[size=39]لم تكن قد رحلتْ بعدُ، لكنَّ الإرهاصات والتباشير تقول بأنها راحلةٌ؛ فقد شحب لونُها شحوبًا، وبهت ضياؤها بهوتًا، وتجرَّأ الكلُّ على النظر في وجهها؛ إذ كانوا لا يتجرَّؤون على ذلك وقتَ الظهيرة أو بعد الإشراق.[/size]
[size=39]لم يعبأ الكثير برحيلها كلَّ يوم وحتى ساعة التأهب لهذا الرحيلِ الدامي اللون، وخلعة السماء التي تتحوَّل من مرآة للنِّيل الأزرق إلى قبة سوداءَ؛ حدادًا على الرَّحيل وترقبًا للخلعة الجديدة، مثلما يحدث مع هذا الفتى "علي"، فهو من سكَّان تلك المدينة الرائعة، والمتابع كلَّ يوم وعن كثَبٍ رحيلَها، ويستجلي عظمة الخالق في البعث والنُّشور.[/size]
[size=39]"علي" فتًى في بدايات العَقد الثالث من عمره، يسكن حيًّا يكاد يكون شعبيًّا وسط المدينة الرائعة، الفخمةِ مبانيها، العاليةِ أبراجُها؛ إذ تعكس تلك الصورةُ عُلُوَّ شأن السكان، ومنزلتهم الاجتماعية الرفيعة، يقطن هو الدَّورَ الأخير - "السطوح" كما اعتدنا أن نسمِّيه - مع أمه، رحل أبوه من سنين مضت، لا يدرى متى رحل، لكنَّه يعلم أنه مُذْ وقعت عيناه على مفردات الطبيعة من حوله لم يبصِرْ أبًا له.[/size]
[size=39]وكعادته كلَّ ليلة يقف على قمة سَطح المنزل يترقب وقت انبثاق الأنوار في المحالِّ التِّجارية "المُولات"، ودور السينما، والملاهي، والمطاعم، ونور المآذن؛ إذ يرى كلَّ تلك الجمادات وكأنها تُخرج ألسنتَها له مرة واحدة؛ ابتهاجًا بالليل الطويل، الذي صار نهارًا جديدًا لغالبية سكان المدينة الرائعة.[/size]
[size=39]يرجع أدراجَه يتَّكأ ويدير جهاز المِذياع "الراديو"، منتهى غايتِه سماعُ القرآن الكريم ترتيلاً أو تجويدًا للقرَّاء المِصريين القدامى، أمثال: "الشيخ البنَّا، والحصري، والشيخ المنشاوي" عندما يسمع القرآن الكريم بأصواتهم الشَّجية يُحس بأنه يحلِّق في السماء.[/size]
[size=39]له غرفتُه التي تحرص أمُّه عند ترتيبها ألاَّ تنقُل ورقةً من مكانها إلا إذا سألتْه؛ فهو كاتبٌ، وقاصٌّ، وشاعر، يحب الأدب والشعر، مُرهف الحسِّ.[/size]
[size=39]ليلةً من ذات الليالي حيث كان الصَّيف قد امتد حرُّه لينال آخر ساعات الليل، ظل الفتى الذكيُّ يسمع القرآن تارة، وتارةً يتصفح كتب الشِّعر والأدب، ووافق حينها تلاوة قوله - تعالى -: ﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [يونس: 24].[/size]
[size=39]انتفض الفتى وجعل يُحملق في أضواء المدينة الرائعة، وتجوب عيناه جنَباتِها وناطحاتِها ومبانيَها وتقنياتها المهولة، والآيةُ الكريمة تتردَّد على مسامعه ترديدًا كأنه يرى المدينة لأول مرَّةٍ، وكأنه أيضًا يسمع الآية الكريمة لأوَّل مرة؛ أحسَّ برودةً تلمِس جسده؛ فالتحف غطاءً على كرسيِّه، وغلبه النوم فنام.[/size]
[size=39]من بعيد يبصر كائنين عظيمينِ لهما تقاسيم الوجه البشرى وسَمْتُه، لكن الواحد منهما يكاد يعانق النجوم لفَرْط الطول والضخامة، وإنَّ كفَّ يد الواحد منهما لَيُقلُّ من البشر أمثالِه الكثيرَ والكثير.[/size]
[size=39]يتعجَّب الفتى وتأخذه الرهبةُ والخوف، ينْزوي إلى بعضه البعض، يريد أن يستيقظ لا يستطيع.[/size]
[size=39]يا للهول؟! إنهما يُقبلان عليه إقبالاً كأنهما إليه قادمان بالخصوص، أسند أحدُهما ذراعيه على سور المنزلِ، وكانت أقدامُه تطأ الأرض، يمد إصبعًا من أصابعه الكبيرة صوبَ الفتى ويقول في رقَّة:[/size]
[size=39]السلام عليكم أيُّها الفتى الطيب.[/size]
[size=39]يُحس الفتى ارتياحًا بعض الشيء ويردُّ: وعليك السلام ورحمةُ الله.[/size]
[size=39]المارد الأولُ: لا تخشَ شيئًا، نحن خَلْق مثلُك، خلقنا الله وسوَّانا، لكنَّا زدنا بسطةً في الجسم والرَّسم، نسكن كوكبًا يفوق كوكبَكم مساحة وسَعَة؛ فسبحان الله ربِّ العالمين.[/size]
[size=39]الفتى باستغراب: بسطة واحدة؟![/size]
[size=39]المارد الثاني: وكان فيه رعونةٌ وطيش - ليس كالمارد الأوَّل - سريع البطش، وكثيرًا ما يمنعه المارد الأول من ارتكاب الحماقات وقد غضب قائلاً: نحن في مَهمة يا أخي لا بد من إنجازِها قبل بزوغ الفجر، فلا تنشغلْ بمثل هذا الفتى الصغير.[/size]
[size=39]المارد الأول: عجيبٌ أمرُ هذا الفتى؛ لقد ترَفع عما يشغَل أقرانَه وأترابه، وانشغل بما هو أفضلُ وأزكى، ألا ترى المذياع الذي يرتِّل القرآن؟ وتلك الصور التي تعلَّق، والأبيات والقصائد الجميلة على جدران حجرتِه؛ ناهيك عن الكتب القيِّمة، إن لهذا الفتى لَلُغزًا أتوق لمعرفته.[/size]
[size=39]المارد الثاني: يا أخي، إن البيت الذي يقطُنه هذا الفتى قديمٌ بالٍ، علاوة على السكنى أعلى سطح العَقار، وهذا يعنى أنه أفقرُ سكانه، فليس جديرًا به أن يكون كباقي سكان المدينة الرائعة، فرأى في "الزهد حشمة" كما يقولون.[/size]
[size=39]المارد الأول: كان من الممكن أن ينجرف إلى ما انجرف إليه أترابُه ورفاقُه، لا لا، هذا الغلام غريبٌ ليس عاديًّا.[/size]
[size=39]المارد الثاني: غريب؟![/size]
[size=39]المارد الأول: نعم، غريبٌ في زمن: ((طوبى فيه للغرباءِ))؛ كما قال المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم.[/size]
[size=39]المارد الثاني: وماذا عسانا أن نفعل؟[/size]
[size=39]المارد الأول: اتبعني ولا تسأل.[/size]
[size=39]المارد الثاني مستسلمًا: إن سألتُك عن شيء بعدها، فلا تصاحبني.[/size]
[size=39]تبادلا هذا الحوار، والفتى "علي" صامتٌ وقد اشرأبت عنقُه لهما.[/size]
[size=39]يوجِّه المارد الأول إلى الفتى سؤالاً: أيها الفتى الطيِّب، هل هذه حجرتُك التي تعيش فيها؟[/size]
[size=39]الفتى "علي": نعم، إنها صومعتي ومكتبتي، أنا أقيم مع أمِّي في الطابق الذي يسبقه، لِمَ تسأل؟[/size]
[size=39]المارد الثاني: لقد جئنا لهدم تلك المدينةِ الرائعة العابثِ سكانُها، المنحلَّةِ أخلاقُهم؛ لتصبح أثرًا بعد عينٍ، خرابًا يبابًا، وسوف نبدأ بك وبصومعتِك.[/size]
[size=39]الفتى "علي" في دهشة: ماذا تقول؟ مَن أنت حتى تهدم المدينة بغير ذنبٍ ولا جريرة؟![/size]
[size=39]المارد الأول: يلتفت لأخيه، يرمُقه بعينه، فيسكت ثم يقول للفتى في ثقة:[/size]
[size=39]أيها الفتى الطيب، أترى أنه لا ذنبَ لهم ولا جريرة؟ أتحبُّ أن أحملك في راحة يدي تلك وترى ما يحدث في الملاهي ودور العَرْض من اجتراءٍ على حرمات الله، وشباب عاكف على "شاشات التلفاز" والحاسوب كأنهم عاكفون على أصنامٍ لهم - عياذًا بالله - غيرَ مبالين بالوقت الذي يمرُّ، والدهرِ الذي يكرُّ، ولا الشمس التي تشرق وتسطع، ثم تخبو وترحل، لا يعني الواحدَ منهم القدومُ كما لا يُزعجه الغروب، تقطَّعتْ بينهم الأواصر والعلاقات الإنسانية، وانحسرت في رسالة "إليكترونية أو محادثة عبر الشبكة العنكبوتيَّة"، وأصاب من أسماها بالعنكبوتية، لقد فرضَت عليهم خيوطًا أرقَّ من خيط العنكبوت، وأقوى من حبائل الشيطان؛ أنكروا المعروفَ، وألِفُوا المنكر، لتراهم في اللَّهو الكبير وزمن المجون يلعبون.[/size]
[size=39]صمت الفتى "علي"، ولم ينبِسْ أو ينطق ببنت شَفَة، لقد رأى في الكلام الصِّدقَ الكثير، ولو ألقى الحجج والمعاذير.[/size]
[size=39]المارد الأول يسترسل: إن الفجر سوف يؤذن بعد سُويعات، أتحبُّ أن ترى جملةَ الوافدين على المساجد من الخوالف والقاعدين؟ وقل في العبث ما تشاءُ.[/size]
[size=39]الفتى "علي" يرفع رأسَه ثانية كأنه قد استجمع أفكارَه وما سوف يدافع به ويذود عنهم: اسمح لي سيدي المارد العملاق، فبرغم قوَّتكما وبطشِكما، فلستما بمن يحاسب ويجازي؛ فإنَّ للكون ربًّا، عليه مطَّلعًا، ويعلم السرائر والعلن؛ ولو كان هذا المبدأ لهلك الخلق من زمن سحيق، ثم تلا قول المولى - عز وجل -: ﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ﴾ [فاطر: 45].[/size]
[size=39]المارد الأول مصدِّقًا: صدق الله العظيمُ، لكن لنا من هو أعلى منَّا مكانةً، وأمرنا بأن ندمِّر تلك المدينة الرائعة اللاهية الماجنة، ونجعل عاليَها سافلَها.[/size]
[size=39]الفتى "علي" مندهشًا: أحقًّا تقول؟[/size]
[size=39]المارد الثاني ساخرًا: لا، لقد جئنا نسامرُك حتى يطلع الفجر ويلوح، ثم يستنفر أخاه الماردَ الأول: هيَّا؛ لا وقت لنا، فلنبدأ بهذا العقار وهذا المكَّارِ.[/size]
[size=39]المارد الأول: ينظر للفتى سائلاً، ألديك حجَّة؟[/size]
[size=39]الفتى "علي" مستنكرًا: وهل أنت مَنْ جمعَ البراهين الساطعة، والحجج البالغة على تبرير ذلك الفعل المقدِمِ أنت وأخوك عليه؟[/size]
[size=39]المارد الثاني: لا خيارَ لنا ولا لك.[/size]
[size=39]المارد الأول: سيكون عقارُك هذا الناجي الأوحد في المدينة - بإذن الله - فلست مثلَهم؛ فإنهم المُتْرَفون المُنعَّمون، وأنت العاكف في محراب النُّور إشراقةَ شمسٍ، وذهاب عمرهم بين مَلاَهٍ وحاناتٍ يفنونَه، وأنت بين صلاةٍ وعبادة وكتاب؛ فهل يتساوى نورٌ بظلام؟! أم تقْوَى بفجورٍ؟! أم كسبٌ بتباب؟![/size]
[size=39]الفتى "علي": لا يسرُّني ذلك على الإطلاق، كما يحزنني ما عزمتم عليه.[/size]
[size=39]المارد الأول: ألا يسرك أنْ تكونَ أنت الناجيَ، وترى بعينيك عاقبةَ ومآل الظالمين؟[/size]
[size=39]الفتى "علي" في حميَّة وتعصُّب: وما يدريك بأنهم ظالمون، أطَّلعت على صدورهم؟! سبحان من يعلم خائنةَ الأعين وما تخفى الصدور.[/size]
[size=39]المارد الثاني غاضبًا: أتعبْتَنا أيها الفتى، ثم ينظر لأخيه متعجِّبًا: ما لك هذه المرة متردِّدًا، تتحجَّج برأي فتى غِرٍّ لم يبلغ الرُّشد بعدُ، ما زال بِمَيعةٍ من الحداثة وربيع الأيام.[/size]
[size=39]الفتى "علي": لقد ناهز عمري العشرين بعامين.[/size]
[size=39]المارد الثاني: كم من مناهزٍ ما زال غرًّا.[/size]
[size=39]المارد الأول لا يعبأ بكلام أخيه وينظر للفتى: إذًا ماذا تريد؟[/size]
[size=39]المارد الثاني: تسألُه؟![/size]
[size=39]الفتى "علي" في استحياء: ما دام الأمر لا بدَّ واقعًا كما تقولان، فأستأذنُكم في مهلةٍ؛ لعلَّهم فيها يرجعون، ولعلَّ الله يهديهم إلى سواءِ الصِّراط.[/size]
[size=39]المارد الأوَّل: مهلة؟![/size]
[size=39]الفتى "علي": نعم، مهلة، ثم يستنهض قائلاً: كلُّ الأمم السابقة كان يُمهلها ربُّها، ويملي لها حتى تزدجرَ ويحق العذاب على الكافرين، والأمثلة في القرآن كثيرةٌ، أتريد أن أذكر لك من عهد نوحٍ حتى نبينا محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم؟[/size]
[size=39]المارد الأول: عليه الصلاة والسلام.[/size]
[size=39]الفتى "علي" محفِّزًا: أنت مسلمٌ، أليس كذلك؟[/size]
[size=39]المارد الأول: بلى، أظننتَ غيرَ ذلك؟[/size]
[size=39]الفتى "علي" معاتبًا: وما دمتَ مسلمًا - وكذلك أخوك المتسرِّع هذا في إنزال العقوبة وإلحاق الخراب بمدينتي تلك، ولن يحدث شيءٌ في ملك الله إلا بعلمه وتقديره - أترضى أن تعاقَب أمَّتك بما عوقبت به الأمم السابقة؟ ألسنا أمَّةً مرحومة بنبيِّها ورسالتها السَّمحة؟[/size]
[size=39]المارد الأول: إنَّ هذا الكلام يقال لهم وليس لنا أيها الفتى الطيِّب، وعلى كلِّ حال فقد مُنِحوا مدَّة أسبوع كامل لعلهم يرجعون.[/size]
[size=39]الفتى "علي": أسبوعٌ؟! قليل جدًّا.[/size]
[size=39]المارد الثاني في ضِيق: أيها الفتى المطَّلع، إنَّ في قصص السابقين أقوامًا مُنحوا ثلاثة أيام، والأمثلة كثيرة.[/size]
[size=39]المارد الأول: ألا يكفي أسبوعٌ أيها الغلام؟[/size]
[size=39]الفتى "علي": سيِّدي المارد الطيِّب، إن تقنياتِ العصر وتقدُّمَه جعلتْه أكثرَ تعقيدًا، ولم تعُدِ الحياة بهذه البساطة التي كان عليها النَّاس من زمن النبوة وبعدها حتى مائة عام مضت، إن ثمة تقنياتٍ طرأت وغيَّرتْ سلوكَ وطبائع الناس وسَمْتهم.[/size]
[size=39]المارد الثاني: بل إنها أدعى بإنجاز المَهمة في أقرب وقت.[/size]
[size=39]الفتى "علي" نافيًا: إن الهداية ليست برسالة محمول أو هاتف نقَّال سيدي الموقَّر، فنبيُّ الله "نوح" مكثَ في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا.[/size]
[size=39]المارد الثاني ساخرًا: وهل تريد ألف عامٍ؟[/size]
[size=39]المارد الأول: كم تريد إذًا أيها الفتى الطيب؟[/size]
[size=39]الفتى "علي": سنةً هجريَّةً.[/size]
[size=39]المارد الثاني غاضبًا: إنه يستهزأ بنا هذا الفتى الغِرُّ الأرعن، هيا نحطِّم المدينة ونجعل عاليَها سافلَها، ونخرج قبل بزوغ الفجر.[/size]
[size=39]المارد الأول: عندي حلٌّ وسَط، نقلُّك بدارك هذه وننقُلكما لمدينة بعيدة؛ فلا تبصر مصارع القوم ولا ترى هلاكهم.[/size]
[size=39]الفتى "علي" في جسارة: إن كنت حقًّا لا بدَّ فاعلاً، فبدارِنا فلتبدأ؛ حيث إنِّي مسؤول مثلُهم وأكثر، فكم قرأتُ وعلمتُ وما بلَّغت، والقراءة والعلم أمانةٌ ومسؤوليَّة، لقد أخطأتُ خطأً كبيرًا حين ظننتُ أن البعد عن الناس فيه النَّجاة حتى لو لي وحدي، وما دام المرءُ مطَّلعًا، فعليه تبليغُ ما علِم للناس، فمخطئٌ من ظنَّ أن موضعَه من السفينة ناجٍ ما دام على تُقًى وهداية؛ فديني لم يعرف الرَّهبانيَّة المبتدعة، دينُنا دينُ أمَّة ودولةٍ.[/size]
[size=39]ازداد احترامُ المارد الثاني للفتى "علي" ثم قال له في هدوءٍ: لكنَّ سنةً هجرية مدَّةٌ كبيرة، حَوْلٌ كاملٌ لا يجوز.[/size]
[size=39]المارد الأول: حلٌّ آخر، وهو الأخير أيها الفتى الطيِّب، ورجاءً ألا تناقشنا فيه؛ فلقد جادلتنا وأكثرت جدالَنا، شهر واحد هجريٌّ، ليلة أن يكون فيها البدرُ مكتملاً مثلَ تلك الليلة، وما عليك إلا أن تنزل وتهبِط من صومعتِك هذه، تشاركهم، وتُشاطرُهم، وتبذل قصارى جهدِك، والله المستعان.[/size]
[size=39]الفتى "علي" مستسلمًا: موافقٌ لكنْ...[/size]
[size=39]المارد الأول: لكن ماذا؟[/size]
[size=39]الفتى "علي": مِن الناس من لا يرجعُ إلا إذا ابتُليَ، وذكر قول الله: ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ﴾ [الأنبياء: 35]؛ فهم الآن في ابتلاء النِّعمة، فلو أنهم ابتُلوا ببلاءٍ يصعب عليهم في هذا العصر مواجهتُه إلا بالرُّجوع إلى الله رجاءَ أن يهتدوا، ولقاء أن تنجوَ المدينة مما أُمرتم به.[/size]
[size=39]المارد الأول: ماذا تبغي؟[/size]
[size=39]الفتى "علي": سيِّدي المارد الطيب إن (الطاقة الكهربية) بما تمثِّله من عنصر رئيسٍ وفعَّال في قيام وإنجاز العديد من المهامِّ الحياتية والضرورية لهم - تصبح هدفًا قويًّا للبلاء، ما رأيكما؟[/size]
[size=39]المارد الثاني: تقصد أن نقطعَ عنهم التيار( الكهربي) مثلاً.[/size]
[size=39]الفتى "علي": الكهرباء، وكل ما يُعزى القيام به للطاقة بأنواعها المختلفة.[/size]
[size=39]المارد الأول: أصبتَ والله يا فتى، ولكن اعلم أنك متى أفشيتَ السرَّ، نقضنا العهد.[/size]
[size=39]الفتى "علي": لكما ذلك أيها الماردانِ.[/size]
[size=39]المارد الأول: على اتِّفاقنا الفجر سيبزغ بعد قليل، نراك بعد شهر كاملٍ، وإن لم يتغيَّروا؟[/size]
[size=39]الفتى "علي": فبِي فلتبدؤوا.[/size]
[size=39]المارد الأول: اتَّفقنا.[/size]
[size=39]ثم انطلقا.[/size]
[size=39]اختفى الماردان في لمحِ البصر كأن لم يكن شيءٌ قد حدث، لكنَّ مَهمَّةً كبيرة قد ألقيت على عاتق هذا الفتى الحديثِ السنِّ غير المخضرم بتعاريج الحياة.[/size]
[size=39]ظل يفكِّر ويفكر، وفجأة رأى المدينة قد أعتمت، والأنوار المبتهجة قد أفَلَتْ، فأحسَّ صدقَ نيَّاتِهم؛ فعليه الآن التَّنفيذ.[/size]
[size=39]غلبَه النومُ بعدها كما يصرَع القويُّ الضعيف، ونال منه النُّعاسُ منال النوم من ساهرة العيون.[/size]
[size=39]فلما أفاق قال: سبحانك أعنِّي على ما أنا مقبلٌ عليه، ثم ردَّد مقولة نبيِّ الله عيسى - عليه السلام -: ﴿ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [المائدة: 118].[/size]
[size=39]هبط الفتى من قمَّة السطح ودلَف إلى أمِّه بالداخل.[/size]
[size=39]الأم: ماذا فعلتَ ليلة البارحة يا "علي"؟[/size]
[size=39]خاف "علي" أن تكونَ أمُّه قد علمت بالأمر قال: ماذا يا أمِّي؟[/size]
[size=39]الأم: نمتَ بسطح الدار ليلة أمس يا "علي" لمَ يا بنيَّ؟ فبردُ الصيف..[/size]
[size=39]"علي" مقاطعًا: أَحدُّ من السَّيف، لطالما ردَّدتها أمُّه كثيرًا.[/size]
[size=39]الفتى "علي": أنا بخير يا أمي لا تقلقي.[/size]
[size=39]الأم: نتناول الإفطارَ؟[/size]
[size=39]الابن "علي" حانيًا يضمُّ أمَّه إليه: نتناول الإفطار.[/size]
[size=39]الأم: تجهز الطعام، وتقول وهي بالداخل: أدِرْ مِذياعك المحبَّب إليك يا "علي" فالتيَّار الكهربي مقطوعٌ من باكرٍ.[/size]
[size=39]الفتى "علي" لنفسِه: بدأت المغامرةُ.[/size]
[size=39]الأم مناديةً: "علي" "علي"، لم يردَّ، لقد صعِد إلى قمَّة البيت يتحسَّس وقع أصابع وأقدام الماردينِ، لم يجد شيئًا قد تغيَّر عن طبيعته، استلم المذياع من على الأريكة، ثم هبط إلى أمِّه، أدارَ المذياع يستمع آخر الأنباءِ.[/size]
[size=39]المذياع: نبأٌ هام وعاجل، الأم تنتبهُ، وعلي يُظهر عدم الاكتراث: السادة المواطنون تعطَّلت في ساعة مبكرة من صباح اليوم المنابع الرئيسية المنوطةُ بتغذية المدينة بالكهرباء لسبب غير معروف، وانتقلت لجنةٌ فنية إلى المنبع لإمكانية الوقوف على سبب العُطل الذي سيعرقل الكثير من المهام ويوقف حركة الحواسب والهواتف والمصانع والمخابز ووو.....، وبينما المذياع يعدِّد ويذكر بدا "علي" شاردَ الذِّهن يفكِّر..[/size]
[size=39]الأم: ما عاد الناس يا بنيّ يتحمَّلون الحر الشديد أو التخلِّي عن الكهرباء والاستغناء عنها.[/size]
[size=39]"علي" معترضًا: ولِمَ؟! هل كانت الكهرباء عمادَ حياةٍ من قرون خلت؟[/size]
[size=39]الأم معلِّلةً: لكل زمان بُردتُه التي تُلبَس له يا "علي"، ألا تسمع المذياع؟[/size]
[size=39]"علي": أسمع يا أمِّي، إنَّ الكلامَ كثير، ثمَّ ينهض هابطًا درجاتِ السُّلَّم الكثيرة، يمشي بالشارع، لا يدرى إلى أين تعرِّج به أقدامُه، يناديه المارة "علي" لا يردُّ، شاردٌ، يقول في نفسه: الويلُ لكم بعد شهر من ليلةِ أمس، يدخل المسجد يتوضَّأ يستقبل القبلة يصلى الضُّحى، ثم يستند لحائط بالمسجد يفتح المصحف الشريف، يفر الصفحاتِ، تستوقفُه الآية: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ [الأحزاب: 72]، ينهض مقبِلاً على مبَرِّد الماء يشرب، يجد الماء غيرَ بارد، يقال له: التيَّار مقطوعٌ قُبيلَ صلاة الفجر، خرج "علي" من المسجد منشرحَ الصدر، عمد إلى النادي لبعض أصحابٍ يعرفهم، سلَّم عليهم، وسلَّموا عليه، ثم قال لهم في لُطف: من الفائز منكم الذي سيحظى بثوابِ ركعتي الضحى؟[/size]
[size=39]خرجتْ منه بلطف بالغ، فلاقَت صدورًا منشرحة تتوقُ للكسب الطيِّب في أول النهار.[/size]
[size=39]أسرع بعض الفتية، وتوضؤوا، ثم طلبوا من "علي" أن يصلِّي بهم الضحى.[/size]
[size=39]"علي": ليست بجماعة، ليصلِّ كلُّ واحدٍ منفردًا، صلى الفتية، وأحسوا حلاوة الطاعة مع بداية الإشراق.[/size]
[size=39]فرح "علي"، وقال لنفسه: الحمد لله، أوَّل الغيث قطرة.[/size]
[size=39]آوى إليه بعض رفاقه، قال لهم: أتعرفون يا إخواني في أيِّ الشهور العربية نحن؟[/size]
[size=39]صديقه - ويدعى "حسام" -: أغسطس.[/size]
[size=39]ضحِك زملاؤه وضحك "علي" ثم قال: يا "حسام" أنا أقصد الشهور العربية، شهورُنا الهجرية يا صديقي، سكت حسامٌ ولم يتكلم، فتفرس "علي" في وجوه الزملاء وقال لهم معاتبًا: نحن في شهر الله المحرَّم، أول الشهور العربية يا إخواني، هل هذا يُنسَى؟ تلك هُويتنا وقوميَّتنا، وظل "علي" يأخذ مع زملائه بأطراف الحديث حتى قال واحدٌ منهم: هل سمعتم بالهِزَّة الأرضية التي وقعت أمس ما بين الرابعة والرابعة والنصف فجرًا؟ يقال: إنها السبب في انقطاع التيار الكهربي عن المدينة.[/size]
[size=39]صديق آخر: وهل الهِزَّة الأرضية من الممكن أن تؤثِّر حتى ينقطع التيار الكهربي؟ لم يحدث ذلك قبل![/size]
[size=39]"علي": نعَم، من الممكن ذلك، ثم يحاول "علي" ليمهد ويتحسَّس من رفاقه نيَّاتِهم لو ظل التيار منقطعًا لفترة، فيقول: وهل لو انقطع التيار شهرًا أو شهرين هل سيؤثر ذلك بشكلٍ كبير على المدينة؟[/size]
[size=39]"حسام" باستغراب: ويحَك يا "علي"، لقد أصبحت الطاقة أهمَّ عنصر من عناصر مقوِّمات الحياة، بدونِها يتوقَّف كلُّ شيء.[/size]
[size=39]"علي": ولكن إذا صار الأمر كذلك، ما عسانا نفعل سوى أن نلجأ إلى الله؛ ليكشف عنا ما نحن فيه؟[/size]
[size=39]الرِّفاق جميعًا: يا ربّ![/size]
[size=39]ترك "علي" رفاقَه ثم مضى إلى المنزل، وصعِد قمَّة البيت؛ لعله يرى حَراكًا، أو يسمع حديثًا؛ لكن لا جدوى.[/size]
[size=39]مرَّ أسبوع كامل وبدأت ألسنة الإعلام تنطلق وتتوهج عما أصاب المدينة من لغزٍ غريب، وصارت المدينة وسكَّانُها مادَّةً خِصبة لكل من أراد أن يثري "برامجه" ومقدِّماته.[/size]
[size=39]تعطَّلت المخابز وبعضُ المحالِّ التِّجارية ذات المصاعد "الكهربية" "المُولات"، ولم يعُدِ الماء يصعد للأدوار العليا بالمساكن والعمارات والناطحات، أيضًا أصبحت المستشفيات في خطرٍ كبير، بدأت تعوِّل على مولِّدات التيار القديمة للحالات الحرجة.[/size]
[size=39]خلا "علي" بنفسه يقول: لقد أذنبتُ ذنبًا كبيرًا حينما أشرت إلى قطع التيار "الكهربي" عن المدينة؛ إنهم يعذَّبون ويعانون معاناةً شديدة، وهم في بدايات الأسبوع الثاني، فما بالُنا لو امتد الأمر شهرًا والله أعلم؟[/size]
[size=39]ليتَ هذا المارد وأخاه يرجعان الليلة، فأطلبَ منهما أن يخفِّفا من وطأة الأمر، يرتد "علي" ثانيةً ويقول لنفسه: وهل هذا أهونُ أم أن تدمَّر المدينة بالكامل فتصبحَ قاعًا صَفْصفًا خرابًا يَبابًا كما قال المارد الأرعنُ؟ عقابٌ أهونُ من عقاب.[/size]
[size=39]بدا الضجر والملل على وجوهِ كثيرٍ من سكان المدينة، نزلوا إلى الشوارع، وبدأت أشعَّة الشمس تداعب وجوهَ العاكفين على الشَّبكة العنكبوتية ليلَ نهارَ، بدأت تسري حرارتُها بأجسامهم بعد أن تعطَّلت المكيفات والمبرِّدات، تعارف الجيران وبدؤوا يتزَاورُون، عرَفت أقدامُهم الشوارع، وتعرَّفت أجسادهم على الطرقات، ومنهم من غادر المدينة؛ لعدمِ القدرة على مواجهة الأزمات، والصبر على الحرمان من الملذَّات.[/size]
[size=39]ألقى الشباب الهواتف النقَّالة وسماعات الأذن وكل ما يُعزى تشغيله إلى "الكهرباء" واعتمدوا على الأقدام والأيدي في تنفيذ المهام، حتى قيل: إنَّ بعض سكان العمارات قد أشعلوا النيران في الخشب والحطب لعملِ المخبوزات، بدأ الكلُّ يتحرك، ويجري الدم في محيَّاهم، الْتأمت الأسر المفكَّكة، وتكوَّنت روابطُ جديدة.[/size]
[size=39]أصبح الشباب الصغير هم مَن يرفعون الأذان بوجوب الصلاة؛ سرى الصوت بلا مكبِّرات إلى مسامع الصغير والكبير؛ تزاحم الجميعُ على رفع الأذان مدعيًا أن صوتَه الجَهْوريَّ الأعلى القادرُ على إبلاغ الناس.[/size]
[size=39]أحسَّ الكل برابط شديد يدفعهم نحو الجماعة، حتى إن السكان من البلاد المحيطة حضروا لتلك المدينة؛ ليطَّلعوا على ما بها، وكيف صارت بها الأحوال وأصبحت مادَّةً إعلاميةً شائقة للقنوات الفضائية وأَسمَوْها: "قرية بلا طاقة".[/size]
[size=39]و"علي" اليوم في حُبور وفرح يلتفت إلى السماء يرقُب النجوم والقمر، ويحَك يا "علي"، لقد اقتربت المهلة على الانتهاء.[/size]
[size=39]يسأل صاحبَه "حسامًا" مداعبًا إياه: هل تذكر يا "حسام" في أيِّ الشهور الهجرية نكون؟[/size]
[size=39]حسام: يكاد القمر أن يصبح في التَّمام اليوم أو غدًا؛ يعني منتصف شهر "صفر".[/size]
[size=39]لم يدرِ "علي" كيف يكون، يفرح؟ أم يحزن؟ أو يصارح الناس؟ ثم يقول لنفسِه: فعَّال لما يريد.[/size]
[size=39]عقدت ندوات وجلسات أدبيَّة وثقافية في شتَّى أرجاء المدينة، تنقَّل "علي" بينها يسمع لهذا، ويُنصت لذلك، ويعبأ مرَّة، ولا يكترث مرَّات.[/size]
[size=39]يسمع ندوة يحاضر فيها أساتذةُ الاقتصاد يقدرون حجم الخسائر منذ انقطاع التيار وحتى اليوم.[/size]
[size=39]يُنصت مرة لخطيب المسجد يقول بأن هذا ابتلاء من الله واختبار: ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ﴾ [الأنبياء: 35]، ويأمر الناس أن يظلُّوا على الأُلفة والترابط؛ فلعلَّ الله يكشف الغمة.[/size]
[size=39]وآخر قال: من الأفضل أن يظلَّ الحال كما هو عليه الآن؛ فإنَّ التِّقنيات الحديثة "التكنولوجيا" قد أفسدت أخلاق الناس معلِّلاً بخفة عقل قوله تعالى: ﴿ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ﴾ [الشورى: 14]، ولم يقتنعْ "علي" بتلك الفكرة أو هذه الرُّؤية المقتصرة؛ انتظر حتى فرغ من حديثِه، فخلا به قائلاً - وهو يشير لسيَّارته الفارهة -: أوَليست تلك من نعم الله على النَّاس وعليك؟ ﴿ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ﴾ [الضحى: 11].[/size]
[size=39]نهره الشيخ قائلاً: أمثالك هم من زيَّنوا للناس المنكر على أنه المعروف، وخلطوا الخبيثَ بالطيِّب.[/size]
[size=39]تركه "علي" وانصرف، وأيضًا لم يكترثْ أبدًا بما سمع من أحد المهرِّجين الذي يشكو من قلَّة رواد الملاهي والحانات والسياحة.[/size]
[size=39]ووسَط كل تلك التداخلات والمفارقات، انفرط عِقد المهلة الممنوحة للمدينة، ولَمَّا كانت الليلة الموعودة التي فيها سيهبط الماردانِ إلى الأرض؛ ليَرَيا ما آل إليه الحال وكيف تبدَّل، ظل "علي" ينتظر أكثرَ من ثلاثة أيام يسهر الليل ولا ينام، يخشى مرورَهما دون الوقوف عليه، والرجوع إليه، مختزلاً في ذاكرته بعض النماذج التي انصلح حالُها وتغيرت للأفضل.[/size]
[size=39]وفى اليوم الثالث وعند رحيل الشمس الغاربة اتكأ "علي" على أريكته المفضلة، حتى رحلت الشمس، وأرخى الليل ستائره تأسِّيًا برحيل مليكة النُّجوم.[/size]
[size=39]قال لنفسه: ويحَ هذه المدينة لَمَّا أضاءت أعتمت قلوبُها، ولَمَّا انطفأ نورُها أشرقت قلوبُهم، كأنَّ قلوبًا لا تشرق إلا ببلاءٍ، وأخشى أن تغرُبَ برفعِه.[/size]
[size=39]وبينما هو على ذلك بين حيرةٍ من دوام الأمر ولهفةٍ على قدوم الماردينِ، إذ بأنوار المدينة تضحكُ ثانيةً، وترتفع الأصوات بالضَّجيج فرَحًا، والملاهي تدور، ودلف الجرادُ المنتشر في الشوارع إلى الثُّكنات، ولزم الكثيرُ البيوتات، وفُتحت من جديدٍ الشاشاتُ؛ لَمْ ينبهِرْ "علي" لِمَا حدثَ قدْرَ ما جزِع، فهرول وهبط درجات السُّلم الكثيرة، ينادي سكَّان المدينة: الويلَ الويلَ لو عدتم لِمَا كنتم، الويلَ الويلَ، فرأى منهم الإعراض، وزمُّوا الأنوف تأففًا منه؛ ومنهم من رماه بالسَّفه والجنون حتى تبِعه فتًى بعصًى يحاول أن يشجُّ رأسه، فصرخ "علي" صرخة استيقظت على إثرِها أمُّه، وعرجت إلى قمة المنزل، وقالت في لهفة: ما دهاك يا بني، بسم الله، الله أكبر.[/size]
[size=39]تنَّفس "علي" الصعداء.[/size]
[size=39]الأم: إنَّ حجرتك هذه يسكنُها مارد؛ فلا تبتْ بها بعد الليلة يا "علي".[/size]
[size=39]فضحك "علي" بِأَسًى، وقال: مارد واحد؟![/size]
[size=39]تمَّت بحمد الله[/size]
شخوص القصَّة
[size=39]بطل القصة: الفتى "علي"[/size]
[size=39]الأم: أم الفتى[/size]
المارد الأول
المارد الثاني
[size=39]حسام: زميل الفتى وصديقه + مجموعة من الزُّملاء والأتراب[/size]
شيخ المسجد