الفصل الثاني
" عندما يمشي الإنسان في الشارع متوجهاً إلى مكانٍ ما ، يشعر أحياناً بأنه لا يعرف لِمَ يذهب إلى ذاك المكان
أصلاً ، يعرف وجهته ، و لكن لا يعرف لِمَ هي بالذات ، لماذا يسلك هذا الطريق من بين كل الطرق الأخرى ؟
هل أمر القدر بذلك فنفذّه هو هكذا ؟ أم أنه فقط يتماشى مع واقعٍ أسود ، لا يمكن العيش معه " .
هذا الكلام ، هو ما كانت كلوديا تحدث به نفسها ، بينما كانت قدماها تأخذانها إلى المكان الوحيد الذي ما زال
يعطيها شيئاً للبقاء على قيد الحياة ، العمل ؛ هو هذا المكان البغيض ، المبنى الذي تصبح فيه خادمة ، تنظف
للناس ، و تفعل ما يريدون ، و لا يحق لها أن ترفض ، أو تعترض ، أو تنبس ببنت شفة .
من بين الجميع هو شاخص للعيان بسبب طول قامته ، يلمحه البعيد حيثما كان ، تزينه كلمة " الألماسة " ،
الكبيرة على واجهته ، هذا هو الفندق ، الذي تعمل فيه كلوديا .
كعادة كلوديا الغربية ، أخذت ثانية تحدق في المبنى ، و ذهبت للخلف ، للدخول من بوابة العاملين ، و بالطبع
قامت بكل الأشياء الروتينية ، مثل التفتيش الجسدي ، و تفتيش الحقيبة .
عندما فتحت الباب الأسود ، توجهت فوراً نحو خزانتها ، فتحتها فرحب بها الفستان ذو اللونين الأبيض و
الأسود ، كان معلقاً فقط ، لكنها شعرت بأنه يقول لها ( هيا ارتديني لتذهبي و تصبحي خادمة ) ، أجل ، هي
منزعجة ، و تكره هذا الفستان كرهاً أعمى ، لكن تمشي الرياح بما لا تشتهي السفن في النهاية .
آخر ثانية ، أخذت آخر ثانية في تلك الغرفة قبل بدء العمل ، في تأمل نفسها في مرآة خزانتها التي احتلت بابها
كله ، و لَمْ تنسى أن تكمّل مظهرها الرسمي للعاملات ، بأن تقوم برفع شعرها ، و ربطه بطريقة تقليدية و مرتبة .
الانعكاس الحزين في كان لصورتها في المرآة ، كان غريباً ، فرغم الجمال الذي حسدتها عليها فتيات كُثُر في
حياتها ، إلا أنها كانت تكرهه ، تكره عينيها الزرقاء التي جعلتها حسناء ، لطالما ذكرها شعرها الأسود الطويل
بالماضي المرير ، بشرتها البرونزية هي ما كان يعطيها أملاً بالحاضر ، لأنها ورثتها عن منبع الأمل في حياتها .
في يدها الممسحة ، و اليد الأخرى مقبض دَلو المياه ، و بجانبها المكنسة الكهربائية ؛ هذا هو
حال كلوديا يومياً ، التنظيف للناس ، و ترتيب غرفهم .
بعد ما يقارب الثلاث ساعات ، كانت كلوديا في غرفة أخرى تقوم بتنظيفها ، و ما إن انتهت ، قامت بما تقوم
به عادة بعد الانتهاء ، ألا وهو إرجاع أدوات التنظيف إلى خزانة خاصة توجد في كل غرفة مخصصة لتلك الأشياء .
أصوات خطوات قريبة تقرع طبلة أذنها ، قلبها كان يدق بسرعة ، خائفة ، متوترة ، لكنها استجمعت ذرات الشجاعة
الباقية لديها ، و وضعت يدها على مقبض الباب ، و أخفضته ، ثم قامت بِجَر الباب في اتجاهها ، فدخل شابان .
كانا أحدهما ذو شعرٍ أسود ، و قد كان صامتاً عند دخوله ، و الآخر فقد كان يضحك و الابتسامة تعلو
وجهه ، و بعض خصلات شعره البني تنساب على عينيه .
توقف صاحب الشعر البني عن الكلام ، ثم أنخفض بعض الشيء ، و يديه مشبوكتان خلف ظهره . أخذ ينظر
لكلوديا قليلاً ، حتى وجد بطاقة أسمها الصغيرة المعلقة على جانب صدرها ، بينما جلس رفيقه على الأريكة
الحمراء ؛ و بدأ بني الشعر حديثه لكلوديا بقوله اللبق :
- عفوا يا آنسة كلوديا ، و لكن ماذا تفعلين هنا ؟
و لأن التوتر قد استعبد كلوديا لديه من دخول الشابان، فهي لَم تتكلم بسرعة ، إنما رفعت رأسها
قليلاً ، ثم أعادته للأسف ، و أجابته بصوتها المتقطع :
- كنت .. كنت أنظف .. هذه الغرفة .
- هكذا إذاً !
لحظة عمها الصمت ، أخذها الشابان في النظر لبعضهما البعض و هما يفكران في
شيء ما ، حتى قاطعتهما كلوديا تستأذن :
- عفواً ، عليَّ الرحيل !
في لحظة همّت بالخروج ، و الابتعاد عن مكانها إلى جانب الباب ، و عن الغرفة كلها ، لولا أن أوقفها الذي
كان يكلمها بأن أغلق الباب ، و ابتسامة ماكرة تعلو وجهه .
وقف صاحب الشعر الأسود واتجه صوب الباب قفله بالقفل ، في حين كان صديقه يجر
كلوديا إلى الأريكة ، و رماها بقوة عليها .
كان الرعب طاغياً في قلب كلوديا ، لَم تدري ماذا تفعل في هذا الموقف الآن ، ظنت أن حياتها سوف تنتهي
، و سوف يضيع شرفها ، و الشابان ينظران لها و ابتسامات خبيثة تملأ وجهيهما .
- هل نبدأ ؟
- لا يمكننا فعل شيء ! سيقتلني أبي !
- إذا فقط بعض اللعب ؟
- أجل .
هذه الكلمات دارت بين الشابان ، ثم نظر إليها صاحب الشعر الأسود ، و قال لها بشكل مخيف :
- إليكِ ما سيحدث : نحن لن نمس شرفكِ ، فقط سوف نقوم باللعب قليلاً معكِ ، لذا ... لا يوجد داعٍ للخوف !
بدأت تلك الأشياء الفضولية بالنزول ، تلك الدموع التي لَم تحتمل البقاء أكثر ، انهمرت ، بينما قالت كلوديا
للشابان و هي بالكاد تخرج الكلمات من بين شهقاتها :
- أ أرجوكما أتركاني ! سـ سأفعل .. سأفعل أي شيء تريدانه ! أتركاني فحسب !
في الوقت الذي لَم تستوعب فيه كلوديا كيف قالت أنها ستفعل أي مقابل تركها ، لسبب ما سَعِد الشابان
بهذا ، فقال صاحب الشعر البني مؤيداً لكلامها :
- أجل ، أجل هذا جيد ، و في الوقت الذي أفكر أنا ماذا ستفعلين لنا ، هو سيذهب معكِ للتأكد من عدم هربكِ ! أليست هذه فكرة ممتازة !؟
و بعد لحظة صمت ، قال الشاب من جديد متسائلاً :
- أعتقد أنكِ من الفترة الأولى ، أليس كذلك ؟
أومأت كلوديا رأسها بالإيجاب ، بعدما توقفت دموعها قليلاً، فقال لها الشاب سعيداً :
- جيد ! إذاً موعد خروجكِ هو الآن !
أمسك بيدها ، و أخذ بجرها نحو باب ، ثم أعطاها ورقة صغيرة بيضاء ، أخرجها من جيبه الخلفي ، و قال لها أن
تعطيها للبواب عند الباب الأمامي للفندق ، فمن هناك ستخرج .
قامت بتبديل ملابس عملها ، إلى ملابسها الخاصة بكل صعوبة ، إذ أن جسدها كان يرفض أن تقوم بإخراج تلك
الملابس ، للمرة الأولى لَم تُرد أن تترك العمل أبداً ، كل ما أرادته هو الهرب ، تمنّت لو أن حياتها كانت قد انتهت
منذ فترة ، لكن لا يحصل الإنسان على كل ما يريد على أي حال !
كان الخوف يتملكها في تلك اللحظات التي كانت متجهة فيها إلى الباب لتخرج ، كانت تجر قدميها جراً ، أرادت
الصراخ لكن شيء ما منعها ، في النهاية عندما وصلت إلى البواب و أعطته الورقة ، سمح لها بالخروج من ذاك
الباب ، لأنه لا يسمح للعاملين أن يدخلوا أو يخرجوا من هناك .
بعدما تركت العامل عند الباب ، كانت السيارة التي لم تكن تراها إلا في أحلامها تنتظرها - ليموزين - تلك السيارة
الكبيرة و الطويلة ، ذات اللون الأسود ، و الشاب ينتظرها أمامها .
بعدما صعدت السيارة ، أصبحت تتحاشى النظر إلى الشاب الذي تعتبره الآن يختطفها ، لكنها أستجعمت شجاعتها قليلاً
و أدارت رأسها من النافذة إليه فوجدته كان ينظر إليها أصلاً ، الأمر الذي جعلها ترتجف و تعيد رأسها فوراً حيث ما كان .