توارى النهار و اضمحلّ النور و لمّت الشمس وشاحها عن سهول بعلبك ، فعاد عليّ الحسيني )****( أمام
قطيعه نحو خرائب الهيكل ، و هناك جلس بين العمدة الساقطة كأنها أضلع جنديّ متروك مزّقتها الهيجاء و
جرّدتها العناصر ، فربضت أغنامه حوله مستأمنة بأنغام شبّابته .
انتصف الليل , وألقت السماء بذور الغد في أعماق ظلمته ، فتعبت أجفان عليّ من أشباح اليقظة و كلّت عاقلته
من مرور مواكب الخيلة السائرة بسكينة مخيفة بين الجدران المهدومة ، فاتّكأ على زنده ، و اقترب النعاس
ولمس حواسه بأطراف ثنايا نقابه مثلما يلمس الضباب اللطيف وجه البحيرة الهادئة ، فنسي ذاته المقتبسة
والتقى بذاته المعنويّة الخفيّة المفعمة بالحلم المترفّعة عن شرائع النسان و تعاليمه ، واتسعت دوائر الرؤيا
أمام عينيه ، و انبسطت له خفايا السرار ، فانفردت نفسه عن موكب الزمن المتسارع نحو اللشيء ووقفت
وحدها أمام الفكار المتناسقة و الخواطر المتسابقة ، و لوّل مرة في حياته عرف أو كاد يعرف أسباب المجاعة
الروحيّة الملحقة شبيبته . تلك المجاعة التي توحّد بين حلوة الحياة و مرارتها . ذلك الظمأ الجامع بين تأوّه
الحنين و سكينة الستكفاء . ذلك الشوق الذي ل تزيله أمجاد العالم و ل تثنيه مجاري العمر . لوّل مرّة في
حياته شعر عليّ الحسيني بعاطفة غريبة أيقظتها خرائب الهيكل . عاطفة رقيقة هي الذكرى بمنزلة البخور من
المجامر . عاطفة سحريّة قد انعكفت على حواسه انعكاف أنامل الموسيقيّ على صفوف الوتار . عاطفة جديدة
قد انبثقت من اللشيء ، أو من كلّ شيء ، و نمت و تدرّجت حتى عانقت كلّيته المعنويّة و ملت نفسه بشغف
مدنف بلطفه و توجّع مستعذب بمرارته مستطيب بقساوته . عاطفة تولّدت من خليا دقيقة واحدة مفعمة
بالنعاس ، ومن دقيقة واحدة تتولد رسوم الجيال مثلما تتناسل المم من نطفة واحدة .
نظر عليّ نحو الهيكل المهدوم وقد تبدّل النعاس بيقظة روحيّة فظهرت بقايا المذبح المخدّشة و اتضحت أماكن
العمدة المرتمية و أسس الجدران المتداعية فجمدت عيناه و خفق قلبه ، و مثل ضرير عاد النور إلى عينيه
فجأة فصار يرى و يفكّر و يتأمّل- يفكّر ويتأمّل- ومن تموّجات التفكر و دوائر التأمّل تولّدت في نفسه أشباح
الذكرى فتذكّر – تذكّر تلك العمدة منتصبة بفخر و عظمة . تذكّر المسارج و المباخر الفضيّة محيطة بتمثال
معبودةٍ مهابة . تذكّر الكهّان الوقورين يقدّمون الضحايا أمام مذبح مصفح بالعاج و الذهب . تذكّر الصبايا
الضاربات الدفوف و الفتيان المترنّمين بمدائح ربّة الحبّ و الجمال . تذكّر و رأى هذه الصور متضحة لبصيرته
المتكهربة وشعر بتأثيرات غوامضها تحرّك سواكن أعماقه . و لكن الذكرى ل تعيد غير أشباح الجسام التي
نراها فيما غبر من أعمارنا ول يرجع إلى مسامعنا إل صدى الصوات التي وعتها آذاننا . فأيّة علقة بين هذه
التذكارات السحريّة و ماضي حياة فتى ولد بين المضارب و صرف ربيع عمره يرعى قطيعاً من الغنم في
البريّة؟
قام عليّ و مشى بين الحجارة المتقوّضة و تذكاراته البعيدة تزيح أغشية النسيان عن مخيّلته مثلما تزيل
الصبيّة نسيج العنكبوت عن بلّور مرآتها . حتى إذا ما بلغ صدر الهيكل وقف كأنّ في الرض جاذباً يتمسك
بقدميه ، فنظر و إذا به أمام تمثال مهشّم ملقى على الحضيض ، فركع بجانبه على غير هدى وعواطفه تتدفّق
في أحشائه مثلما يتسارع نزيف الدماء من جوانب الكلوم البليغة ، و نبضات قلبه تتكاثر و تتهامل مثل أمواج
البحر المتصاعدة المنخفضة فخشع بصره و تأوّه بمرارة و بكى بكاءً أليماً لنه شعر بوحدة جارحة و بعاد
متلف فاصل بين روحه و روح جميلةٍ كانت بقربه قبل مجيئه إلى هذه الحياة .
شعر بأن جوهر نفسه لم يكن غير شطر من شعلة متّقدة فصلها ال عن ذاته قبيل انقضاء الدّهر .
شعر بحفيف أجنحة لطيفة ترفرف بين أضلعه الملتهبة و حول لفائف دماغه المنحلّة .
شعر بالحبّ القوي العظيم يشمل قلبه و يمتلك أنفاسه ، ذلك الحبّ الذي يبيح مكنونات النفس للنفس و يفصل
بتفاعيله بين العقل و عالم المقاييس و الكمّية ، ذلك الحبّ الذي نسمعه متكلّما عندما تخرس ألسنة الحياة و
نراه منتصباً كعمود النور عندما تحجب الظلمة كلّ الشياء . ذلك الحبّ ، ذلك الله قد هبط في تلك الساعة
الهادئة على نفس عليّ الحسيني و أيقظ فيها عواطف حلوة و مرّة مثلما تستنبت الشمس الزهور بجانب
الشواك .
ولكن ما هذا الحبّ ، و من أين أتى ، و ماذا يريد من فتىً رابض مع قطيعه بين تلك الهياكل الرميمة ؟ و ما
هذه الخمرة السائلة في كبد لم تحرّكها قط لواحظ الصبايا ؟ و ما هذه الغنية السماويّة المتموّجة في مسامع
بدوي لم يطربه بعد شدو النساء ؟
ما هذا الحبّ ، و من أين أتى ، و ماذا يريد من عليّ المشغول عن العالم بأغنامه و شبّابته ؟ هل هي نواة
ألقتها محاسن بدويّة بين أعشار قلبه على غير معرفة من حواسه ، أم هو شعاع كان محتجباً بالضباب و قد
ظهر الن لينير خليا نفسه ؟ هل هو حلمٌ سعى في سكينة الليل ليسخر بعواطفه ، أم هي حقيقة كانت منذ الزل
و ستبقى إلى آخر الدهر ؟
أغمض عليّ أجفانه المغلفة بالدموع و مدّ يديه كالمتسوّل المستعطف و ارتعشت روحه في داخله و من
ارتعاشاتها المتواصلة انبثقت الزفرات المتقطّعة المؤلفة بين تذلّل الشكوى و حرقة الشوق ، و بصوت ل
يميّزه عن التنهّد غير رنّات اللفاظ الضعيفة هتف قائلً :
" من أنت أيّتها القريبة من قلبي ، البعيدة عن ناظري ، الفاصلة بيني و بيني ، الموثقة حاضري بأزمنة بعيدة
منسيّة ، أطيف حوريّة جاءت من عالم الخلود لتبيّن لي بُطل الحياة و ضعف البشر ، أم روح مليكة الجان
تصاعدت من شقوق الرض لتسترق منّي عاقلتي و تجعلني سخرية بين فتيان عشيرتي ؟ من أنت و ما هذا
الفتون المميت المحيي القابض على قلبي ؟ و ما هذه المشاعر المالئة جوانحي نوراً و ناراً ؟ و من أنا و ما
هذه الذات الجديدة التي أدعوها )أنا( و هي غريبة عني ؟ هل تجرّعْت ماء الحياة مع دقائق الثير فصرت ملكاً
أرى و أسمع خفايا السرار ، أم هي خمر وساوس سكرت بها فتعاميت عن حقائق المعقولات ؟ " .
و سكت دقيقة و قد نمت عواطفه و تسامت روحه فقال : " يا من تبينها النفس و تدنيها و يحجبها الليل و
يقصيها - أيتها الروح الجميلة الحائمة في فضاء أحلمي , قد أيقظت في باطني عواطف كانت نائمة مثل بذور
الزهور المختبئة تحت أطباق الثلج ، و مررت كالنسيم الحامل أنفاس الحقول و لمست حواسي فاهتزّت و
اضطربت كأوراق الشجار ! دعيني أراكِ إن كنت لبسة من المادة ثوباً . أو مري النوم أن يغمض أجفاني
فأراكِ بالمنام إن كنت معتوقة من التراب . دعيني ألمسكِ . أسمعيني صوتكِ . مزّقي هذا النقاب الحاجب كلّيتي و
اهدمي هذا البناء الساتر ألوهيّتي و هبيني جناحاً فأطير وراءكِ إلى مسارح المل العلى إن كنتِ من سكانها أو
لمسي عيني بالسحر فأتبعك إلى مكامن الجان إن كنت من عرائسها . ضعي يدكِ الخفيّة على قلبي و امتلكيني
إن كنت حريّا باتّباعك " .
كان عليّ يهمس في آذان الدجى كلماته المتناسخة عن صدى نغمة متمايلة في أعماق صدره و بين ناظره و
محيطه تنسل أشباح الليل كأنّها أبخرة متولدة من مدامعه السخينة ، و على جدران الهياكل تتمثّل له صور
سحريّة بألوان قوس قزح .
كذا مرّت ساعة و هو فرح بدموعه ، مغتبط بلوعته ، سامع نبضات قلبه ، ناظر إلى ما وراء الشياء كأنّه يرى
رسوم هذه الحياة تضمحلّ ببطء و يحلّ مكانها حلم غريب بمحاسنه هائل بهواجسه ، و مثل نبيّ يتأمّل نجوم
السماء مترقّبا هبوط الوحي صار ينتظر مآتي الدقائق و تنهيداته المسرعة توقف أنفاسه الهادئة ، و نفسه
تتركه و تسبح حوله ثمّ تعود إليه كأنّها تبحث بين تلك الخرائب عن ضائع عزيز .
لح الفجر و ارتجفت السكينة لمرور نسيماته و سال النور البنفسجي بين دقائق الثير ، و ابتسم الفضاء
ابتسامة نائح لح له في الحلم طيف حبيبته ، فظهرت العصافير من شقوق جدران الخرائب ، و صارت تنتقل
بين تلك العمدة و تترنّم و تتناجى متنبّئة بمآتي النهار ، فانتصب عليّ واضعاً يده على جبهته الملتهبة و
نظر حوله بطرف جامد ، و مثل آدم عندما فتحت عينيه نفخة ال صار ينظر مستغرباً كلّ ما يراه . ثمّ اقترب من
نعاجه و ناداها فقامت و انتفضت و مشت وراءه بهدوء نحو المروج الخضراء . سار عليّ أمام قطيعه و عيناه
الكبيرتان محدّقتان إلى الفضاء الصافي و عواطفه المنصرفة عن المحسوسات تبيّن له غوامض الوجود و
مستتراته و تريه ما غبر من الجيال و ما بقي منها بلمحةٍ واحدة ، و بلمحةٍ واحدةٍ تنسيه كلّ ذلك و تعيد إليه
الشوق و الحنين ، فيجد ذاته منحجباً عن روحه انحجاب العين عن النور ، فيتنهّد و مع كل تنهيدة تنسلخ
شعلة من فؤاده المتقد .
بلغ الجدول المذيع بخريره سرائر الحقول فجلس على ضفته تحت أغصان الصفصاف المتدلية إلى المياه كأنّها
تروم امتصاص عذوبتها ، و انثنت نعاجه ترتعي العشاب و ندى الصباح يتلمّع على بياض صوفها . و لم تمرّ
دقيقة حتى شعر بتسارع نبضات قلبه و تضاعف اهتزازات روحه ، و مثل راقد أجفلته أشعة الشمس تحرّك و
تلفّت حوله فرأى صبيّة قد ظهرت من بين الشجار تحمل جرّة على كتفها و تتقدّم على مهل نحو الغدير و قد
بلّل النّدى قدميها العاريتين .
و لمّا بلغت حافة الجدول و انحنت لتمل جرّتها التفتت نحو الحافة المقابلة فالتقت عيناها بعيني علي فشهقت
و رمت بالجرّة ثمّ تراجعت قليلً إلى الوراء و شخصت به شخوص ضائع وجد من يعرفه . . . مرّت دقيقة كانت
ثوانيها مثل مصابيح تهدي قلبيهما إلى قلبيهما مبتدعة من السكينة أنغاماً غريبة تعيد إلى نفسيهما صدى
تذكاراتٍ مبهمةٍ و تبيّن الواحد منهما للخر في غير ذلك المكان محاطاً بصور و أشباح بعيدة عن ذلك الجدول
و تلك الشجار ، فكان كلّ منهما ينظر إلى الخر نظرة استعطاف و يتفرّس فيه مستلطفاً ملمحه مصغياً
لتنهداته بكلّ ما في عواطفه من المسامع ، مناجياً إيّاه بكلّ ما في نفسه من اللسنة ، حتى إذا ما تمّ التفاهم و
تكامل التعارف بين الروحين عبر عليّ الجدول مجذوباً بقوةٍ خفيّة و اقترب من الصبيّة و عانقها و قبّل
شفتيها و قبّل عنقها و قبّل عينيها فلم تبدِ حراكاً بين ذراعيه كأنّ لذة العناق قد انتزعت منها إرادتها ،
ورقّة الملمسة قد أخذت منها قواها ، فاستسلمت استسلم أنفاس الياسمين لتموّجات الهواء ، و ألقت رأسها
على صدره كمتعبٍ وجد راحة . و تنهدت تنهدة عميقة تشير إلى حدوث انبساط في فؤاد منقبض و تعلن ثورات
جوانح كانت راقدة فأفاقت ، ثمّ رفعت راسها و نظرت إلى عينيه نظرة من يستصغر الكلم المتعارف بين البشر
بجانب السكينة - لغة الرواح – نظرة من ل يرضى بأن يكون الحبّ روحاً في أجساد من اللفاظ .
مشى الحبيبان بين أشجار الصفصاف و وحدانيّة كليهما لسان ناطق بتوحيدهما ، و مسمع منصت لوحي
المحبة ، و عين مبصرة مجد السعادة . تتبعهما الخراف مرتعية رؤوس العشاب و الزهور ، و تقابلهما
العصافير من كلّ ناحيةٍ مرتّلة أغاني السحر!
و لما بلغا طرف الوادي ، و كانت الشمس قد طلعت و ألقت على تلك الروابي رداءً مذهباً ، جلسا بقرب صخرةٍ
يحتمي البنفسج بظلّها . و بعد هنيهة نظرت الصبيّة في سواد عيني علي و قد تلعب النسيم بشعرها كأنّ
النسيم شفاه خفية تروم تقبيلها ، و شعرت بأنامل سحريّة تداعب لسانها و شفتيها رغم إرادتها ، فقالت و في
صوتها حلوة جارحة :
" قد أعادت عشتروت روحينا إلى هذه الحياة كيل نحرم ملذات الحبّ ، و مجد الشبيبة يا حبيبي ! "
فأغمض عليّ أجفانه و قد استحضرت موسيقى كلماتها رسوم حلم طالما رآه في نومه ، و شعر بأجنحةٍ غير
منظورةٍ قد حملته من ذلك المكان و أوقفته في حجرةٍ غريبةِ الشكل بجانب سرير ملقى عليه جثمان امرأةٍ
جميلةٍ أخذ الموت بهاءها و حرارة شفتيها ، فصرخ ملتاعاً من هول المشهد ثمّ فتح أجفانه فوجد تلك الصبيّة
جالسة بجانبه و على شفتيها ابتسامة محبّة و في لحظها أشعة الحياة ، فأشرق وجهه و انتعشت روحه و
تضعضعت أخيلة رؤياه و نسي الماضي و مآتيه . . .
تعانق الحبيبان و شربا من خمرة القبل حتى سكرا و نام كلّ منهما ملتفّا بذراعي الخر إلى أن مال الظلّ و
أيقظتهما حرارة الشمس .