لقد قسم بعض العلماء الإيثار إلى مراتب ودرجات، فقد قال
الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:
الأولى: أن تُؤْثِرَ الخلقَ على نفسك فيما لا يخْرُمُ عليك دِينًا،
ولا يقطع عليك طريقًا، ولا يُفسد عليك وقتًا، يعني أن تُقدمهم على
نفسك في مصالحهم، مثل: أن تطعِمهم وتجوع، وتكسوهم وتعرَى، وتسقيهم
وتظمأ، بحيثُ لا يؤدي ذلك إلى ارتكاب إتلافٍ لا يجوز في الدين، وكلُّ سببٍ
يعود عليك بصلاح قلبك ووقتك وحالك مع الله فلا تؤثِر به أحدًا،
فإن آثرت به فإنما تُؤْثِر الشيطان على الله وأنت لا تعلم.
الثانية: إيثارُ رضا الله على رضا غيره وإن عظمت فيه المحن
وثقلت فيه المؤن وضعف عنه الطول والبدن ، وإيثار رضا الله عز وجل على
غيره، هو أن يريد ويفعل ما فيه مرضاته، ولو أغضب الخلْق، وهي درجة الأنبياء، وأعلاها
لِلرسل عليهم صلوات الله وسلامه. وأعلاها لأولي العزم منهم، وأعلاها لنبينا صلى الله
عليه وسلم، وعليهم، فإنه قاومَ العالم كُله وتجرد للدعوة إلى الله، واحتمل عداوة البعيد
والقريب في الله تعالى، وآثر رضا الله على رضا الخلق من كل وجه، ولم يأخذه في إيثار رضاه
لومةُ لائم، بل كان همُّه وعزْمُه وسعيه كله مقصورًا على إيثار مرضاة الله وتبليغ رسالاته، وإعلاء
كلماته، وجهاد أعدائه؛ حتى ظهر دين الله على كل دين، وقامت حجته على
العالمين، وتمت نعمتُهُ على المؤمنين، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة ونصح
الأمة، وجاهد في الله حق جهاد، وعبد الله حتى أتاه اليقين من ربه، فلم ينل
أحدٌ من درجةِ هذا الإيثار ما نالَ، صلوات الله وسلامه عليه.
هذا وقد جرت سنة الله التي لا تبديل لها أن من آثر مرضاة الخلق
على مرضاته: أن يُسخط عليه من آثر رضاه، ويخذُله من جهته، ويجعل
محنته على يديه، فيعود حامدُهُ ذامًّا، ومن آثر مرضاته ساخطًا، فلا على
مقصوده منهم حصل، ولا إلى ثواب مرضاة ربه وصل، وهذا أعجز الخلقِ وأحمقهم.
قال الشافعي رحمه الله: " رضا الناس غايةٌ لا تدرك فعليك بما
فيه صلاحُ نفسك فالزمهُ"، ومعلومٌ أن لا صلاح للنفس إلا بإيثار
رضا ربها ومولاها على غيره، ولقد أحسن من قال:
فليتك تحلُو والحياةُ مريرَةٌ.. .. .. وليتك ترضى والأنامُ غِضَابُ
وليت الذي بيني وبينك عامرٌ.. .. .. وبيني وبين العالمين خرابُ
إذا صحَّ منك الودُّ فالكّلُّ هينٌ.. .. .. وكل الذي فوق التراب تراب
الثالثة: أن تنسب إيثارك إلى الله دون نفسك، وأنه هو الذي تفرد بالإيثار
لا أنت، فكأنك سلمت الإيثار إليه، فإذا آثرت غيرك بشيء؛ فإن الذي آثره هو الحق
لا أنت فهو المؤثر على الحقيقة، إذ هو المُعطي حقيقةً.
لعلّ من أجمل الصفات التي قد يتّصف بها الإنسان هو حب العطاء وتحقيق الخير للآخرين،
وما أقبح وأبشع أن يتّصف بالأنانية وحبّ الذات، حيث دعت جميع الديانات السماوية
والثقافات إلى الإيثار والسخاء والإحساس بالآخرين، لما له من نتائج فردية و مجتمعيّة كثيرة،
فالإيثار سواء كان ماديّاً أم معنوياً يعمل على تقوية الروابط والعلاقات الإنسانيّة والاجتماعيّة
بين الأفراد وأيضاً يعمل على تحقيق الرضا الذاتي والنفسي للفرد والشعور بالطمأنينة والسلام
الداخلي. إنّ الإيثار هو شعور داخلي ونزعه موجودة بداخل كل فرد في المجتمع، ولكن
يحتاج إلى طرق عديدة وأساليب مبتكرة لتثيره في نفس الفرد وتخرجه ليصبح فعل عملي
على أرض الواقع، وعليه فإنّ على كلّ فرد النهوض بنفسه وبمجتمعه، والتحلّي بصفة الإيثار
لما لها من فوائد إيجابيّة تعود بالنفع على الفرد والمجتمع سوياً، ومن أهمّ فوائد الإيثار: انتشار
التكافل والتآخي والتعاون والمحبّة في المجتمع. يحصل المجتمع على كفاية اقتصاديّة وماديّة.
يعمل الإيثار على العلاج من الصفات السيّئة المذمومة، مثل: البخل، والأنانية، والحسد. بالإيثار
يحقق الفرد الرضا النفسي والسلام الداخلي وهو دليل على الخلق النبيل. ومن الناحية الدينيّة،
فإنّ الإيثار يعمل على تحقيق محبة الله ورضوانه، وهو دليل على قوة الإيمان.
مواآقف جميلة وخالدةة في الايثار ♥
ولقد سجل التاريخ بأحرف من نور مواقف خالدة
للمسلمين بلغوا فيها المرتبة العالية والغاية القصوى من الإيثار:
فهذا سيد الخلق وخاتم النبيين وإمام المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم تأتيه امرأة بُبردة فتقول:
" يا رسول الله أكسوك هذه ؟ " فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجًا إليها، فلبسها فرآها
عليه رجل من الصحابة، فقال: " يا رسول الله ما أحسن هذه ؟ فاكسنيها " فقال: " نعم " ،
فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم لامه أصحابه فقالوا: " ما أحسنت حين رأيت النبي صلى
الله عليه وسلم محتاجًا إليها، ثم سألته إياها وقد عرفت أنه لا يُسأل شيئًا فيمنعه، فقال:
" رجوت بركتها حين لبسها النبي صلى الله عليه وسلم لَعلِّي أُكَفَّن فيها " .
وأما أصحابه رضي الله عنهم والتابعون فحدث ولا حرج، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن
رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث إلى نسائه فقلن: " ما معنا إلا الماء، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من يُضيف هذا ؟ " فقال رجل من الأنصار: أنا، فانطلق
به إلى امرأته، فقال: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت:
ما عندنا إلا قوت صبياني. فقال: هيئي طعامك وأصبحي سراجك (أوقديه) ونومي
صبيانك إذا أرادوا عشاء، فهيأت طعامها وأصبحت سراجها ونوَّمت صبيانها، ثم
قامت كأنها تصلح سراجها، فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان، فباتا طاويين،
فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " ضحك الله الليلة
- أو عجب - من فعالكما، فأنزل الله: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة)[الحشر:].
وهؤلاء هم الأنصار يعرض أحدهم على أخيه من المهاجرين
أن يناصفه أهله وماله فيأبى المهاجر ويقول: " بارك الله لك في أهلك ومالك ".
وهذا أبو طلحة أكثر الأنصار مالاً وأحب ماله إليه حديقة تسمى بيرحاء يسمع
قول الله تعالى: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون)[آل عمران:]
فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم معلنًا أنه يتصدق بها لوجه الله تعالى.
وذاك قيس بن سعد بن عبادة يمرض ويتأخر إخوانه عن زيارته فيسأل عنهم،
فيقال له: "إنهم كانوا يستحيون مما لك عليهم من الدَّين، فيقول: أخزى الله مالاً يمنع الإخوان من الزيارة " .
ثم أمر مناديًا ينادي: " من كان لقيس عليه مالٌ فهو في حلٍّ " .
فما أمسى حتى كسرت عتبة بابه لكثرة الزوار.
وإن تعجب فعجبٌ أمر هؤلاء الثلاثة الذين آثر كل منهم أخاه بالحياة،
فقد قال حذيفة العَدَوي: " انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عمٍّ لي،
ومعي شيءٌ من ماء، وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته ومسحتُ به وجهه،
فإذا أنا به، فقلت: أسقيك ؟ فأشار إليَّ أن نعم، فإذا رجل يقول: آه، فأشار ابن
عمي إليَّ أن انطلق به إليه، فجئته فإذا هو هشام بن العاص، فقلت: أسقيك ؟
فأشار إليَّ أن نعم، فسمع به آخر فقال: آهٍ، فأشار هشام: انطلق به إليه فجئته،
فإذا هو قد مات. فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات. رحمة الله عليهم أجمعين " .