عبد الرحمن شاب بارع في عمله كمصمم أزياء. يرتاد عليه أشهر المذيعين وعمالقة الفن والذوق ولا يزال يزاول مهنته عامًا تلو الآخر دون تقصير، ولكن سؤالًا ما يلح عليه طوال الوقت: “كيف وصل به الحال إلى هذه المكانة؟”
حظيت
رقية بإعجاب مدير عملها الجديد لتأقلمها السريع على العمل وعدم حاجتها للمساعدة المستمرة.
حصل
كريم على لقب ’أكثر المعلمين تفانيًا‘ لهذا العام.
تجتهد
سميرة في صرف الأنظار عنها أثناء ممارستها لعملها كموظفة خدمة العملاء في ظل جهلها بإمكانياتها ومهاراتها المميزة.
من السهل عليك تذكر كيف كان شعورك يوم تعرضت لمثل هذه المواقف من قبل، ولعلك تعتقد أنّ عبد الرحمن وسميرة هما ضحايا أفكارهما وتصوراتهما بشكل أو بآخر، بينما تحفل حياة كلًا من كريم ورقية بالإنجازات.
ولكن المثير أنّه ورغم الاختلاف الشديد بين هذه المواقف الأربعة، وتنوع قصص حياة من تعرضوا لها وسِيَرهم، إلّا أنّ هناك عاملًا جذريًا مشتركًا بينهم جميعًا، ألا وهو
تجاهل عواطفهم منذ الصغر.
في الوقت الذي يسلط فيه الآباء الضوء على منح أبنائهم الهدايا كمكافأة والتعنيف أو الإيذاء الجسدي لأطفالهم عقوبة لهم، وهي كلها أفعال يستطيع الآباء القيام بها والحد منها، يتجاهلون تمامًا ما لا يستطيعون تطبيقه فعليًا من ملاحظة مشاعر أطفالهم والتفاعل المناسب معها؛ ليبقى هذا التجاهل العاطفي نكتة سوداء تعلو نفس الإنسان مع تقدم عمره، ربما لا يلحظها أحد، فهي غير محسوسة أو مرئية، ولكنها في الواقع تقتل صاحبها في صمت.
إهمال العواطف منذ الصغر يجعل الإنسان أسير تحديات الحياة، وكما يمكن لهذه التحديات أن تغدو خنجرًا في قلب كل إنجاز حي، إلّا أنّ بيدها أن تصنع فارقًا إيجابيًا في حياتك المهنية على النقيض. في هذا المقال نستعرض عليكم كيفية تأثير التجاهل العاطفي في الصغر على سلوكك وتعاملك في بيئة العمل.
أولًا: تعطي الكثير، وتنتظر القليل
لطالما قوبلت احتياجاتك العاطفية بعدم الاكتراث وظلت حائرة دون إجابة ويتيمة دون كفيل. لذا، فإنّك لا تشعر بالارتياح عادة إذا وجدت في نفسك حاجة من أي نوع آخر، كطلب إجازة قصيرة مثلًا أو علاوة. هذا ما يجعلك موظفًا يعتمد عليه وما يرغب من حولك فيك؛ فأنت لن ترهقهم بطلباتك واعتذاراتك.
ثانيًا: لديك اكتفاء ذاتي
تَوَلّدَ لديك خوف من طلب المساعدة؛ لأنّه ومع كل مرة كنت تستعين فيها بشخص على مهمة لا تقدر عليها لصغرك، كنت تقابل بالتجاهل أو الاتهام بقلة الحيلة، وبالتالي ارتبط طلب المساعدة لديك بالضعف وخذلان الطرف الآخر، فأمسيت تكرر على نفسك في كل موقف يعترضك في طريقك المهني أنّك تستطيع أن تتخطى هذا الحاجز وحدك، وهذا ما يلفت أنظار من حولك إليك.
ثالثًا: أنت جدير بتحمل المسؤولية
منذ طفولتك وأنت تتحدى الصعوبات وحدك. إذا واجهتك مشكلة، فأنت من يحلها لنفسك، وإن احتجت مساعدة، فأنت المساعد الوحيد لنفسك. كل هذه الخبرات المتراكمة ألبستك حلة المنقذ الذي يظهر في ساحة العمل ليعين من يحتاج على قضاء حوائجه، ويفك الصراع بين موظف وزميله أو مديره.
رابعًا: لا تُقَدّر ذاتك حق التقدير
لم يوجهك أحد خلال مراحل طفولتك إلى التعرف على كينونتك الحقيقية، ولم يلفتوا انتباهك إلى ما يميزك ويجعلك
أنت. هذا ما يفسر حيرتك الدائمة في اتخاذ قرار أو خطوة جديدة بشأن مستقبلك؛ لأنّك لم تعرف يومًا ما الذي تريده بحق من حياتك، وما الذي يغمرك بالسعادة عند ممارسته، ولم تحدد بعد ما أنت بارع فيه، فتتجلى عاقبة هذا الجهل بالذات أول ما تتجلى عند اختيار وظيفة المستقبل، فأنت حتمًا ستتعثر كثيرًا إلى أن تصل إلى وظيفة تحقق مرادك وتزيد قناعتك بذاتك.
خامسًا: يصعب عليك المطالبة بحقوقك
ربما يكون إعطاءَك الكثير وانتظارك القليل ميزة في بيئة العمل، ولكن المستفيد الوحيد منها هو الطرف الآخر، أمّا أنت فكلما أصابك الإرهاق واحتجت إلى إجازة فلا تطلب، وكلما اجتهدت في عملك وشعرت بأنّك تستحق علاوة كتمت هذا الأمر ولم تشاركه مع مديرك، وبالتالي فأنت مخطئ في حق ذاتك وتميل إلى تصحيح ذلك باستنزاف طاقاتك في سبيل الآخرين دون نفسك.
سادسًا: التواصل مع الآخرين نقطة ضعفك
لم يكن من المحبذ أبدًا أن تناقش أي من أفكارك أو مشاكلك مع أهل بيتك، فأصبح من الطبيعي كتمانها والاحتفاظ بها لذاتك. لذا، قد تعاني في وظيفتك إذا تطلبت عملًا جماعيًا لحل معضلة أو استدعت مناقشة بعض المشاكل الشخصية للتعلم وأخذ العبرة، وفي كلا الحالتين ستشعر بحاجة ماسة إلى الهروب؛ لأنّك لا تعلم حقًا كيف ترتب الكلمات في جمل مفيدة تحمل في طياتها مشاعرك وعواطفك وأفكارك.
أكثر الناس نجاحًا في أعمالهم يعلمون كيف يتواصلون جيدًا مع الناس، فهم يُقَدّرون احتياجاتهم الشخصية أولًا ويوفونها حقها ويراقبون مشاعرهم بعناية خاصة، ويدركون الأسباب الكامنة وراءها ثم هم يطالبون بحقوقهم ويتقبلون المساعدة دون خجل وقت حاجتهم لها.
وأنت بإمكانك أن تتغلب على تلك الأخطاء التربوية التي عانيتها، بل عانيناها جميعًا في الصغر.خذ قسطًا من الراحة عما قريب وابدأ في سرد كل ما يختلج صدرك من مشاكل وعيوب ومزايا ومواهب دفينة وأفكار خطرت ببالك، ولم تجرؤ على البوح بها أو ظننتها بلا قيمة وخواطر تمكنت منك ولم تعبأ بتفكيكها وتحويلها إلى أفكار عملية، فربما يكون إحداها سببًا في تحول خططك المستقبلية من هذا اليوم، وأؤكد لك أنّك ستشعر براحة وأنس عندما تفجر ما تكبته منذ سنوات على الورق، فهو الوحيد الذي سيستقبل حُلوك ومُرّك بقلب أبيض دون توجيه اتهامات سابقة.
ثم انظر بتمعن في علاقاتك، هل تطالب بحقوقك المشروعة؟ أم أنّك تضغط على نفسك في سبيل إرضاء من يُعَدّ رضاهم غاية لا تدرك؟
وصلتني ذات يوم رسالة معبرة تقول: - اقتباس :
- “نحن نعيش في عالم يتعلم ويثابر في كل ما يتعلق بالمهنة والهوايات حتى نتمكن منها ونتقنها، ونجهل كل ما يتعلق بنفوسنا وتعاملاتنا مع غيرنا وتأسيس أسرة سليمة، فيكون الاعتماد فقط على ما وصل إليه آباؤنا معنا من التربية أو ما اكتسبناه بالخبرة ممن حولنا، والباقي على الله … هذا حالنا وحال الكثير من حولنا للأسف.”
لقد ذاع صيتك في محيطك لسنوات، وربما اشتهرت بالأخلاص في عملك أو بعطائك الوافر أو باستقلاليتك، أما آن الأوان لأن تقدم ما يتوافق مع إمكانياتك دون مبالغة وأن تطالب بما تستحقه من حقوق؟
وأخيرًا، تذكر أنّك لست شعلة تحترق لتضيء للآخرين.