بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلماً، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
معرفةُ سيرةِ النبيِّ فرضُ عينٍ على كل مسلم :
أيُّها الأخوة الكرام، كلُّ عامٍ و أنتم بخيرٍ، أطلَّتْ علينا ذكرى ميلادِ رسول اللهِ صلى اللهُ عليه و سلم، و ذكرتُ البارحةَ في الخطبةِ أن الاحتفالَ بعيد المولد النبوِيِّ الشريف له وجهان؛ الوجهُ الأولُ أنك إذا أردتَ أن تعرفَ رسولَ اللهِ فهذا من صُلْبِ الدين، و أردت أن تعرف سنّتَه القوليةِ، وهي فرضُ عينٍ، لماذا تصلِّي الظهرَ؟ لأن الصلاة فرضٌ، و هل يخطر في بالك أن معرفةَ سنّةَ رسول الله القوليةِ فرضُ عينٍ كالصلاة و الصيام و الحج و الزكاةِ؟ و إليكم الدليلُ : ما لا يتمُّ الفرضُ إلا به فهو فرضٌ، و ما لا تتِمُّ السنَّةُ إلا به فهو سنَّةٌ، و ما لا يتم الواجبُ إلا به فهو واجبٌ، الوضوءُ فرضٌ لأن الصلاةَ لا تتم إلا به، حينما قال الله تعالى:
﴿ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾
[سورة الحشر: 7] كيف تأخذون ما آتاكم و تنتهون عما نهاكم إن لم تعرفوا ما آتاكم وما نهاكم؟ الاحتفالُ بعيد مولدِ رسول الله يبدأ من الآنَ و إلى نهاية الحياة، يجبُ أن تطلبَ العلمَ كلَّ يومٍ، من أجل أن تتراكم الحقائقُ، و معرفةُ سيرةِ النبيِّ فرضُ عينٍ كالصلاة، و الدليلُ:" ما لا يتم الواجبُ إلا به فهو واجبٌ" ؛ قال تعالى:
﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾
[سورة الأحزاب: 21] كيف يكون النبيُّ أسوةً حسنةً إن لم نعرف سيرتَه ؟ كيف كان في بيته و مع أهله و أولاده و مع جيرانه و مع إخوانه؟ و كيف كان مع أعدائه؟ و في حضره و سفره؟ في سِلمه و حربه؟ في حزنه و فرحه؟ يجب ان نعلم علمَ اليقين أن معرفةَ سنةِ النبيِّ القوليةِ و العمليةِ فرضُ عينٍ على كلِّ مسلمٍ.
تعليم الأولاد محبة رسول الله :
شيءُ آخر، قال تعالى:
﴿ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾
[سورة هود: 120] النبيُّ عليه الصلاة و السلام وهو سيِّدُ الخلق و حبيبُ الحقِّ يزدادُ قلبُه ثبوتاً إذا تُلِيَتْ عليه سيرةُ نبيٍّ دونَه، فكيف بمؤمنٍ مُقصِّرٍ يستمع إلى سيرةِ سيِّد الخلق وسيِّدِ الأنبياء و المرسلين؟ النبيُّ الكريمُ قال:" أدبوا أولادكم على ثلاثة ؛ على حب نبيكم و حب آل بيته و تلاوة القرآن..." بِرَبِّك هل تأديبُ الولدِ يكون بقولك له: يا بُنيَّ أحِب رسول الله؟ كلامٌ لا معنى له، يجب أن تحدِّثه عن رسول الله، و أن تتلُوَ عليه أخلاقَ رسول الله و شمائلَه و مواقفَه و أحوالَه، من أجل أن يحبَّه، و الإنسانُ يحبُّ ثلاثةَ أشياءَ، يحبُّ الجمالَ و الكمالَ و النَّوالَ؛ وهو العطاءُ، فالذي يعطيك تحبُّه، و الكاملُ كمالاً رائعاً لو لم ينلك من كماله شيءٌ تحبُّه، الذي ينالُك من كماله شيءٌ تحبه، و تحبٌّ النوالَ، و الجميلٌ تحبُّه .
و أجملَ منك لم ترَ قطُّ عيني و أكملَ منك لم تلد النساءُ
خُلِقــــــــــتَ مُبرَّءًا من كلِّ عيــب كأنك قد خُلِقتَ كما تشـــــاءُ
***
أخلاق الرسول الكريم و أصحابه :
أيها الأخوة الكرامُ، لمَّا نتحدَّث عن سيَرِ المنحرفين و الظالمين يتعكَّر القلبُ، أما جرِّبْ الحديثَ عن رسول الله، الكمالُ المطلَقُ، و عن أصحابه الكرام، سيِّدُنا الصدِّيق له جيرانٌ عجائزٌ كان يحلب لهم الشِّياهَ، فلما صار خليفةَ المسلمين أُخبِر أنهم في حزنٍ شديدٍ، لأن هذه الخدمةَ لن تستمرَّ، و في صبيحة اليوم الأول من تسلُّمه الخلافةَ طُرِق بابُ إحدى العجائزِ، قالت لابنتها: افتحي البابَ، فلما فتحت قالت من الطارِق يا بنيَّتي؟ قالت: جاء حالِبُ الشاةِ يا أمَّاه، سيدنا الصديق حالبُ الشاةِ، استمعْ إلى التواضعِ، و إلى الرحمةِ، و إلى الكمالِ، و إلى الصِّدق، و إلى العطاء، و قال النبيُّ عليه الصلاة و السلام: "كل ثلاثة على راحلةٍ..." قائد الجيش و رئيس الدولة و نبيُّ هذه الأمةِ سيّد الخلق و حبيبُ الحقِّ رسولٌ الله، ركب النبي و سار صاحباه، فلما جاء دورُه في المشيِ توسَّلا إليه أن يبقى راكبا فقال عليه الصلاة والسلام: "ما أنتما بأقوى مني على السير، و لا أنا بأغنى منكما عن الأجر" هذا رسول الله، و كانوا مرةً في سفر و أرادوا أن يعالجوا شاةً، قال أحدُهم: عليَّ ذبحُها، و قال آخرُ: عليَّ سلخُها، و قال آخرُ: عليَّ طبخُها، فقال عليه الصلاة و السلام: و عليَّ جمعُ الحطبِ- اختار أشقَّ الأعمالِ- قالوا: نكفيك يا رسولَ اللهِ، قال: أعلم أنكم تكفونني و لكن اللهَ يكرهُ أن يرى عبدَه متمَيِّزا عن أقرانه، إذا كانت لك زوجةٌ و أخطأتْ معك تخلع رقبتها؛ جاء لعائشةَ طبقُ طعامٍ من عند ضرَّتها صفيَّةَ، فأصابتْها غِيرةُ النساءِ فأمسكتْ الطبقَ و رمتْه أرضًا و كسرتْه أمام النبيِّ، ماذا فعل النبيُّ؟ جمع أشتاتَ الطبقِ فقال: "غضبتْ أمُّكم غضبتْ أمُّكم.." هكذا كان في بيته، و أرسل خادماً في حاجةٍ فأطالَ كثيرًا، حتى غضب النبيُّ، فلما عاد قال: و اللهِ لولا خشيةُ القصاص لأوْجعتُك بهذا السِّواكِ، رحمة و إنصافٌ، و الأنصار أعلنوا له صراحةً أنهم غاضبون ومتألِّمون، جاء زعيمُهم سعدُ بنُ عبادةَ قال: يا رسولَ اللهِ إنَّ قومي وجدوا عليك في أنفسهم؟ قال: لِمَ؟ قال: لهذا الذي وزَّعْتَه في الناس و لم يُصِبْ منه الأنصارُ شيئًا، قال: يا سعدُ أين أنت من قومك؟ قال: ما أنا إلا من قومي، فقال: اجمعْ لي قومَك ـ
الآنَ النبيُّ في أعلى درجات القوةِ بعد حُنيْنٍ و فتح مكةَ دانتْ له الجزيرةُ العربيةُ من أقصاها إلى أقصاها، وآخرُ معركة هي حنين وانتصر فيها ووزَّع الغنائمَ، و صار أقوى رجلٍ في الجزيرةِ، في مكة عشرةُ آلاف سيفٍ متوَهِّج ينظرون إليه، فقال: ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخٌ كريمٌ و ابنُ أخٍ كريمٍ، قال: اذهبوا فأنتم الطُّلقَاءُ- و الفاتحون من بني البشرِ الطُّغاة الذين يأمرون جنودهم بالقتل و التعذيب والسرقة و النهب انظر ماذا يفعلون؟ - قال: اذهبوا فأنتم الطلقاءُ، قال له أبو سفيانَ: يا بنَ أخي ما أعقلَك و ما أحكمَك و ما أوصلَك و ما أرحمك ـ فجمع الأنصارَ و قال لهم: يا معشرَ الأنصارِ مقالةٌ بلغتْني عنكم، وجَدةٌ وجدتموها عليَّ في أنفسكم من أجل لُعاعةٍ من الدنيا تألَّفتُ بها قوما ليسلموا، و وكَّلتُكم إلى إسلامكم يا معشر الأنصارِ ـ الآنَ تصوَّروا ماذا يقول النبيُّ؟ بإمكانه أن يُلغِيَ وجودَهم و يقتلهم وهذا لن يكون، و بإمكانه أن يهدرَ كرامتهم يقول: إنهم منافقون و انتهى الأمر، و بإمكانه أن يعاتبهم لصالحه و بإمكانه أن يهملهم، ماذا فعل؟ ذكَّرهم بفضلهم عليه، قال: "يا معشرَ الأنصار أما إنكم لو قلتم فلَصدَقْتُم و لصُدِّقتُم، أتيتَنا مُكذّوَباً فصدَّقناك، وطريداً فآويناك، ومخذولاً فنصرناك- ذكَّرهم بفضلهم عليه- يا معشرَ الأنصار ألم تكونوا ضُلَّالاً فهداكم اللهُ بي؟ ألم تكونوا عالةً فأغناكم اللهُ؟ ألم تكونوا أعداءَ فألَّف بين قلوبكم؟ أما ترضوْن أن يذهب الناس بالشاةِ و البعيرِ وترجعوا أنتم إلى رِحالكم برسول اللهِ؟ - لأنَّه لما فتح مكةَ ؛ بلدَه قالوا: أَيُعقَلُ أن تبْقى يا رسول الله؟ فقال: معاذ الله ! بل المحْيا مَحياكم والممات مماتُكم، وُلِدَ بِمَكَّة ثمّ أخْرجوه منها ثمَّ فَتَحها ثمَّ لا يرْضى أن يبْقى فيها - أما ترْضَون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترْجِعوا أنتم بِرَسول الله إلى رِحالكم، اللهمّ ارْحَمِ الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار، وما سلَك الأنصار شِعبًا، والناس شِعْبًا إلا وسَلكْتُ شِعْبَ الأنصار، فبَكوا حتَّى أخْضلوا لِحاهم " هذا هو النبي عليه الصلاة والسلام ؛ البيت الذي لا يحوي كُتب السيرة لا خيْرَ فيه، وبيت لا تمْر فيه جِياعٌ أهْله، سيّدُ الخَلْق الذي أكْرمهُ الله، وعصَمَهُ، وجعلهُ مُشَرِّعاً وقُدْوَة، ابْحَث كيف كان ينام؟ وكيف كان يُعامِل الناس؟ فَعِكْرِمَة أسْلَم وكان أبوه أعْدى أعداء رسول الله - أبو جَهْل- جَمَعَ النبي أصْحابَهُ وقال:" جاءَكم عِكْرِمَة مسْلِمًا فلا تسُبُّوا أباه، لأنَّ سبِّ الميِّت يؤْذي الحي ولا يبْلُغ الميِّت" ما هذه الأخلاق ؟؟! وهذا ابن أبي سلول طلبَ قبل مَوْتِهِ قَميص النبي عليه الصلاة والسلام فألْبسَهُ القميص بِنَفْسِهِ وهو على فِراش الموت !! وكان سيِّد المنافقين، فهو صلى الله عليه وسلَّم ترفَّقَ به مِن أجل ابنِهِ، ووفاءً معه.
اسْتِجابة الناس لِرَسول الله هي عَين الاسْتِجابة لله :
أيها الأخوة، نحن شِعارنا في الاحْتِفال بِهذا اليوم المجيد أنْ نقرأ سيرة النبي عليه الصلاة والسلام ؛ كي نعرفَ مَن هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:
﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾
[سورة القصص: 50] فاسْتِجابة الناس لِرَسول الله هي عَين الاسْتِجابة لله تعالى.
والحمد لله رب العالمين
منقول لامانة