أفلامُ هوليوود والرّوايات الاستهلاكية لا تُنصف المجتمع الغربي بإفراطها في التركيزِ على الجانبِ الحميمي في حياةِ الأشخاص، وإلحاحها على إهمالِ الجوانب الملهمة في أُسلوبِ عيشهم، والتي قد نستفيدُ منها كثيرًا كشبابٍ في مقتبلِ العمر، وهذا ما يتّفق عليه الكثيرُ من الذين التقوا بالأجانب عن قرب، أو تعرّفوا على أسلوبِ حياتهم خارج النمطيات الضيقة التي ترسمها الأفلام والأغاني، وقد لا يختلف اثنان أنَّ من أكثرِ المجتمعات التي تترك أثرًا منعشًا في نفس الزّوار هو المجتمعُ الفرنسي.
طبعًا، نحن لا نتحدّث عن المجتمعِ الفرنسي الذي لا تظهر على سطحه إلَّا آثار العولمة انطلاقًا من محلات الأكل السريع، ووصولًا إلى طريقةِ اللباس وأُسلوب التعاطي مع الحياة، لكنّنا نعني المجتمع الفرنسي بأعماقه الأصيلة وأفكاره العذراء وثقافته الأنيقة… سنكتشفُ معًا في هذا المقال “فنّ العيش” الذي اشتهرَ به المجتمعُ الفرنسي، وصارَ نموذجًا يحتذي به المشاهير، ويسيرُ على نهجه أثرياء العالم.
العقول أولًا
باللغة الفرنسية كلمة “culture” تعني “الفلاحة”، وهو المعنى الذي وُضعت له ابتداءً بمرور الوقت، بدأَ المفكرون باستعمال هذه الكلمة مجازًا للدلالة على مفهوم “الثقافة”، باعتبارها عملًا فكريًا قائمًا على زراعة العقل، وفلاحته بما من شأنه أن يثمرَ أفكارًا غنيةً وبنّاءةً.
المجتمعُ الفرنسي شديدُ الإقبال على الثقافةِ بكلِّ فروعها، ويولي أهميةً بالغةً لموروثه التاريخي، سواءٌ كانَ مقروءًا في الكتب أو ملموسًا في العمران واللوحات الفنية والأطباق الشهية، وهو مجتمعٌ واعٍ بالقيمة العظيمة التي تحملها ثقافته الفذّة، مما يثيرُ لديه اعتزازًا استثنائيًا بشخصيته ومكانته في العالم.
ومن أبرزِ الأمثلة على قوّة التوجّه الثقافي لهذا المجتمع هو الشارعُ الفرنسي ذاته، حيثُ أنَّك لا تكاد تركب قطارًا أو باصًا يخلو من مسافرين يحملون الكتب، ويقرؤون جلوسًا ووقوفًا. أضف إلى ذلك، نوعية البرامج التي يبثّها الإعلام الفرنسي؛ حيثُ لا يمكن إلَّا أن ينتبه المُشاهد للعددِ الهائل من الحصص التي تُخصّص للحديث عن القصور الفرنسية الباهرة، والتوغّل في شوارع القرى الفرنسية للتعرّف على الخصائصِ الثقافية لكلٍّ منها، كما أنَّ هناك حضورًا كبيرًا للوثائقيات التي تقومُ بعرض تحقيقات مهمة عن أحداثٍ تاريخية بارزة في الماضي الفرنسي والعالمي، وهناك حرصٌ واضحٌ على إقامةِ برامج تروّج للفنّ المعاصر، والابتكارات الجديدة في ميادين الموضة والعمارة وغيرها.
إنَّ مثل هذا التشبّع بالثقافة والفنّ والتراث يعزّز وعي الإنسان بهويّته ومعالمها، ويخلقُ بين الماضي والحاضر استمرارًا فكريًا ثابتًا، ويجعلُ للفردِ مرجعًا يعودُ إليه ويتغذى عليه. إضافةً إلى ذلك، فإنَّ الإنسانَ الذي ينشأُ بين أروقةِ المتاحف والمعارض الفنية، ويقضي وقته في الاطّلاع على حكايا التاريخ، وتأمّل التحف الفنية. هذا الإنسان يربّي في نفسه انجذابًا قويًا نحو الجمال والإبداع، وحرصًا على تهذيب ذوقه وملبسه وسلوكه ليتماشى مع ما امتلَأ به داخلُه من جمال.
للمائدة فنون
أكثر ما تُشتهر به فرنسا – ربما – هو برج إيفل والأكل الفرنسي!
فنّ الطبخ الفرنسي يُصنّف ضمن قائمة اليونسكو للتراث الثقافي اللا مادي نظرًا لكلِّ الاهتمام الذي يحظى به الطبخ والمطبخ لدى المجتمع الفرنسي منذ وقتٍ طويل؛ حيث أنَّه بالنسبة للفرنسيين المائدةُ مسرحٌ للاحتفال وملجأٌ للسعادة، والطبخُ بالنسبة إليهم ليس وسيلةً لسدّ الجوع فقط، وإنما هو مناسبةٌ للدلال تغتنمها أربع حواس: الذوق، الرؤية، الشم، واللمس. في فرنسا نتحدّث عن “فنّ المائدة” الذي لا يقتصر فقط على مهارات إعداد الطعام، بل ويركّز أيضًا على نوعيةِ المكونات، وفنون إعداد الطاولة واختيار الأواني المناسبة، وطريقة التقديم وجودة الاستضافة ومهارة التذوّق… وفوق كلِّ هذا فإنَّ تناول كلّ وجبة يجب أن يعبقَ بمتعة الأكل ونشوة اللمة العائلية أو رفقة الأصدقاء.
الجلوسُ على المائدةِ يغدو حدثًا احتفاليًا وحميميًا، كما يغدو الطُهاةُ الفرنسيون فنانين من الدرجة الأولى لا تخرج من مطابخهم أطباقُ طعام، بل تحفٌ فنيةٌ مُغريةٌ جاهزةٌ للأكل.
آداب السلوك ’’ الآتيكيت ’’
إنَّ المُطّلع على الأدب الفرنسي المكتوب في القرنين السابقين لا يمكن إلَّا أن ينبهرَ أمامَ الأهمية البالغة التي كانت تملكها الآداب السلوكية في المجتمعِ الفرنسي، وخاصةً عند النبلاء، وإلى اليوم تستمرّ العائلات (خاصةً المرموقة منها) في إعطاءِ هذه الآداب مكانةً رفيعةً أثناء تربية أبنائِها، وفي الممارسات اليومية… ولولا هذا الحرص الواضح لما وجدت القناة الفرنسية “M6” داعيةً لبثّ برنامج تلفزيوني سنة 2006 لتلقين الفتيات سلوكيات التعامل في المجتمع تحت غطاءٍ كوميدي، وفي سياقٍ جذّاب.
إضافة إلى البرامجِ الإعلامية، فإنَّ هناك عددًا من الكتب التي نُشرت، والمدارس التي أُنشِئت خصيصًا لتلقين الآداب السلوكية للمهتمّين، ومن أبرز روّاد هذا المجال الفرنسية نادين دو روتشيلد.
كلمةٌ واحدةٌ: الأناقة
أعتقدُ أنَّه إن كانَ يمكن تلخيص كلّ ما سبق في مفهومٍ واحد يُلمّ بكلِّ التفاصيل التي تُشكّل الصورةَ الكاملةَ لـ”فنّ العيش” على طريقةِ المجتمع الفرنسي، فسيكونُ هذا المفهوم: الأناقة.
القاموسُ الفرنسي يعرّف هذه الكلمة (Elégance) على أنَّها: صفة النُّخبة، تُزكّي الحلية، السلوك، القوام… إلخ، وأنَّها تميّز اللغة والأُسلوب الذي يكون صائبًا دون تكلّف، وأنَّها تدلّ على تميّزٍ فكري.
الأناقةُ بهذا التعريف تخرج من المربّعِ الفارغ الذي حوصِرت فيه بفعل التسويق للموضة وماركات الملابس العالمية، وتعودُ إلى معناها الأصلي الذي لا يحتاج خزانةً ممتلئةً بأغلى الملابس، ولا ساعات لا تنتهي في محلات التسوق. الأناقةُ الحقيقيةُ تبدأُ عندما يكونُ الفكرُ جميلًا ولافتًا وجذّابًا بنُضجه وتنوّعه وانفتاحه، الأناقةُ تبدأُ بالثقافةِ وبذلك الحسّ الجمالي الذي تخضعُ له الأخلاقُ والسلوكيات والأفلام والكتب والطعام والملابس والحليّ والعطور، وكلُّ ما يقومُ الشخصُ باختياره والقيام به. الأناقةُ إذًا ليست أمرًا ماديًا بقدر ما تمثّل درجةً عاليةً من رفعة الذوق والاهتمام الدقيق بتفاصيل الشخصية الإنسانية ومقوّمات الفكر، انتهاءً بأُسلوب اللباس وليس اقتصارًا عليه؛ لأنَّ الملابسَ قد تصف هويّة الشخص ولا تشكّلها.
وبهذا نقولُ أنَّ المجتمعَ الفرنسي أنيقٌ بـ”كوكو شانيل” و”ديور”، ولكنَّه قبل ذلك أنيقٌ بثقافته وبسلوكياته وبآدابه وباهتمامه بالفنون، واحتفاله بكلِّ تفاصيل الحياة.
أخيرًا…
أكثر ما يلفتني في المجتمعات الغربية عمومًا هو حيويّة كبار السن، وأنا لا أعني قدرة شيخ مسنّ على الخروج من منزله لشراء لوازم المنزل، ولكنّي أعني كلَّ السيدات المسنّات اللائي مازلن يسافرن بشغف لاكتشاف مناطق جديدة متزوّدات بالكتب التي تُقرأ أثناء ركوب القطار، وبأدوات الرّسم التي تُستعمل لرسم ملامح المناظر الجديدة. أتحدّث كذلك عن كلِّ رجلٍ سبعيني نمرُّ به وهو يهتمُّ بحديقة البيت، ويغرسُ فسائلَ جديدة وكأنَّه سيعيشُ سبعين سنة أُخرى، وعن كلِّ من مازال يعيشُ الحياةَ ويحتفلُ بها دون الانتباه إلى العقودِ الطويلة التي مرّت وكلّ ما انقضى…
في بلداننا ومجتمعاتنا العربية أول ما يشيخ في الإنسان هو قلبه بانطفاء وهج الأمل شيئًا فشيئًا بعد كلِّ خيبة، فتجدُ الشابَ العشريني منطفئًا تمامًا وقد فقدَ اللذةَ في كلِّ شيء، مَلُولًا كسولًا ناقمًا على كلِّ شيء… أعلمُ أنَّ محيطنا وظروفنا تختلفُ عما يوجد في الغرب، لكنَّ الحقيقةَ هي أنّنا نضيّع الكثيرَ من العمرِ فيما لا ينفع، ونتركُ ما من شأنه أن يلقي على حياتنا سِتارًا مِن نور كالسعي اليومي الجاد للانتباه لكلِّ تفاصيلنا الجميلة وإعطائِها حقّها من الانتباه، فهذا تحديدًا ما جعل وجبة طعام فرنسية تصبحُ من أكثرِ الأمور إغراءً في العالمِ.