تفتق الصبح من رحم السماء ،لتنبلج أولى الخيوط الذهبية للشمس ،معلنة مع صياح الديك عن ولادة يوم جديد،مختلف عن سابقه في تفاصيله وأحداته .
[size=18] استيقظت فاطمة من نومها، تثأبت بتتاقل ونهضت من مخدعها في ركن من أركان تلك الغرفة الحقيرة، فركت عينيها ،وفتحت النافذة ليزكم أنفها النسيم العليل، منعشا روحها وطاردا ما تبقى من النوم من جسدها النحيف، نظرت إلى ابنها الذي ينام في ركن آخر من الغرفة ،لازال المسكين يغط في نوم عميق ،تأملت مليا ملامح وجهه الطفولية البريئة وتنفست بعمق لكم تتمنى رؤيته يذهب مع أقرانه إلى المدرسة، ويتعلم لكي يصبح في المستقبل موظفا براتب شهري محترم، ينقذهما من هذا الفقر المدقع ،لكن ما باليد حيلة منذ وفاة زوجها الذي لم يترك لهما شيئا يقيهما ويلات الحياة ،وهي تكافح وتكابد من أجل ضمان لقمة الخبز لها ولصغيرها الذي كان مايزال رضيعا، فقد عملت في الحقول موسم الحرث والحصاد، وهي تحمله فوق ظهرها،لكن رغم هذا التعب المضني، إلا أن ماتكسبه بالكاد يكفيهما لسد بعض حاجياتهما أما الأخرى فقد تنازلت عليها عن مضض.[/size]
[size=18] كبر وليد وأصبح فتى يافعا ،حاول اقتسام هذا الحمل الثقيل مع أمه ،رغم صغره فقد أصبح هو من يرعى ماشية أهل قريته ،فتارة يعطوه بعض النقود ،وتارة يجودون عليه ببعض الملابس ،فرغم أن أهل قريته يعانون أيضا من الفقر ،إلا أن وضعهم أرحم قليلا من وضعه وأمه .[/size]
[size=18] استفاقت من غفوتها وأيقظته من نومه ،فتح عينيه ونظر إلى وجه أمه، إبتسم إبتسامة أشرق معها وجهه الوسيم، وخاطبها قائلا :صباح الخير يا اغلى وأروع مخلوق على وجه البسيطة ،اجابته والإبتسامة تعلو محياها :صباح الخير يافلذت كبدي ؛ضمته إلى صدرها وقبلته وقالت له : إستعد يابني ،فقد حان موعد ذهابك، أسرع قبل أن تشرق الشمس وتشتد حرارتها،عند عودتك ستجدني قد أعددت لك وجبة الافطار .[/size]
[size=18]غسل وجهه وإنتعل حذائه ووضع نايه في جيب سترته الممزقة، أمسك عصاه وتوجه صوب القرية ليتسلم قطيع الماشية.[/size]
[size=18]قاد القطيع الكبير صوب المرعى المقابل للغابة الكبيرة ،التي يروي عنها سكان القرية أساطير كثيرة، فمنهم من يدعي أن العفاريت تسكنها ،ومنهم من يقول أن هناك أرواحا شريرة تستوطنها ،إلى غيرها من الأقاويل التي لا يصدق وليد أيا منها ،صحيح أنه حرم من نعمة التعلم ،وصحيح أن سنه مازالت صغيرة، إلا أن الله وهبه عقلا حكيما .[/size]
[size=18] جلس فوق تلة مطلة على سهل كبير، من فوقها يراقب كل قطيعه ،يخرج نايه الذي يعتبره أعز صديق له في هذا الخلاء، يعزف عليه أعذب الألحان ،حتى أن القطيع يرفع رأسه لينظر إلى وليد وهو ينثر موسيقاه عبر الأثير، حقا الموسيقى غذاء الروح بغض النظر أصاحب تلك الروح عاقل أم لا، ينظر إلى الأفق فيرى السماء بزرقتها الصافية، فيغوص فيها متأملا صنيعة الخالق المتقنة ،ينظر إلا الغابة المترامية الأطراف الباسقة الأشجار، فيحس برهبة تسري في روحه، ظلام دامس يلفها نظرا لتشابك الأشجار الذي يمنع إنسلال أشعة الشمس فتظل غارقة في ظلام مخيف .[/size]
[size=18]نظر إلى قطيعه فوجد كبشين كبيرين يستعدان للقتال، يبتعد كل القطيع خوفا من بطشهما، تابعهما يتناطحان حتى تسيل الدماء منهما ،وهو يعرف أن الكبش ذو الرأس الأسود سينسحب نظرا لأن الآخر أكبر حجما وقرونه أكبر ،دائما تتقاتل الأكباش فيما بينها لزعامة القطيع وللأستحواد على الأناث ،أما المنهزمين فيبقون ضمن القطيع حتى يصبحوا أكثر قوة ويعودوا للقتال حول الزعامة .[/size]
[size=18]أحس وليد بعينين متقدتين تراقبان القطيع من بين الأشجار ،فجأة خرج من الغابة ذئب أسود ضخم نافشا شعره، واللعاب يسيل من فمه ،وأنيابه كبيرة مستعدة للفتك بلا رحمة ،توجه نحو القطيع ،فتفرق في كل ألإتجاهات، كل يفر بجلده خوفا من الموت، حتى الكبش الزعيم خاف وابتعد، ترك الاناث وهي بدورها تركت صغارها ،أمسك وليد بعصاه ونزل مسرعا نحو الذيب وقف وجها لوجه معه، نظر إلى عينيه مباشرة كم هما مخيفتين ومتقدتان ،لوح بعصاه ،تراجع الذيب بضع خطوات إلى الوراء ،وانقض عليه ،حاول وليد تفادي الذيب فانحنى بجسده، لكن مخالب الذيب الحادة اصابت يده وسقطت العصى منها ،تحسس يده دون أن يبعد نظره عن الذيب ،فأحس بالدماء تسيل منه ، تراجع الذيب قليلا وأستعد للإنقضاض مرة أخرى ،أحس وليد أن نهايته قد أوشكت ،لن يفلت من مخالبه هذه المرة ،سيمزقه بلا رحمة وسيلتهمه ،تذكر نايه ،دس يده في ثنايا سترته ،أخرجه وأغمض عينيه وعزف عليه لحنا حزينا أسماه لحن الحياة ،كل من سمعه ،شعر بأن روحه تغادر جسده لتلامس السماء ،ولتقبل وجه البحر ،ولترقص مع النسيم ،ولتتمل بأريج الورود ،ولتضم القمر ،ولترتدي عقدا مرصعا بالنجوم .إنتهى من العزف وفتح عينيه، ليجد الذيب ينظر إليه بعينين سوداويتين، ثم فجأة ،ودون سابق إنذار غادر ليعود إلى الغابة .[/size]
[size=18]أعاد الناي الى جيب سترته ،ونظر إلى القطيع ليجده قد تجمع مرة أخرى، يرعى كأن شيئا لم يكن ،حمل عصاه وقاد القطيع ليعود إلى القرية. [/size]