على الأرض .. في البقعة التي اختارتها لتزاول عملها , كنت أراها في عصر كل يوم جمعة وأنا في طريقي إلى محلات بيع الأسماك في حلة العبيد بمدينة الرياض …
كانت تضع على رأسها شالاً أسود , غالباً ماينسدل على كتفيها فيبين شعرها الكالح .. ولأنه في يقينها عورة , فهي تبادر إلى ستره ’ كلما استبان لها عريه … ولأنها دائماً مشغولة بعملها فهي لاتستبين ذلك العري , إلا إذا توقف أمامها رجل ليشتري شيئاً من بضاعتها …
وعلى الرغم من ذلك الحرص الذي أصبح عادة , كان شعرها يستمتع أحياناً كثيرة بعريه ومداعبة نسائم هجير الرياض له , وهي تقشر بكلتا يديها المعروقتين كيزان الذرة الخضراء لتضعها على جمرات فحم مشتعل في موقدٍ أمامها على الأرض … أو هي تحرك بنفاد صبر مروحتها المصنوعة من ريش الدجاج الملّون , تستحث بها جمرات الفحم , لكيلا تستلم للموت بين أكفان الرماد المتراكم حولها ..
وفي ذات يوم توقفتُ أمامها لأشتري كوزاً من الذرة المشوية … من فوق كتفيها أعادت الشال الأسود إلى رأسها … رفعت إليّ عينين خابيتين صغيرتين , لم تلبث أن أسقطتهما مرةً أخرى في موقد الفحم المشتعل وهي تطلب مني -دون أن يبدو عليها أي اهتمام- الانتظار حتى يكتمل نضج الذرة …
اكتشفت وأنا واقف منتظراً بالقرب منها , أنها وضعت بجوارها فوق كومة من أوراق كيزان الذرة الخضراء المتناثرة حولها , لفافة من الخرق المهلهلة , يطل منها وجه طفل وليد , مستغرق في النوم .. وجهه أسمر , يشوبه سوادٌ وتجعد , كان فمه مفتوحاً , خالياً من الأسنان .. اختلجت شفتاه الصغيرتان في ذبذبات دقيقة , حين تطاير بعض الشرر من الموقد .. رفس بقدميه وعيناه مازالتا مغلقتين .. مدت المرأة يدها النحيلة المعروقة لتغطي وجهه بطرف لفافته .. لاحظت أن بيديها النحيلتين آثار حروق قديمة لم يستطع تراب الفحم أن يخفيها .
فجأة دوّت في الطريق صرخة فرملة حادة .. التف الناس كالنمل في حلقة أحاطت بالسيارة الكامري التي أطلقت بفراملها الصرخة المدوية ..
لم يكن الطريق الذي تجلس بناصيته بائعة الذرة من تلك الطرق التي تقع عادةً فيها حوادث السيارات , ومع ذلك لم يبد عليها أدنى اهتمام بما حدث .. !!
.. من بين حلقة النمل انفلت صبي صغير في نحو الثانية عشرة يرتدي ثوباً أبيض ويعتمر طاقية سوداء .. أقبل يعدو ناحية بائعة الذرة .. قال لاهثاً :
– أتعرفين يا أمي من الذي دهسته السيارة .. صديقي مهند.. زميلي في الدراسة
رفعت عينيها من موقد الفحم المشتعل , وكادت تقول شيئاً فبادرها الصبي :
– الناس أجبروا صاحب السيارة أن يدفع مئة ريال .. مع أن إصابته تساوي كذا .. (وأشار إلى عقلة إصبعه السبابة ..)
– رائد .. عد للبيت .. ذاكر دروسك بدل الفرجة على مصائب الناس
ثم التفتت إليّ بعد أن غادرنا الصبي :
– ولدي (شاطر) في المدرسة .. لكني أخاف عليه من الإهمال
– أبوه موجود .. ؟
– موجود .. كعدمه .. مشلول ’ بعد حبسه سنتين ظلم في تهمة قتل .
عادت تستحث بمروحتها جمرات الفحم , ثم استطردت :
حفيتْ أقدامنا .. أنا وهو .. على ترخيص محل صغير للخضار , لكن دون جدوى .
ثم رفعت الكوز من فوق الفحم بعد نضجهما .. لفته في بعض أوراق الكيزان الخضراء قبل أن تقدمه إليّ .. قلت تعليقاً على موضوع الترخيص :
– غداً .. إن شاء الله .. يصلح الحال .
طافت بسمة شاحبة ساخرة على شفتيها الجافتين وهي تتمتم :
– غداً .. !! غداً , متى ..!! وكيف .. ؟
على الرغم من ذلك الحديث الذي انتهى بسخريتها من تعليقي على موضوع الترخيص , صرنا على مر الأيام أصدقاء .. أمر عليها عصر كل يوم جمعة لأشتري الذرة وأعطيها خمسة ريالات .. ولعلها كانت تعتبرني سخياً كريماً حين أترك لها -أحياناً- باقي المبلغ ..
وتنتهز هي انتظاري لتجهيز الذرة فتروي طرفاً مما تلاقيه في حياتها من صعاب .. أحياناً
عن طلبات مدرسة ابنها رائد , وأحياناً أخرى عن رذالة موظف البلدية وإصراره على عدم بيعها الذرة في هذه الناحية , ومطاردته لها .. ودائماً كان موضوع محل الخضار وترخيصه المتعسر على قمة الحكايات .
وحدث أن غادرتُ الرياض وانقطعت عنها مدةً لاتقل عن شهر تقريباً , ولما عدتُ لم أجد بائعة الذرة في مكانها المعروف , ولا في أي مكانٍ آخر في (حلة العبيد) ..
اختفت تماماً كأنما ابتلعتها المدينة الكبيرة .
وفجأة رأيتها في عصر أحد الأيام , تفرش بيدٍ واحدة معداتها على ناصية الطريق , وبيدها الأخرى تضم إلى صدرها وليدها الرضيع , وفي وجهها شيء لم آلفه من قبل , ولكن سرعان ماتبينته عندما أمعنت النظر فيه .. كان في أجفانها ذبول كأنما من أثر بكاء كثير أو أرق ليالٍ طويلة , وفي أعمق أعماق حدقة العين يرقد شجنٌ دفين .. سألتها :
– أين أنتِ يا أمَّ رائد ؟
أطرقت برأسها ولم تجب .
كيف حال رائد وكيف حالُ أبيه ؟
– رائد .. أعطاك عمره .
قالتها وهي تنظر إليّ بعينين جامدتين , لا أثر فيهما للدموع .. وعدت أسألها :
– مات .. !؟ متى .. كيف ؟ هل كان مريضاً ؟
كنت أعرف أن هذه الأسئلة سخيفة وعديمة الذوق , ولكن عينيها الجامدتين بلا دموع واللامبالاة في صوتها وهي تخبرني بموت ابنها .. كل ذلك كان يثيرني ويحيرني ,
فسيطرت علّ نزوة غامضة , جعلتني أود لو أرى الدموع في عينيها .. لكنها راحت تفحصني في صمت عندما سمعت سؤالي الأخير , ثم ندت عنها تنهيدة صغيرة وتمتمت :
– أنا .. أنا السبب .
– أنتِ السبب .. !! كيف .. ؟!
وأخذت تحكي قصتها في أسى :
ذات يوم صادرت البلدية جُوال الذرة وموقد الفحم لإشغالها الطريق ..
لم يفلح معهم شيء .. لا الرجاء أو الدموع ولا الرشوة .. وقتَها صرخت فيهم وتلفظت بكلام خرج من قلبي مثلَ الشرر .. أنا من شغلَ الطريق أم الحكومة .. ؟ ألاترون الحفر والمعدات وأكوام الحجارة وسط الطريق .
لافائدة من أي كلام ولا جدوى … من ضيقها لم تسطع بعد عودتها للبيت أن تمنع نفسها من الصياح في وجه رائد وأبيه
– يارب خذني .. أو خذهما الاثنين .
ولأن لسانه مشلول أو مأ الأب برأسه كما لو كان يريد أن يقول : ( اصبري قليلاً .. سأذهب أنا سريعاً .. ) لكن رائد رمقها بنظرة طويلة ثم استدار وخرج من البيت صامتاً ..
– يا ليتني ما كنت دعوت بتلك الدعوات .. كما لو أن الله استجاب .
في المساء جاء جارنا يقول إنني مطلوبة في مستشفى الشميسي .. عندما وصلت المستشفى كان رائد يرقد في السرير الأبيض وقد غطته الضمادات تماماً .. ابتسم لها وانسابت الدموع على خديه .
– لا عليك يا أمي حصل ما حصل .
– لماذا -يارائد- لم تنتبه للسيارة .. ؟
– رأيتها .. كانت تمشي على مهل .. قلت أفعلُ ما فعله مهند .. وآخذ تعويضاً من صاحب السيارة .
– لماذا .. ؟! لمَ فعلتَ هذا ! ؟
– حتى تشتري جوال ذرة وموقد جديد .. بدل الذي صادرته البلدية …
وراح في غيبوبة طويلة .. وفي صباح اليوم التالي مات رائد .
عدلت وضع الشال على رأسها وهي تكمل حكايتها :
راحت يوماً إلى صاحب السيارة فأعطاها خمسمائة ريال وقال :
– لا أريد أن أراك ثانية ً .. ابنك هو الذي رمى بنفسه تحت السيارة .. كل الشهود شهدوا ضده في المحضر .
مددت لها يدي ببعض النقود وشيء في أعماقي يرتعش من الداخل .. ارتعاشة لست أدري كنهها .. ظلت يدي ممدودة في رجاء أن تقبل عونها الضئيل لكنها اعتذرت شاكرةً وهي تنظر حولها كمن تبحث عن أشياء مفقودة .. توقفت عيناها على وجه وليدها الرضيع.. ثم مسحت بيدها خطين من الدموع انحدرا على خديها .