[center]
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
يسرني أن أنقل إليكم هذه القصة بعنوان: هَواجسُ مُرّة
للكاتب القصصي: اسكندر نعمة
* سُئِلَ الكاتب الكبير مارك توين، من قبل أحد أصدقائه: ماذا تعمل في هذه الأيام؟ فأجاب مارك توين: أكتبُ قصصاً.. أجابه صديقُه: وهل بعتَ شيئاً ؟! أجاب الكاتب: نعم...لقد بعتُ ساعتي، وأكثر ملابسي، وأفكّر الآن أن أبيع فراشي...
عندما دقّت ساعة الجدار معلنةً حلول منتصف الليل... كنتُ ما أزال أجرُّ خيبتي وأحلامي...قبيل الغروب جلستُ إلى الطاولة أعصرُ أعصابي وقلبي، سأكتبُ قصة..قصة قصيرة، أو قصة قصيرة جداً، لا فرق .. المهمُّ أن أكتب.. البارحة .. اتصل بي أمين تحرير المجلة التي أنشرُ فيها بشكل دوري، عاتبني لغيابي الطويل عن زيارة مكتبه.. قال لي: أنت بخيلٌ علينا في هذه الأيام.. لماذا؟؟.. لم أعهد نفسي بخيلاً.. إلا أنه أصرَّ على اتهامي بالبخل، وقال لي ضاحكاً: إنك منذ أشهرٍ لم تَجُدْ علينا بقصة نملأ بها بعضَ صفحاتِ المجلّة ..
أنّبتني ضحكاتُه الهامسة، تصوّرتُ أن أسلاك الهاتف بيننا تشاركهُ ضحكاتِه الساخرة، أحسستُ بوخزاتٍ أليمةٍ تلسع صدغيَّ وصدري...
كانت الشمس تغطس وراء الأفق، والأفكار تغطس هاربة منّي.. ازداد تلاشيها مع ازدياد حلول العتمه.. تذكرتُ أستاذَ الرياضيات وشروحَه القاسية عن التناسب الطردي.. افترّت شفتاي عن ابتسامة شاحبة مرّة.. عجيبٌ أمرُ أفكاري الهاربة هذه ... أنا أعلم أن الظلام والهدوء منبعان للإبداع والموهبة، فما شأنهما هذه المَرّة ...توجَّع القلم بين أصابعي.. أناملي تنغرسُ بتوتّر شرسٍ في أنحاءِ جسده المتطاول ... تأوَّهَ بألمٍ مرير... تُرى .. هل جفَّ المداد منه بجفاف أفكاري؟!! هل ستنسحبُ المعادلة على كل شيء؟!!.. شربتُ ركوة القهوة بكاملها، كوباً إثر آخر.. لم تفعل القهوةُ فعلها المعهود، بيني وبين القهوة عهودُ صداقة متينة.. تساهم في تفجير مكامن الإحساس في نفسي، وتعرّي أفكاري من ملابسها الكتيمة.. لا لن أدخّن، لن أعود إلى التدخين ثانية.. لقد أقلعتُ عنه منذ أشهر .. لا لن أعود إلى تشنجّ الصدر والحنجرة ثانية... صوتُ سكرتير التحرير يرنُّ في أذني من جديد. نريدُ منكَ قصة جديدة... أنت بخيل..بخيل جداً
في هذه الأيام.. توغَّلَتْ لهجتُه الساخرة في أعماقي.. أبداً لم يكن يريدُ أن يسخرَ مني. ولكنه هكذا بدالي.. نهضتُ عن الطاولة بعنف، خطوتُ بسرعة إلى حيث يربضُ جهازُ الهاتف، وبيدٍ متصلّبةٍ عمدتُ إلى شريط الهاتف ونزعته من مربِطه، خفتُ من الرنين المفاجيء.. الزمنُ يوغل في دهاليز الظلام أكثر.. الساعة المعلقة على الجدار تُنبئ عن زحف الدقائق... عبرَ النافذة الوحيدة، كان الظلام يبسط جناحيه على الشوارع الممتدّة.. سرحتُ بناظري متجاوزاً حدود النافذة الضيقة.. مصابيح الكهرباء المنتشرة في كل الزوايا، تبدّد في دوائر مغلقةٍ سوادَ الظلمة، فتلّونُ الجوَّ الكئيب بخيوط لامعة.. النافذة الضّيقة لم تمنع جسدي الضئيل النحيلَ من الخروج.. خرجتُ منفلتاً دون أن أصطدم بالزجاج السّميك.. هبطتُ إلى الشارع بصمت مذهل مُجلّل بالكآبة.. لم أسمع صوتَ ارتطام قدميَّ بالأرض، ورحتُ أنتعلُ أرصفةً تائهة لا حصرَ لها.. لم أشعر بالكلل والتعب أبداً، فبيني وبين المشي صداقة حميمة، أمشي وأمشي بدون توقّف، لا أحبُّ أن أحشر جسدي في زحام السيارات والحافلات.. لم أسأل نفسي إلى أين أسير.. أفسحتُ لقدميَّ فرصة القيادة، فهما خيرُ دليل في غمرة الزّحام الصعب. ودون قرار مُسبق كنتُ أحاول أن أظلَّ متدثراً بعباءة العتمة، مبتعداً عن دوائر الضوء الصارخة وأصوات الناس ولَغَطِهم المتداخل.. صوتُ سكرتير التحرير يثقبُ أذنيَّ هذه المرة.. لعلَّ الصّمتَ والسّباتَ الرمادي الذي سقطتُ في أمواجه، جعلني أواجه الصوت قوياً ثاقباً.. أريد أن أكتب.. أكتب قصة.. أكتب أيَّ شيء... ذهني صندوق مقفل... أعصابي يلفّها الصقيع، والقلم يتأوّه بين أصابعي مستغيثاً متحسراً.. فجأة وجدتني أقف مذهولاً أمام باب عريض تنبعث منه أضواء خافتة... آه... إنه مَدْخَلُ "مَقْصِف النخيل". لم أكن من روّاده الدائمين..ولكني ألفتُ التردُّدَ إليه بين حين وآخر. وجدتُ في داخلي دافعاً يدفعني للاستراحة والابتعاد عن التسكع.. شعرتُ بيد خفيّة تسحبني إلى الداخل. وبرشاقة اعتادها جسدي النحيل، تسللتُ عبر باب المَقصِفِ الخارجي. ومن ثم الباب الداخلي... بين أشداق البهو الكبير المكتظ بالجالسين، وقفتُ طويلاً.. راقني منظر الكؤوس المترعة، والشفاهِ التي تمتصُّ منها رحيقَها، وأصواتُ فوّهاتِ الزجاجات الملّونة التي تفرغُ روحَها عبر الكؤوس.. امتدت يدي إلى جيب سترتي، تلمّستُ الليرات القليلة التي تنام في قاعها.. لعلها تكفيني لاحتساء فنجان من القهوة فحسب.. كان جو البهو العريض مشبعاً بدخان السجائر.. انتحيتُ جانباً، فتشتُ في الزوايا، لم أجد طاولة فارغة، عدا واحدة قد ابتعدت عن الزحام، يجلس إليها رجل كهل تدلُ ملامحُ وجهه وشعرُ رأسه أنه يتدحرج نحو العجز والشيخوخة. أمامه كأس طويل من الشاي الساخن يداعبه بأطراف أنامله.. عجبتُ لوجوده في مثل هذا المكان.. استأذنته بالجلوس، فأذن لي باشّاً مسروراً، لكأنّه كان ينتظر قدومَ رجل مثلي.. وقبل أن أجلس على الطرف الآخر من الطاولة، شكرتُ الرجل الكهل، وطلبتُ من النادل فنجان قهوة خالية من السكرّ.. لم تكن لديَّ رغبةٌ في أن أمكث طويلاً.. جلستُ محاذراً الخوضَ في أحاديث طويلةٍ مملّة.. أريد أن أخلو إلى نفسي، وأثيرَ كوامنَها، لعلّي أبدأُ في إمساك خيطٍ ينتهي بي إلى كتابة قصة.. صوتُ سكرتير التحرير يقرع رأسي.. ساعةُ الجدار المعلّقة تنبئني بهروب الزمن، وغرفتي الصغيرةُ تضيق وتضيق من حولي.. حدجني الرجل الكهل بنظرات متعالية.. حدّقتُ فيه ملياً، وجدتُ في نظراته رغبة ملحّة في أن يتحدث، كانت أصابعهُ تطوي بأناة وتمهّل مجلةً ملونة وتدسُّها تحت إبطه.. سألته: ماذا قرأت في هذه المجلة.. فَرَدَها من جديد على الطاولة، لم تكن بي رغبة في القراءة. قال: كل مايُكتبُ سطحيٌّ ومكرور وساذج... رفعتُ حاجبيَّ عجباً وفغرتُ فمي... تابع قائلاً: يبدو أن مهنة الكتابة أُصيبت في هذه الأيام بالجلطة، وقد تنتهي إلى السكتة القلبية.. أُعجبتُ بهذه الكلمات القليلة، شدّتني إلى الرجل أكثر، أخرجتني عن حيادي وعزلتي.. ما أجمل هذه المصادفة، لعلها تكون مَدْخلاً يفضي إلى كتابة قصة.. سألته: الستَ جائراً في حكمك على مهنة الكتابة؟؟.. ضحك ملء فمه، كشف عن أسنان صُفْرٍ غير متراصّة.. أجاب باندفاع وقور: لا.. لا أبداً.. سألتُهُ وأنا أبحث في عينيه عن شيء ما: وكيف ذلك؟؟ .. أجاب: "أنا أتابع الأدب السياسي والاجتماعي.. كل ما أقرؤه هراء وسذاجة وبعد عن الحقيقة.. يتحدثون عن الشعوب والمستقبل، فيفرشون الطريق أمامها أشواكاً وضباباً.. يسوّدون الصفحاتِ حديثاً شيقاً عن مفاهيمَ غائمةٍ أسموها، الديمقراطية والبيروسترايكا والرأسمال ومستقبل الحضارة والنفط والتكنولوجيا وتطورَ العلوم والعلاقات الإنسانيةَ.. وأشياءَ كثيرة.. الكتابُ يجهلون صورة الوجه الآخر لهذه الكلمات الطنّانة.. لا يَعُون حقيقة ما يتحدثون عنه... لم تكتشف أفكارُهم الطحالبَ والطفيلياتِ والهالوك المستبدَّ على جذور مايكتبون." توقّفَ قليلاً عن الكلام، حملقَ بعيداً أحسستُ أنه يريد أن يتابع.. لم يترك لي فرصة التساؤل.. تابَعَ: "إن الإصابة بالجلطة الأدبية والفكرية لم تترك شيئاً، تناولَتْ كل الموضوعات الكبرى.. كل مناحي حياة الإنسان الراهنة.. جلطة في فلسطين والصومال واليمن والخليج وأفغانستان والبوسنة.. جلطة في الجهات الأربع.."
أصابني حديث الرجل بالذهول المطلق، غبتُ عن الوعي.. أخذتُ أسمع صوتاً يتهدّج ويهدر دون أن أعي شيئاً.. دخلتُ في مساربَ متعرجة، رحتُ أبحث عن مُسبّبات الهالوك والطفيليات والجلطة.. اعترتني رعْشةٌ مفاجئة عندما أحسستُ بيد الكهل تهزني وتعيدني إلى واقعي.. ابتعد عني خطوة واحدة.. لوّح لي بيده ومضى.. نظرتُ حولي.. كل شئٍ كعهدي به، كنت أضغط كوب القهوة بين أصابعي، خفتُ أن أحطمه.. دفعتُ ما بجيبي وخرجتُ كالمصعوق. غطستُ في مستنقع من التساؤل المرير.. الهالوك.. الطفيليات.. الجلطة الأدبية.. الرجل الكهل.. لماذا انسحب بسرعة!!... تقاذفتني الأرصفة، سقطتُ في نشوة من نوع غير مألوف.. استسلمتُ للأوهام والهواجس، أريد أن أكتب قصة جديدة سأقدمها غداً لسكرتير التحرير.. ولكن.. ولكن، ماذا أكتب؟ من أين أبدأ؟... تبَّاً لذلك الكهل، لقد سحب مني كل مبادرة.. أصابني بالإحباط والإحساس بقرب الجلطة... غامت المدينة في ناظري، تداخلت دوائر الظلام والضوء.. تلاشت أصوات قرع قدميَّ على بلاط الرصيف.. غطستُ في بانوراما ممتدة لا نهاية لها.. دوائر تتلوها دوائر، أسبح في جو هلامي لا حدود له، فقدتُ الإحساس بنفسي، وظلَّ صدري يعلو ويهبط بفعل استمرار الحياة.. فجأة شعرتُ بيدٍ فولاذية تشدني إلى الوراء.. توقفتُ عن السباحة في هلام المدينة.. تحسستُ الرصيفَ تحت قدميّ تلاشت الدوائر المتداخلة، فتحتُ عينيَّ على غبش مفاجئ، التفتُّ إلى الوراء والتوترُ يأكلني، كانت اليد الصُّلبة ما تزال تمسك كتفي بوحشية.. شاهدتُ جسداً ضخماً يتوِّجُهُ رأس كبير.. فركتُ الغبش عن عيني، فزعتُ من الأعماق، حاولت التراجع إلى الوراء.. لم أتمكن.. كان الجسدُ جسدَ رجل، والوجهُ وجهَ ذئب.. جبنتُ عن الصّراخ، حاولت أن أدفعَ يدَه عني، لم أتمكن.. أظافيرُه انغرست في كتفي النحيل.. ضحك بشدّة، فبانت له أنيابٌ حادة، وشدق واسع مخيف.. قال لي: “ما أسرع خطواتكْ، أجهدتُ نفسي كثيراً للّحاق بك مذْخرجتَ من باب المَقْصِفْ، حتى وصلتُ إليك الآن.".. جمعتُ بقايا شجاعتي المنهارة وسألته بخوف: "وماذا تريد منيَّ." قهقه بصوت عالٍ، هزني بيده الفولاذية.. خلتُ نفسي كفأرة صغيرة بين مخالب هرشرس.. اقترب من أذني وهمس متصنعاً المودّة: "لا شيء.. لا شيء.. أريد أن أتأكد منك.. ألستَ فلاناً.".. أخرستني المفاجأة.. لم أنطق بحرف.. دفعني بأصابع يده.. كاد يقذفني في الهواء.. ابتعد عنّي وسار في الاتجاه المعاكس.. كاد قلبي ينخلعُ من مكانه.. احتميتُ بالظلمة ورحتُ أداري مخاوفي.. لم أفهم تفسيراً لما حصل.. أسرعتُ وفي سيري، انزلقتُ إلى شارع آخر، أخذتُ أعدو غير آبه بشيء.. كان خوفي أن التقيه مرة أخرى يمزق مفاصلي وقلبي.. تابعتُ العدوَ وأنا ألهث بشدّة.. أوقفني في منتصف الطريق ضوء مبهر عنيف، سدَّ علي منافذ الطرق.. خبّأتُ عينيَّ الكليلتين براحتين مرتجفتين.. اقترب الضوء أكثر، شيءٌ ما يهدر بجانبي، توقفت سيارة، أطفأت أنوارها، فغطستُ في أمواج الظلمة من جديد.. امتدَّ رأسٌ ويدعبر نافذة السيارة، صَدَرَ عن الرأس فحيحٌ خافت: "تعالْ.. تعالْ.. سنوصلك إلى منزلك، ألا ترى أن الليلة باردةٌ جداً، والجو ينذر بالمطر الشديد.".. تخثرت الكلمات في حلقي، ازدردتُ لعابي مرّات ومرات، حاولتُ أن أشكر الرأس الممدود، لم تخرج من حنجرتي كلمةٌ واحدة، تسمّرتُ في مكاني كوتد مهملٍ في العراء، لم يعد عندي رَغبة في أيِّ شيء، الحياةُ والموتُ سيّان، خرج الرأسُ إليّ، قبضَ على يدي، قادني إلى باب السيارة، كنتُ مستسلماً بلا إرادة... دفعني إلى الداخل وجلس بجانبي... أيقظني صوت المحرّك، تساءَلت: ماذا يحصل؟!!. إلتفت إليَّ الرأس الذي يجلس بجانبي، بادلني نظراته، ضحك، فإذا له شدق واسع عريض وأنياب ذئيبة حادة كتلك التي شاهدتها.. افترسني الخوف أكثر واحتميتُ بالصمت تاركاً نفسي لمصير مجهول... تطاول بنا الزمن أو هكذا شعرت.. توقّفت بنا السيارة أمام مبنى كبير جداً، يتصل بالحياة عن طريق بوّابة واسعة.. قال الرأس بفحيحهِ المألوف: انزل... قلتُ له: "ولكن هذا ليس منزلي".. كشّر عن أنيابه الحادة وبسرعة البرق نزل وانقضَّ على الجانب الآخر، ضغط على كتفي بقبضته الفولاذية وأنزلني بقسوة، ثم دفعني بعنفٍ عبر البوابة وأغلقها من جديد... أصبحتُ وحيداً في عالم مجهول، سرتُ في دهليز طويل متعرّج.. في كل منعطف، كان يقف رجل له جسد ضخم، ورأس كبير، وأنيابه حادة، ويطلق فحيحاً مخيفاً، يضغط على عنقي بقبضةٍ جّبارة ويسلمني إلى الآخر... في نهاية الدهليز دُفعتُ بعنفٍ إلى غرفة واسعة مضاءَة، يجلس في صدرها رجلٌ مُهاب، أنيق الملابس، جادُّ القسمات، جميل الملامح.. تلقّفني بنظرات طويلة مستفيضة... تسمرتُ في مكاني وهو ينظر إليّ.. اضطربتُ تحت تأثير نظراته الهادئة.. كدتُ أسقط أرضاً، طلبتُ مقعداً أستريح عليه، ابتسم واعتذر فالغرفة خالية.. سألني بصوت خافت: "أنت فلان، أليس كذلك؟".. قلت: "نعم، ولكن ماذا تريدون مني.؟!!".. قال بهدوء أخافني أكثر: "لا شيء.. لا شيء، بإمكانكَ أن تنصرفَ الآن. فنحن نعلم عنك كل شيء.".. سألته: "ومن أنتم؟!"
لملمَ ابتسامتَهُ بصوت أجش: "نحن من يجب أن نعلم أمّا أنت فلا.. هيّا."
عدتُ من الطريق التي أتيتُ منها.. وعندما لفظتني البوابة الكبيرة، شعرتُ أن الحياة أخذت تدبُّ فيَّ من جديد..
انتعلتُ طريقاً فرعيّة أخرى.. كنتُ أحاذر أن ألتقي أحداً ما.. رحتُ أجترُّ ما حدث لي.. حاولت أن أبصق خثرات الخوف المتدبقة في حلقي.. أسرعتُ في سيري، أنزلقُ من زقاق فرعيٍّ إلى آخر محتمياً بالظلام.. بعد قليل أحسست بأن شيئاً من الطمأنينة بدأ يتسرب إلى نفسي ، أخذتُ أطرد الموتَ من شراييني، شعرتُ بالدم يسري في داخلي ويبعث الدفءَ في مفاصلي وكفيَّ ووجهي.. عدتُ إلى قناعتي بأن الحياة أقوى من الموت، ابتسمتُ لهذه الخاطرة التي هبطت عليّ واستلّت أكثر مخاوفي... ألّحت عليَّ من جديد فكرةُ كتابة قصة جديدة.. يجب أن أكتب، يجب أن أعبّر عن ذاتي، فأنا لا أستطيع تحمّل عتاب سكرتير التحرير.. ماذا سأقول له؟.. هل أجرؤ على كتابةِ ما أريد؟!!... لم تعد تروقني العتمة.. شعرتُ برغبة ملحّة لأن أتخلّص من الظلام.. انعطفتُ من ذلك الزقاق الفرعي وخرجتُ إلى شارع السوقِ الرئيسي، شارع طويل، عريض جداً، مكتظّ بالناس والمحلاّت.. المحلاّتُ حبلى بالبضائع والسلع.. انتعلتُ أرصفته ببطءٍ شديد وهدوء تام.. رحتُ أفرّج عن نفسي بالنظر إلى المعروضات من خلال الواجهات المُضاءَة والمزيّنة... دفعني الفضولُ نحو أشياءَ وأشياء كثيرة.. نسيتُ نفسي، أسقطتُ ذاتي من الحساب، آلمتني لوائح الأسعار الجهنميّة المعروضة بأناقة وإغراءٍ قاتل... شعرت بيدٍ باردةٍ جليدية تمسح وجهي وعنقي وتلفّني بالصقيع.. بدا لي أننّي لا أعني الحياة بشيء، وأنني خارج حدود المكان والزمان.. تساءَلت: وماذا بعد الجوع والعري؟؟.. ركبتني قشعريرة نفّاذه.. وراحت تمزّقني احتمالات كثيرة... ساعتئذ أدركتُ أن الجلطة ليست في مهنة الكتابة فحسب، إنها في كل شيء.. توحّدتُ من جديد مع الخوف والإحباط والأسى المرير، وراحت الهواجس المرّة تفترسني بتلذّذ...
صوت مفاجيء مزّق الصمت في جو الغرفة... الصوت يزداد ويتتابع.. الرنين يتواصل.. القلم يكاد يتحطم بين يدي، والطاولة تهتزُّ تحت ضغط المرفقين، والكرسي تَصرُّ وتئن... والساعة المعلّقة على الجدار تعلن برنينها الحاد حلولَ منتصف الليل...
أفقتُ من شرودي الطويل.. تخلصتُ من أحلامي اللولبية.. رجعتُ من رحلة الهواجس المرّة.. كانت صفحات الورق الأبيض أمامي تستغيث وركوة القهوة الجافة تسخر مني.. فركتُ عينيَّ، أعدتُ إلى نفسي يقظتها، نظرت عبر النافذة الضيقة، نهضتُ مسرعاً، أعدتُ شريط الهاتف إلى مأخَذه، أدرتُ رقماً أحفظه عن ظهر قلب.. أريد أن أعتذر من صديقي سكرتير التحرير، فأنا لا أستطيع الآن أن أكتب له قصة جديدة، سأرجوه أن يقبل اعتذاري...
جرسُ الهاتف في الجهة الأخرى يرنُّ ويرنُّ ويرنُّ.. آه.. الوقت متأخر الآن.. ولا بدَّ أن سكرتير التحرير قد غادر مكتبه إلى منزله...