هذا الموضوع برعيت مسابقة الغموض الكبرى
خلصت دراسة لفريق بحثي بريطاني، في دورية "ذي بروسيدينيج أوف رويال سوسيتي"، أن التغييرات التي طرأت على مصر، وحولتها من أراض زراعية متناثرة إلى دولة مركزية، قد جرت "بوتيرة أسرع مما كان يعتقد سابقا"، وأصبحت مصر أول دولة في التاريخ تحتفظ بحدود ثابتة. وهو أمر يتناساه الكثير من مثقفي مصر، وعامّتها، بل هم لا يبحثون في تاريخهم وفق "روح جماعية" متأهّبة دوما لقراءة الماضي واستثماره في بناء الحاضر.
نشر الموقع الإلكتروني لهيئة الإذاعة البريطانية "بي. بي. سي" تقريرا عن البحث عنوانه "دراسة أثرية: نشوء الدولة في مصر كان فريدا من نوعه"، ولكن فلاسفة الفيسبوك، ونشطاء ما بعد الثورة، والمتخصصون في فتاوى الثورة والثورة المضادة والإرهاب الرسمي والديني وحظر التجول، هؤلاء الفلاسفة تجاهلوا الأمر كله، واهتموا باسم الملك "عحا"، أول ملوك مصر بعد "نارمر"، نظرا لما تحمله كلمة "عحا" من دلالات سوقية في فنون الاعتراض.
تاريخ خواجاتي
تذكرت هذه الروح، لأننا نردد حكاية أن وراءنا حضارة 7 آلاف سنة، ولا نعنى حتى بمعرفة الملوك البارزين في التاريخ المصري. نمنح الفنادق والمحال التجارية أسماء "مينا" و"أحمس" و"اخناتون" و"توت" و"حور محب" و"رمسيس"، ولا يشغلنا من يكونون، وفي أي عصر عاشوا، وماذا بقي منهم؟ انشغلنا فقط بالسخرية من اسم الملك "عحا"، وبدا الأمر اكتشافا.
تذكرت هذه الروح بعد انجراف عام ومريح، وراء السخرية، وتجاهل نتائج دراسة لا يشغلنا منها إلا اسم "عحا" الذي يرد في جملة واحدة. ولكن روح الجماعة، لا أريد أن أكتب "روح القطيع"، تتجاوز الإخوان والسفليين إلى غيرهم، حتى يموت كثيرون في أنفسهم أشياء من الحضارة المصرية، وفيها لا يكون موحد الشمال والجنوب، صاحب التاجين، مؤسس الدولة نحو عام 3300 قبل الميلاد هو الملك مينا "نارمر"، بل مينا "نعرمر".
أما الملك "عحا" الذي تولى بعده فهو "عحا"، مرة أخرى هو "حور عحا"، والاسم يعني "حور الذي يحارب"، هو التجسيد البشري للإله حور، الذي أصبح اسمه بسبب الغزاة الإغريق "حورس". وقد عاد إلينا علم المصريات مترجما عن دراسات كتبها خواجات لا يستطيعون نطق حرف "العين"، وأصبح "عحا" هو "عحا"، وصار "رعمسيس" هو "رمسيس"، ولكن اسم العائلة نجا من لعنة اللسان الاستشراقي الخواجاتي وظل "الرعامسة" رمزا لقوة البلاد.
قراءة لاتاريخية
قبل فترة صدر كتاب من ألف صفحة عنوانه "البيان في روائع القرآن" لتمام حسان، الذي خصص فصلين لا علاقة لهما بقضية الكتاب، ليتناول فيهما (قصة يوسف عليه السلام) و(بني إسرائيل في القرآن الكريم). وهو ليس متخصصا في التاريخ ولا الآثار، ولكن الأمر إذا تعلق برمسيس فكأنك في ميدان، وترى الناس يضربون شخصا ويسبونه. في الزحام لن تتحقق أو تسأل، بل ستصب غضبك من أشياء أخرى وأشخاص آخرين على الرجل الذي يتم ضربه. تبدو القضية في حالة رمسيس كأنها نوع من جلد الذات، أو مصادفة سيئة تتفق مع بحث عن عدو يليق بخرافات اليهود.
يقول مؤلف الكتاب: "إذا افترضنا أن يوسف ظهر في عهد الأسرة الخامسة عشرة، وأن بينه وبين موسى أسرتين ملكيتين هكذا بالنص! هما السادسة عشرة والسابعة عشرة، فلربما رأينا الزمن بين هذين النبيين كافيا لنشوء جالية إسرائيلية محدودة العدد مجتمعة في إقليم واحد، بحيث يمكن أن يقودها إلى الخلاص شخص واحد". في مثل هذا الموقف الجاد لا يشفع للمؤلف الهاوي أن يقول "افترضنا" أو "ربما" وكأنه يردد مقولات العهد القديم الأسطورية. وبلا مبرر يتطوع أيضا ويقول مجرد "كلام" يحاول أن يدفع به إلى مستوى "الحقيقة"، فيتحدث عن قرائن وإشارات، في حين تقول أبسط قواعد أو مبادئ التحقيق العلمي إن إثبات الشيء يحتاج إلى أدلة ثبوتية لا قرائن وإشارت. يقول المؤلف: "ثمة قرائن تشير إلى أن فرعون موسى هو رمسيس الثاني".
فرعون موسى
من القرائن التي احتجّ بها تمام حسّان على اعتبار فرعون موسى هو رمسيس الثاني أن رمسيس الثاني صاحب أطول مدة قضاها أحد الفراعنة على عرش مصر، فلقد ظل رمسيس الثاني في الحكم سبعة وستين عاما وذلك زمن يمكن أن يولد فيه الإنسان ويشب ويبلغ مبلغ الرجولة كما وقع لموسى عليه السلام.
كما أن في أخلاق هذا الفرعون جانبا من العدوان والتسلط وحب الذات وعدم الأمانة جعله لا يبالي بأن يمحو أسماء الفراعنة السابقين من بعض الآثار ليسجل اسمه عليها فيسرق تاريخهم ليضيفه إلى نفسه. فلا عجب أن يقف من بني إسرائيل أولا ومن موسى ثانيا مثل هذا االموقف.
وأما القرينة الأخرى، التي اعتمدها تمام حسان ورأى فيها النقطة الثالثة وإن كانت لا ترقى إلى درجة القرينة، فتحمل عبرة أكثر مما تحمل دلالة جازمة، وهي ما اكتشفه القائمون على الآثار في مصر أخيرا من أن مومياء رمسيس الثاني تعاني من نمو بعض الطحالب فيها وأنها الوحيدة من مثيلاتها التي ظهرت فيها هذه الآفة ومن ثم أرسلت إلى فرنسا لعلاج هذه الظاهرة. والمعروف أن الطحالب كائنات مائية، فنموها دليل على تعرض موضعها للماء وإذا كان الأمر كذلك فإن مومياء رمسيس تكون قد تعرضت ذات يوم للماء أي الغرق في البحر".
ميتة رمسيس
كان على المؤلف أن يردد صيحة أرخميدس: "وجدتها"، بدل الاتهام، ويمكن استخدام خطابه ذاته في مناقشته، فقد كان هذا الملك بناء عظيما، حكم سبعة وستين عاما (تقريبا بين عامي 1237 و1304 قبل الميلاد)، ملأ فيها البلاد بآثاره ومنشآته، فكيف يتفق هذا مع النص القرآني الذي يقول إن آثار فرعون دمرت: "وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون" (الأعراف 137)، وكذلك قوله "فدمرناهم تدميرا" (الفرقان 36)، فلماذا لم ينل هذا التدمير من آثار رمسيس وإنجازاته المعمارية؟ ألا تبرئ هاتان الآيتان رمسيس الثاني من الأساطير الإسرائيلية التي اختارت هذا الرمز الأشهر لملوك الدولة الحديثة "عصر الإمبراطورية نحو 1200-1567 قبل الميلاد" للانتقام من مصر والمصريين. كان بنو إسرائيل في عصره قبائل من البدو الرحل، أدنى بكثير من التطور العقلي التنظيمي الذي يؤهلهم ليكونوا شعبا أو دولة.
يقول المؤرخون وعلماء الآثار إن رمسيس العظيم مات في فراشه "موتة ربنا"، بنص تعبير البسطاء في مصر إلى الآن. هذا وحده يدعو إلى الشفقة على الدكتور "تمام" وغيره من هواة جلد الذات، بلا سبب، وخصوصا أنه يعترف بأن رمسيس العظيم ظل في الحكم سبعة وستين عاما ومات في الثالثة والتسعين، ولا يمكن تصور أن يخرج رجل، في هذه السن، على رأس جيش لمطاردة قوم موسى الذين لم يعودوا إلى مصر، على الرغم من خلو البلاد من الحاكم الغارق في أوهامهم.
والحين وصلنا نهيت الموضوع :123:
اتمنا اعجبكم
منقول :شكراً::