• لم تكن تمضي السنَة الفاشلة على تقديم الشِّكايات المقدّمة للبلدية من قِبَل رجالات حارتنا، المحيطة بالأرض المخططة أصلاً لتكون حديقة - حسب تخطيط البلدية - حتى شرَع والدي في إحضار أقلامٍ من أنواعٍ لشجيراتٍ شتّى؛ لغرسها في تلك الأرضِ القاحلة من الجانب المقابل لمنزلِنا المتواضع الصغير!
• كان رجالُ حارتنا المربّعة الكبيرة المحيطة بالحديقة المزعومة - بما فيهم والدي - قد أبدَوا تذمرَهم وانزعاجهم من تباطؤ البلدية الكسول، التي لا تنجز أعمالَها على أكمل وجهٍ، ولا تأبه لِما يحدث للمواطنين، فعلى الرغم من أنَّ مدينتنا المنسيَّة تقع بين "الحماد" من طرف البادية الشامية، ومن الشمال الجزيرة السورية، ويفصلهما عن بعضهما البعض نهرُ الفرات الخالد الَّذي يمرِّر مياهه فيها، ويصبُّها عذبة نقية، فيمر بموكبِه الفضِّي اللامع، وكأنَّه يلقي التحية مسلِّمًا على كِلْتي طرفيها.
إنه يقسِم المدينةَ إلى قسمين متعرِّجين من بداية دخوله إليها وحتى خروجه منها، فتبدو الدير آيةً في الجمال، خضارٌ وبساتين، سواقٍ وجداول ونواعير صغيرة، وحركة سريعة لعمليات الزراعة والتروية، وتبدو للقادم من طرف البادية كأنها واحةٌ كبيرةٌ، غناء واطفة، إلا أنها مع ذلك تبدو بسبب الإهمال المتعمَّد لها وكأنها تُحتضر على فراشها الأخضر، ووسادتها المزهرة، فهي معروفةٌ بجوِّها الحارِّ الجافِّ، وغبارها وعجاجها الصَّيفي الأحمر القاتل؛ ذلك الغبار الكثيف الذي أردى جارَنا أبا عبدالرحمن ذا العقد الرابع، وقد أتعب الكثيرين ممن يعانون من أمراض الرِّئة والتنفس، إنها حالةٌ عصيبة؛ ذلك أنَّ العجاج الصيفي تعوَّد على زيارتنا، وحطَّ ركابه الثقيلة في مدينتنا، على الأقل مرَّتين بموسمه الأبديِّ الخانق!
كانت هنالك أمورٌ كثيرة جعلت الوالدَ يحزم أمرَه، ويصمِّم على تنفيذ عملِه الزراعي المحبَّب إليه، مضى قُدمًا، شدَّ إزارَه، وشمَّر عن ساعديه المفتولين، حنَى ظهرَه العريض في أول مهمةٍ إنسانية عامَّة، شجَّعه على ذلك حبُّ الخير والمعروف!
قام والدي بترتيب الأرض المهملة، وتسويتها على طول عشَرة منازل عن يمينِ وشمال منزلنا.
ومحيا! وقد أرغمت السعادةُ التي شاهدها والدي في نفوس أهل الحيِّ على زيادة نشاطِه الفردي، وقَبوله المعونةَ الجسديةَ من أبنائه الصغار، وكانت لنوعية الأشجار أهميَّةٌ كبيرة عند والدي، أحضر أقلام الكينا والسرو والزيزفون، غرسها بكلِّ رفقٍ وعنايةٍ وتركيزٍ.
• بدت العملية في نظَرِ الأطفال كأنها حديقةُ ألعابٍ مفرحة، الأحاديث مرهفة، وتشجيع والدي لرجال الحارة أحالَ الأرضَ القاحلة إلى جنةٍ رَغَدٍ في ناظرنا، صار كلُّ طفلٍ منا يفكر في المستقبل القريب الذي يتيح له فرصة اللعب، وحرية اللهو بين الأشجار وفوقِها!
ترى الواحد منَّا يذهب لسقاية الأقلام بشكلٍ عفوي طفولي محبَّبٍ؛ مستغلين بذلك غياب المزارعِ الحنون، كنَّا نظن أن كثرة الماء ستُكبر الزريعات بلمح البصر! كنا نأمُل ونحلم كثيرًا!
• كانت الأصداء تبدي للوهلة الأولى علاماتِ الرِّضا وحسن التقدير لوالدي، كنا نراه في كل يومٍ بعد العصر وبعد اعتدال حرارة الشمس المحرقة مع بعض الرجال وهو يسوِّي أمامهم حول الزُّروع، يسقي ويشذِّب منها ما يراه مناسبًا، لم أكن أعلم أن والدي مزارعٌ وفلاَّحٌ ماهرٌ كذلك مع علمي بطيبته! مضى الشهر الأوَّل بأيامه الجميلة، صارت الجهة المقابلة لمنزلنا خضراءَ نديَّة، نبت الكلأ والعشب فيها، غدت الأرض هشَّة رطبةً، أحياها بإذنِ ربِّها مِن بعد موتٍ أصمَّ، بدت كأنها بساطٌ أعجمي منمَّقٌ، يتموج بخضاره ويخضوره.
تحمَّل الوالد عناءَ هذا العملِ الشاقِّ الممتع بحبٍّ وطيب خاطر، كل ما نعرفُه أنه طيِّبٌ يساعد الناس كلَّ الناس، علِمنا أنه في مقرِّ عمله، يعمل على البِرِّ والصلاح والتآخي، فإذا ما جاءت للمديرية التي يعمل فيها شكايةٌ من قِبَل أحد المواطنين، فإنه يقوم على الإصلاح بين الشاكي والمشكو بشكلٍ أخَوي، وعلى بساطٍ أحمدي بسيط، ودون الوصول أو اللجوء إلى القوانين الجارحة؛ مما يجعل الحبَّ أسمى من العقاب!
• لقد كان في نيَّته إذا ما وفِّق بالمرحلة الابتدائية من العمل أن يتابع المسير جاهدًا؛ ليجعل الحديقة المزعومة حديقةً فعليَّة على الواقع، فيضرب بها المثل، وتجلب السعادة والبهجة، وتطرد الكراهية والبغضاء من بين الناس، وذلك من دون الرجوع إلى البلَدية الصورية، فهو كما عوَّدنا صابرٌ حليمٌ، وما أن يأتي من وظيفته حتى يأسِر نفسه للعمل الطَّوعي إلى المغيب!
• كبِرت الأقلام، صارت الشجيرات أشجارًا، تحلَّى العشب بالورود المتباينة، والقسمات المتمايزة، تحقَّق الحلم الطفولي، كبِرنا ولعبنا ولهَوْنا بين الأشجار، أتذكَّر والدي حين كان يطلب مني إعداد الشاي وإحضاره حيث تعود أن يجلس مع رجال حارتنا على ذلك البِساط العامر، أتذكَّره وهو يصلي بين أشجاره الوارفة الجميلة، كم كنت سعيدًا بذلك الواجب اليومي! كم كانت الأيام حُلوةً زكيَّة! يا ليتَها تعود وتبقى!
• مرت السنون، وامتدت الأشجار إلى البيت الخامس من كل جانبٍ لمنزلنا، الأطوال مختلفةٌ، والأحجام متفاوتةٌ، لكنَّ شيئًا كان يكبر ويكبر أكثرَ من كلِّ شيء، إنه قلب أبي! وهَب الحب للجميع، صنع المعروف دون كلَلٍ أو ملالة، لكنَّه نسي الوجه الآخر، نسي السريرة الحمقاء في بعض النفوس الضعيفة، بدأ البعض يتحامل عليه بالحسد والضغينة؛ ذلك لأنه لاقى المدحَ والثناء دونهم، وأصبح اسمه على كل لسانٍ ومجمع! بدأ المتحاملون يُثيرون الفتنَ وكثرة القيل والقال، أُحسهم يقولون: انقطع الماء بسبب الحاج عبدالله! توسَّخت البيوت بسبب أوراق شجر الحاج عبدالله! من ينظف الأفناء بعد سقوط الورق؟ اللعنة على أوراق الشجر! لكنَّهم لا يعلمون.
أحس الوالد المسكين عمقَ الجراح كأنها أعمق من جذور الشَّجر، بدا عليه بعض التحفُّظ والخمول، لم يعد يعتني إلا بأشجارٍ وبساطٍ قدَّامَ منزلنا، ومرت الأيام سراعًا، يبست معظم الأشجار من أمام المنازل، جفَّت وماتت، لكنَّ خمسًا من أشجار الكينا بقِيت أمام منزلنا باسقاتٍ شامخاتٍ نرى فيهنَّ الإجلال والإكبار، كل واحدةٍ منهن تسابق أختَها في الامتداد والتزيُّن، كأنهن يتزيَّنَّ لحفلة عُرسٍ ربيعية، أصبحن يضاهينَ في الطول قمَّة منزلنا ذي الطوابق الثلاثة، لم يكن بالحسبان ما قد يحدث مستقبلاً، كل ما يعرفه أبي أن الحبَّ هدية للجميع، الخير والمعروف صنيعةٌ لله، لم يطلب أجرًا ولا ثمنًا، ولا عونًا ولا مددًا إلا من الله، لم يكن يدري أنَّ بعض القلوب نارٌ بل جهنم، لا تنطفئُ أبدًا.
طرق أحد المارة بابَنا بقوةٍ مرتجفة، كنا نائمين في وقت الظهيرة من الصيف اللاهب، وقتٌ مفضَّل للقيلولة، أيقظَنا العابرُ بصوته ونادى بصوتٍ عالٍ: شجرتُكم تحترق! أصابنا الذُّهول! هُرع والدي كالمفزوع، كنَّا خلْفه، شاهدْنا إحدى شجرات الكينا تحترق من أوصالها، حاولنا إنقاذها، لم يكن باليد من حيلة، سكن الجميع ينظرون إلى موتها المفاجئ، كانت تموت على طقوسٍ هندوسية، تعثَّرت الكلمات بأفواهنا، ماذا نقول؟ نظرنا إلى والدي، اغرورقت عيناه بالدُّموع البريئة، كأنه حاول جاهدًا إنقاذها - فضلاً عن الماء - بدموعه التي لم تُسعفه ألبتة، حاولنا التَّخفيف عنه، قال له أخي الأكبر مواسيًا: لا تبكِ يا أبي؛ ما هي إلا شجرةٌ!
أجابنا بكلماتٍ صدمتْنا، لكننا تعلَّمنا من خلالها أنَّ الحياة حبٌّ وإخلاصٌ حتى لغيرِ بني البشر! أجابنا وكلُّه هَمٌّ وأسًى: كيف لا أبكي وأنا أحسبها واحدة منكم؟! ربَّيتها كما ربَّيتكم، أعطيتُها عمري! كيف لا أبكي؟ إنها أختكم الشجرة!