الذوق شمعة تضيء حنايا بيت ترابي قديم، لا أكداس من مصابيح الكهرباء تعمي الأبصار، وتشوش الأفكار..
الذوق سراج تترجرج أضواؤه في صمت ليالي الشتاء، وليس حبالا من الأنوار، تتشابك تشابك خيوط بيت العنكبوت.
الذوق لمسة فنية ساحرة تنبض بالحياة في أتفه موجودات الكون، وليس الذوق مجوهرات موشاة برنين المنفعة المادية، مزخرفة بروح التنافس التجاري، تتباهى بها الغانيات، وهن من الفكر والمشاعر خاويات، وبها تسحر رتيلاء الملذات بهائم الشهوات من الفاتنات.
الذوق روح تهيم بالجمال، فتحيله سحرا من الخيال والمحال، وليس الذوق جسدا تكفنه الزخارف والألوان والأشكال.
الذوق لمسة إلهية، تبصمها أنامل الملائكة النورانية على بعض الكائنات، فتحيل ظلام النفوس إلى نهار، وشتاءها الوحل إلى ربيع نضير، وليس الذوق تقويما لملامح الأقدار، وتاريخا يغير خارطة الأعمار.
الذوق حقيقة تسمو على كل عقيدة، وليس الذوق إعلانات على أبواب الخليفة وشعارات على أفواه ساسة المكر والخديعة.
الذوق صوت بلبل يغرد على حافة ساقية، وعصفور يصفر على مداخن مدفأة شتوية، وليس الذوق نهيقا أو خوارا أو نقيقا أو نعيبا تكفن بشاعته الآلات الموسيقية، وتدفن معايبه قرقعات الطبول والدربكات.
الذوق سروال يرتديه رجال باب الحارة، على اختلاف أعمارهم، فيلوح طرفه الخلفي بالرجولة، كما يلوح الكبش بالفحولة، حينما يترنم بطرفه الخلفي أمام شياهه، وليس الذوق بنطالا يعصر مرتديه من الأعلى، ويتهدل من الأسفل كعصير الطماطم تحت المزراب، وليس الذوق قميصا ضيقا كالجوارب على القدمين، وليس الذوق نتفة من الشعر، يبصقها إبليس تحت الشفة السفلى خجلا من بصقها تحت خياشيمه في أمسه المنصرم.
الذوق طبيعة إلهية الصنع، إذا تدخلت فيها يد الإنسان شوهتها، وحرمتها من سحر جمالها وعظمة رونقها وبديع جودتها.
الذوق لمسة فنية، تبدعها مواهب الموهوبين وأنامل المبدعين، فقد تنظر في لوحة الموناليزا التي أبدعتها ريشة الفنان الإيطالي ليوناردو دافنشي، فتراها صورة عادية، ولكنك حينما تتأمل ملامحها بذوق مفعم بالأحاسيس، فإنك تقع على سحر ملائكي في عينييها، وتستشف لغزا يحير أفهام الجهابذة وعمالقة الفن.
لكل منا لمسة، بل لمسات فنية في الحياة، تنم عن ذوق رفيع. فالمرأة الساحرة في بيتها تمتلك زوجها، وتأسر مشاعره، وتسلب فكره، وتذيب روحــه في حناياها بحركة بسيطة أو بإيماءة ذكيــة، أو بكلمـــة لطيفة تنبع من
حنايا قلبها، أو بنظرة إعجاب وتقدير، تفيض من بحر مشاعرها، ولو كانت تعيش على حصير، وليست تلك اللمسة كلمات حرارية محتبسة لا تشع إلا من بريق المجوهرات التي تتكدس على جسدها، ولا يسمع بعلها كلمة طيبة إلا من رنين ذهبها أو ألماسها.
ولكل رجل لمسات فنية تتجلى في أبهى صورها في علاقته بأسرته وبالمحيط الذي يعيش فيه.. في بناء بيته، في حديقته، في كل ركن يجلس فيه، في أصغر جزئياته.
البنّاؤون لهم لمساتهم الفنية التي تعبر عن روعة ذوقهم و رقي مهاراتهم، فهي تحيل كل حجر أصم إلى روح تفيض بالحياة وتنطق بأسمى معانيها الجميلة.
والمهندسون لهم لمساتهم الفنية التي تحكي قصص إبداعاتهم، وتتجلى في موقع البناء واتجاهه وحركة أبوابه ونوافذه، في أعمدته وأسقفه، في تداخل أقسامه وتخارجها، في كل زاوية وركن ينطق عن الهوى.
و راعي الأغنام له براعة فنية تتجلى في حسن قيادة قطيع الأغنام خلفه وهو يمتطي حماره القائد الفذ الذي يسير في صمت، ودون تبجح أو تسلط أو غرور، ودون أوسمة وهمية، في تناغم حركي وموسيقي، يتبعه قائد من جنس الأغنام ( الكبش المرياع ) الذي تم انتخابه من قبل الراعي وصوتت على حسن قيادته جميع الأغنام دون تهميش أحد، فترى الجميع جيشا جرارا منظما، يمشي بخطا وئيدة ومتناغمة نحو المراعي والغدران، والأغنام تملأ الوادي ثغاء مع انبلاج الصبح بكل ما يحمله من جمال وروعة وبهاء ونشاط وحيوية، وخير من رسم هذه اللوحة شاعرنا العربي أبو القاسم الشابي في قصيدته ( من أغاني الرعاة ):
أقبـــــل الصبح جميلا يمـــلأ الأفق بهـاه
فتمـــطى الزهر والطير وأمـــواج المياه
قـــد أفــــاق العـــالم الحـي وغنى للحيـاه
فأفيــقي يا خـــرافي وهلــمــي يا شـــياه
*
***
واتبعيني يا شــياهي بيـــن أســـراب الطيور
واملئي الــوادي ثغـــاء ومـراحا وحبــــور
واسمعي همس السواقي وانشقي عطر الزهور
وانظــــري الوادي يغشّيه الضبـــاب المستنير
لك في الغــابات مرعـــاك ومسعاك الجمـــيل
ولي الإنشـــاد والعزف إلى وقت الأصيل
الذوق منحة إلهية‘ علينا ألا نبخل بها على الآخرين، ويجب أن نغرس بذورها فيمن يبست أرض نفسه من نعمائها، ويجب أن نروي أرواح البشر بزمزمها حتى تثمل وتخضر وتورق وتعطي ثمارها رقيا وحضارة وإنسانية طاهرة نقية من كل دنس ورجس وإثم وقبح وانحدار.