
" سأتّصل بهم و أخبرهم عن أمركِ "
قالت ْ و هي تستدير نحو الخالة ليندا :
" و السفر ؟؟ "
فأجابتْ الخالة :
" نؤجّله إلى أن تتحسّن صحّتك و تستعيدين عافيتك إن شاء الله "
فأخذتْ رغد تطيل النظر نحو يدها رجلها المصابتين… و تزفر التنهيدة خلف الأخرى بمرارة…
مددتُ يدي مرّة أخرى و أخذتُ أمسح على جبيرة يدها المصابة مواسياً و أنا أقول:
" اطمئنّي صغيرتي… بلاءٌ و سينفرج بإذن الله… ستتعافين بسرعةٍ بحوله تعالى "
قالتْ و كأن في ذهنها هاجس ٌ تريد أن تستوثق منه :
" هل سأستطيع المشي؟ "
قلتُ بسرعة:
" طبعا رغد… إصابتكِ ليستْ لهذه الدرجة "
فقالتْ متشكّكة :
" ألستَ تقول هذا لتهدئتي فقط ؟ لا تخف ِ عنّي شيئا "
أجبتُ مؤكداً :
" أبدا يا رغد.. أقسم لك أن هذا ما قاله الطبيب… هل كذبتُ عليكِ من قبل ؟؟ "
و ليتني لم أسأل هذا السؤال… لأنها نظرتْ إليّ نظرةً قويّةً ثم قالتْ :
" أنت أدرى "
ابتلعتُ نظرتها و جملتها… و قد حضر بذهني كيف كانتْ في العام الماضي تنعتني بالكذاب، لأنني أخلفتُ بوعدي لها بألاّ أسافر دون علمها و سافرتُ مضطرا…
الخالة ليندا قالتْ مؤيدة :
" أكّد الطبيب ذلك على مسمعٍ منّي أنا أيضاً. ستشفين تماماً بمشيئة الله… تحلّي بالصبر و قوّي أملكِ بنيّتي "
و سرتْ بعض الطمأنينة في قلب الصغيرة و إن بدا على وجهها شيء من القلق و هي تقول :
" الحمد لله... المهم أن أعود و أمشي طبيعياً... و أرسم من جديد "
و فهمتُ أن جلّ خوف رغد هو من أن تصاب بإعاقة لا قدّر الله في رجلها أو يدها... و صرفتُ الوقت في طمأنتها و تشجيعها و رفع معنوياتها....
قضيتُ النهار بكامله مع رغد... ما بين قراءة القرآن و الاستماع لتلاوته عبر التلفاز... و مراقبة و دعم رغد بين الحين و الآخر... و اطمأننتُ و لله الحمد إلى زوال حالة الهذيان الغريبة التي انتابتها صباحاً
و رغم الإرهاق الذي سيطر عليّ قاومتُ و تابعتُ إظهار صمودي و تماسكي و تأقلمي مع الوضع... من أجلها هي... من أجل أن تصمد و تتشجع و تستمد القوة منّي... و إن كان داخلي في الحقيقة منهاراً بشدّة...