مـا قُـدّر يكـون كان أحد الملوك يهتمّ بأمر رعيته بشكلٍ دائمٍ. وفي أحد الأيام خطر بباله أن يطوف في نواحي مملكته مُتكتّمًا، فيستطيع أن يطّلع على رأي أبناء رعيّته فيه، وعلى ما يحتاجون إليه، فيُلبّي مطالبهم من دون أن يعلموا أنّه عرفها منهم.
تخفّى الملك بملابس لا تدلّ عليه. وكذلك فعل وزيره. وخرجا يطوفان في المدينة وضواحيها، ويقعدان إلى التّجار والعمّال والفلاّحين ويتحدثان إليهم، ويسألانهم عن أحوالهم، وعن ملكهم، كأنّهما غريبان لا يعرفان شيئًا عن بلادهما. وصلا إلى بيت فلاحٍ فقيرٍ، فجلسا يستريحان عنده، فقدّم لهما الفلاّح طعامًا، فأكلا وشَكَرا له ضيافته. كان للفلاح طفلٌ صغيرٌ في مثل عُمر بنت الملك، رآه الملك بين ذراعيّ أمه. وكان الوزير مّمن يقرأون المُستقبل في الوجوه وتقاطيعها، فقرأ على جبهة الطفل أنّه سيكون، حين يكبر، صهر الملك. فأخبر الملك سرًا بذلك. فضحك الملك وقال له: " لن أدعه يتزوّج ابنتي، فهو سيشبّ فقيرًا حقيرًا، ولن يصلح أن يكون زوجًا لبنت ملك. وسأريك كيف أمنعُ هذا الزّواج". نادى الملك الفلاّح وسأله إن كان إبنه هذا وحيدًا. فقال الفلاح: كلاّ! إن له أخوةً ثلاثةً. فقال له الملك: إنّ لا أولاد لي، وأريد أن أتبنّى ولدًا وأربّيه وأعلّمه وأورّثه ثروتي الكبيرة. هل تعطيني الطّفل ما دام عندك ثلاثة أولاد غيره؟ تردّد الفلاح وزوجته في بادئ الأمر، ولكنّهما فكّرا بمستقبل ابنهما في رعاية هذا الرّجل الغنيّ الذي سيُربّيه تربيةً حسنةً ويعلّمه، كما سيورثه ثروةً كبيرةً يمكنه معها أن يساعدهما ويساعد إخوته. فرضيا بما عرضه عليهما. وقدّم لهما الملك مبلغًا من المال ليُحسّنا أوضاعهما. حمل الوزير الطفل وسار مع الملك حتّى وصلا إلى نهرٍ، فتناول الملك الطّفل من الوزير وقذفه في النّهر وقال للوزير: أرأيت كيف أكذّب المُقدَّر؟ فليتزوج بنتي بعد الآن! فقال الوزير: لن تستطيع يا ملك الزّمان أن تغيّر شيئًا ممّا قدّره الله. سوف ينجو هذا الطّفل ويتزوّج ابنتك. فضحك الملك ساخرًا من تفكير وزيره، ورجعا إلى القصر. أمّا الطفل فحمله تيّار النّهر حتى قذف به في مجرى ماءٍ يدير حجر مطحنةٍ، فسدّ الطفل الفوهة، ونقص الماء عن الحجر، فوقف عن الدوران. فظنّ الطّحان أن صخرةً وقعت في المجرى فسدّت فوهته، فصعد إلى سطح المطحنة ليرى السبب، فوجد طفلاً ناشبًا بين قضبان الحديد الموضوعة على الفوهة، فانتشله، فرآه ما يزال حيّا، فعطف عليه، وحمله إلى زوجته وطلب منها أن تعتني به كما تعتني بأولادها، ففعلت. ولمّا كبر الولد أرسله الطحّان مع أولاده إلى المدرسة، وشهد له أساتذته بالذّكاء والإجتهاد. وبعد بضع سنين أكمل علومه ونال شهادته. ففرح به الطحّان وأسرته، وأخذ يُفكّر في عملٍ يليق بمعارفه. في إحدى الأيام خرج الملك ووزيره إلى الصيد، ومرّا بالأرض التي فيها المطحنة وجلسا يستريحان في ظلّ إحدى الأشجار، فذهب الطحّان ودعاهما للإستراحة عنده، فقبلا دعوته، وذهبا معه. وفي بيت الطّحان رأى الوزير الولد الذي كان الملك قد ألقاه في النّهر، وكان قد صار شابًا، فعرفه وقال للملك هامسًا: هذا هو الولد الذي ألقيته في النهر، نجا وشبّ، وسوف يتزوج ابنتك! قلق الملك، وسأل الطحان: أهذا الشّاب ولدك؟ فقال الطّحان: كلا! وأخبره كيف وجده في فوهة المطحنة فربّاه كأحد أولاده، وعلّمه، وهو اليوم يسعى ليجد عملاً يليق بمعارفه. فقال له الملك: لا تشغل بالك بالأمر، سآخذه إلى بلاطي وأعيّنه في منصبٍ حسنٍ. فدعا الطّحان للملك بطول العمر. وكتب الملك رسالةً إلى الملكة يقول فيها: حينما يصلُ الشّاب الذي يحمل هذه الرّسالة، مُرِي بقتله فورًا. ووقّع الرّسالة وختمها وسلّمها إلى الشّاب، وقال له أن يأخذها إلى الملكة، وهي تضعه في المنصب الذي يليق به. حمل الشّاب الرسالة وذهب إلى قصر الملك. ولمّا وصل شعر بالتّعب وقد أجهده الحر، فاستراح قليلاً في ظلّ جدران القصر العالية. وشعر ببرودةٍ لذيذةٍ، فنعس وتمدّد على الأرض فأغفى، وكانت نومته تحت نافذة بنت الملك. وصادف أن أطلّت بنت الملك من نافذتها فرأت شابًا نائمًا تحتها، فأعجبها شبابه، فانحدرت إليه لترى ما شأنه، فوجدته مغفيًا وفي يده رسالة، فأخذتها من يده من دون أن يشعر، وفتحتها وقرأتها، فاستاءت من أبيها، وحنّت على الشاب، وشعرت بحبٍ له، فمزّقت الرسالة، وأسرعت إلى غرفتها، فكتبت رسالة غيرها قالت فيها لأمها عن أبيها: حينما يصل هذا الشّاب إليك زوّجيه حالاً بابنتنا ولا تراجعيه. وقلّدت إمضاء أبيها وختمت الرّسالة ووضعتها قرب يد الشّاب وعادت إلى غرفتها. لم يلبث الشاب أن استيقظ، ففرك عينيه ونهض، وقرع باب القصر، ففتح له خادم. فأخبره أنّه يحمل رسالةً من الملك إلى الملكة. ولمّا قرأتها تعجّبت من عجلة الملك في تزويج بنتها بشابٍ لا تعرفه. ولكنّها لمّا نظرت إليه أعجبها شبابه، وكلّمته فأعجبها لطف كلامه، فنادت ابنتها وسألتها: هل تريدينه زوجًا؟ فأجابت بالإيجاب، فزوّجته إيّاها. بعد يومين عاد الملك من الصّيد، وما إن دخل القصر حتى رأى الشاب الذي أمر بقتله يتنزّه مع ابنته في بستان القصر، فذهل وسأل أحد الخدم: مَن هذا الشّاب؟ فأجابه: إنّه زوج ابنتك الأميرة. فغضب الملك ودخل يسأل الملكة كيف زوّجته ابنتهما مع أنه أمرها في رسالته أن تقتله. فناولته الرّسالة التي وصلت إليها، وقرأها، فتعجّب لتغيّر ما كان قد كتبه في رسالته، ونظر إلى التّوقيع فرأى أنّه توقيعه. فالتفت إلى الوزير مذهولاً. فقال له الوزير: "أما قلت لك يا ملك الزمان أنّ ما قُدّر لا بُدّ من أن يكون". فأذعن الملك للأمر الواقع وجعل الشاب في منصبٍ سامٍ يليق بصهر الملك. |