روى مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: 1- عيسى ابن مريم. أعتقد أن الجميع يعلم القصة 2- وصاحب جريج. وكان جريج رجلا عابدا، فاتخذ صومعة، فكان فيها، فأتته أمه وهو يصلي، فقالت: يا جريج!. فقال: يا رب! أمي وصلاتي. فأقبل على صلاته، فانصرفت. فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت: يا جريج!. فقال: يا رب! أمي وصلاتي. فأقبل على صلاته، فانصرفت. فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت: يا جريج!. فقال: أي رب! أمي وصلاتي. فأقبل على صلاته. فقالت: اللهم! لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات. فتذاكر بنو إسرائيل جريجا وعبادته، وكانت امرأةٌ بغي، يُتمثل بحسنها. فقالت: إن شئتم لأفتننه لكم. قال: فتعرضت له، فلم يلتفت إليها. فأتت راعيا كان يأوي إلى صومعته، فأمكنته من نفسها، فوقع عليها، فحملت، فلما ولدت، قالت: هو من جريج. فأتوه فاستنزلوه، وهدموا صومعته، وجعلوا يضربونه، فقال: ما شأنكم؟. قالوا: زنيت بهذه البغي، فولدت منك. فقال: أين الصبي؟، فجاءوا به. فقال: دعوني حتى أصلي. فصلى، فلما انصرف أتى الصبي، فطعن في بطنه، وقال: يا غلام! من أبوك؟. قال: فلان الراعي. قال فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به. وقالوا : نبني لك صومعتك من ذهب. قال: لا. أعيدوها من طين كما كانت، ففعلوا.
3- وبينا صبي يرضع من أمه. فمر رجل راكب على دابة فارهة وشارة حسنة، فقالت أمه: اللهم! اجعل ابني مثل هذا. فترك الثدي وأقبل إليه فنظر إليه، فقال: اللهم! لا تجعلني مثله. ثم أقبل على ثديه فجعل يرتضع. قال: فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحكي ارتضاعه بإصبعه السبابة في فمه، فجعل يمصها. قال: ومروا بجارية وهم يضربونها ويقولون: زنيت. سرقت. وهي تقول: حسبي الله ونعم الوكيل. فقالت أمه: اللهم! لا تجعل ابني مثلها. فترك الرضاع ونظر إليها، فقال: اللهم ! اجعلني مثلها. فهناك تراجعا الحديث. فقالت: حلقى!. مر رجل حسن الهيئة فقلتُ: اللهم! اجعل ابني مثله. فقلتَ: اللهم! لا تجعلني مثله. ومروا بهذه الأمة وهم يضربونها ويقولون: زنيت. سرقت. فقلتُ: اللهم! لا تجعل ابني مثلها. فقلتَ: اللهم! اجعلني مثلها. قال: إن ذاك الرجل كان جبارا. فقلت: اللهم! لا تجعلني مثله. وإن هذه يقولون لها: زنيت. ولم تزن. وسرقت. ولم تسرق. فقلت: اللهم! اجعلني مثلها( .
كلام الرضيع في المهد من المعجزات؛ لأن التكلم لا بد له من تعلم، ومن تفكير، والرضيع يفتقر إليهما. لكن الله تعالى يضرب الأمثال ويخلق المعجزات رحمة بالعباد؛ حيث خلقهم وهو يعلم قدر ما فيهم من غفلة، تحجب عنهم العبر وفهم الرسالة الإلهية، فلا بد لهم من صدمة، تنبه عقولهم الغافلة، توقظ فيهم الفهم والاعتبار.. تلك الصدمة هي المعجزة؛ الأمر غير المألوف: صبي رضيع يتكلم بالمهد. وفوق كونه رضيعا يتكلم، فهو على الفطرة التي لم تتلطخ بانحراف في الدين أو في الخلق، فهو يتكلم بها؛ بالصفاء والنقاء والطهر، وهي رسالته ؟. قال تعالى عن عيسى عليه السلام: {قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا * قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا * وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا * وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا * والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا}. نطق أول ما نطق بأصل الدين، وهو الإيمان بتوحيد الله تعالى وحده لا شريك له، لم يتخذ ولدا ولا صاحبة، قال تعالى: {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا}. ثم تكلم بإثبات النبوة، وبأصل العبادات: الصلاة والزكاة. وبأصل الأخلاق: بر الوالدين، وترك التجبر وأفعال الأشقياء؛ الذي يؤذون الناس بغير حق. أما عن خبر جريج الراهب، فإنه كان يصلي فنادته أمه ثلاث مرات، وهو يقدم الصلاة على الاستجابة، حتى دعت عليه أن يرى وجوه المومسات، فكان ذلك، وفي هذا بيان: أنه إذا تعارض واجب ومستحب، قدم الواجب. فصلاة جريج كان نافلة، وهذا فيما يظهر، واستجابته لأمه واجبة، فاختار جريج صلاته، فقدم المستحب، فكان الحق ل أمه عليه، فلم تفوت حقها، فدعت عليه، فكان ما كان. وإن كانت صلاته فرضا، ففي وسعه أن يستجيب لأمه، فيقضي حاجتها، ثم يعود إلى صلاته ليتمها؛ لتمكنه من وقت الصلاة، لأنه واجب موسع غير مضيق. لكن لو أنه صلى فرضه في آخر الوقت، فلو استجاب لأمه خرج وقت الصلاة، فمن حقه أن يتمها، وليس من حق أمه عليه أن يستجيب لها؛ لأن حق الله تعالى مقدم على حق البشر. وفي هذا الخبر إشارة خفية، إلى أن صبر الأم – أو الوالد - على ولدها، إن هو لم يطعها خير من دعائها، فإن دعاءها يجلب شرورا تمسه، كذلك تمسها، وكما يشقى بها، تشقى به. فإن أم جريج دعت أن يريه وجوه المومسات، فكان ما دعت به وزيادة، فقد تعرض لفتنة في عرضه، واتهم بالزنا، فجاءه الناس، وأنزلوه من مقامه، وضربوه، وبالقطع فإن أمه لم تكن راضية بما حصل له، بل نادمة على دعائها، فلو أنها صبرت لكان خيرا لها وله، فثمة أوقات للاستجابة. ثم إن الصبر على الفتنة عاقبته خير، ولو بدا غير ذلك؛ فإن جريجا لما لم يستجب لفتنة امرأة جميلة بغي، جاءت تبذل نفسها له بغير عوض، وهو العزب المعتزل، بعيد العهد بالنساء: لم تكن العاقبة في الأول عافية، بل اتهام بالزنا، وإهانة، وشتم وشماته، وضرب وهدم. وفي كل ذلك لم يغير من طريقته في الصبر، بل وثق بوعد الله وبره بعباده الصادقين. وربما كان صبره لشعوره: أن ذلك كفارة لترك الاستجابة لأمه حين نادته. فلما صدق في الصبر، جاءه الفرج: أخذ الله بيده، وألهمه إلى فعل لم يسبقه إليه أحد، وليس في وسع أحد أن يتكهن به، بل هو نفسه لم يظن فعل ذلك يوما، لما سأل الصبي: من أبوك ؟. هكذا يعلمنا الله تعالى من هذا: بر الوالدين، ويعلمهما الصبر على الولد بدل التعجل بالدعاء عليه، ويعلمنا الصبر على فتنة النساء، وعدم الجزع إذ ا كبرت المصيبة، ثم زادت، فالفرج يأتي من سبل غير مألوفة. وفي كلام الصبي الثالث في المهد: تنبيه إلى أن المظاهر الدنيوية ليست بالتي تنبئ عن الحقائق. فذلك المترف، ذو الثوب الفاخر، والمركب الفاره، والسمعة الباهرة، والمتجر الرابح، والمقام الرفيع، ليس بالضرورة أن يكون طاهر القلب والنفس، قد يكون كذلك، وقد يكون جبارا، عنيدا كافرا للنعمة، باغيا في ظلمات الغي والعدوان والكبر والعجب. وآخر رث الهيئة، متواضع المكانة، بسيط المركب، ليس له متجر ولا عظمة ولا مفخرة، وربما اتهمه الناس بالباطل، قد يكون عند الله تعالى مؤمنا، معظما لله تعالى، قائما بشعائره، ليس فيه قلبه غش ولا خداع لأحد، وقد يكون غير ذلك. وقد أنطق الله تعالى الرضيع ليخبر بهذا وينبه إلى هذه الحقيقة، ولو تفكر الناس لرأوا من ذلك مُثلا كثيرة، لكن التنبيه إذا جاء من طريق المعجزة، فإنه يلفت أنظارا هائمة لا تعرف أين تنظر، وقلوبا غافلة لا تشعر بما حولها: ألا يغتروا بالمظاهر، ولا يتمنوا مثل ما لفلان وفلان، ولا يستنكفوا أن يكونوا مثل فلان وفلان.. فرب واحد من هؤلاء خير من ملء الأرض من أولئك، كما في حال قارون. قال تعالى: {فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم * وقال الذين أوتوا العلم والإيمان ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون * فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين * وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون * تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لايريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين}. قال صلى الله عليه وسلم: - (ألا أخبركم بأهل الجنة؟، كل ضعيف متضعف، لو أقسم على الله لأبره. ألا أخبركم بأهل النار ؟، كل عتل جواظ مستكبر). متفق عليه - (احتجت الجنة والنار. فقالت النار: في الجبارون والمتكبرون. وقالت الجنة: في ضعفاء الناس، ومساكينهم. فقضى الله بينهما: إنك الجنة؛ رحمتي أرحم بك من أشاء. وإنك النار؛ عذابي أعذب بك من أشاء، ولكليكما علي ملؤها). مسلم.
. |