تلك هي قصة بداية النبوة ونزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم لأول
مرة ، وقد كان ذلك في رمضان في ليلة القدر ، قال الله تعالى : ( شهر رمضان
الذي أنزل فيه القرآن ) وقال : ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) وقد أفادت
الأحاديث الصحيحة ان ذلك كان ليلة الإثنين قبل أن يطلع الفجر .
وحيث إن
ليلة القدر تقع في وتر من ليالي العشر الأواخر من رمضان ، وقد ثبت علمياً
أن يوم الإثنين في رمضان من تلك السنة إنما وقع في اليوم الحادي والعشرين
فقد أفاد ذلك أن نبوته صلى الله عليه وسلم إنما بدأت في الليلة الحادية
والعشرين من رمضان سنة إحدى وأربعين من مولده صلى الله عليه وسلم وهي توافق
اليوم العاشر من شهر أغسطس سنة 610 م وكان عمره صلى الله عليه وسلم إذ ذاك
أربعين سنة قمرية وستة أشهر واثني عشر يوماً ، وهو يساوي تسعاً وثلاثين
سنة شمسية وثلاثة أشهر واثنين وعشرين يوماً فكانت بعثته على رأس أربعين سنة
شمسية .
فترة الوحي ثم عودته : وكان الوحي قد وانقطع فتر بعد أول نزوله
في غار حراء كما سبق ودام هذا الانقطاع أياما ، وقد ترك ذلك في النبي صلى
الله عليه وسلم شدة وكآبة وحزنا ، ولكن المصلحة كانت في هذا الانقطاع ، فقد
ذهب عنه الروع ، وتثبت من أمره ، وتهيأ لاحتمال مثل ما سبق حين يعود ،
وحصل له التشوف والانتظار ، وأخذ يرتقب مجيء الوحي مرة أخرى. وكان صلى الله
عليه وسلم قد عاد من عند ورقة بن نوفل إلى حراء ليواصل جواره في غاره ،
ويكمل ما تبقى من شهر رمضان ، فلما انتهى شهر رمضان وتم جواره نزل من حراء
صبيحة غرة شوال ليعود إلى مكة حسب عادته .
قال صلى الله عليه وسلم فلما
استبطنت الوادي – أي دخلت في بطنه – نوديت ، فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً
ونظرت عن شمالي فلم أر شيئاً ونظرت أمامي فلم أر شيئاً ونظرت خلفي فلم أر
شيئاً ، فرفعت رأسي فرأيت شيئاً ، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على
كرسي بين السماء والأرض ، فجثت منه رعباً حتى هويت إلى الأرض ، فأتيت خديجة
، فقلت زملوني ، زملوني ، دثروني ، وصبوا علي ماءً بارداً ، فدثروني وصبوا
علي ماءً بارداً، فنزلت ( يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر
والرجز فاهجر ) . وذلك قبل أن تفرض الصلاة ثم حمي الوحي وتتابع . وهذه
الآيات هي بدء رسالته صلى الله عليه وسلم وهي متأخرة عن النبوة بمقدار فترة
الوحي ، وتشمل على نوعين من التكليف مع بيان ما يترتب عليه .
أما النوع
الأول فهو تكليفه صلى الله عليه وسلم بالبلاغ والتحذير ، وذلك في قوله
تعالى : ( قم فأنذر ) فإن معناه حذر الناس من عذاب الله إن لم يرجعوا عما
هم فيه من الغي والضلال ، وعبادة غير الله المتعال ، والإشراك به في الذات
والصفات والحقوق والأفعال .
وأما النوع الثاني فتكليفه صلى الله عليه
وسلم بتطبيق أوامر الله سبحانه وتعالى والالتزام بها في نفسه ، ليحرز بذلك
مرضاة الله ، ويصير أسوة لمن آمن بالله ، وذلك في بقية الآيات ، فقوله : (
وربك فكبر ) معناه خصه بالتعظيم ، ولا تشرك به في ذلك أحداً غيره ، وقوله (
وثيابك فطهر ) المقصود الظاهر منه تطهير الثياب والجسد ، إذ ليس لمن يكبر
الله ويقف بين يديه أن يكون نجساً مستقذراً ، وقوله ( والرجز فاهجر ) معناه
ابتعد عن أسباب سخط الله وعذابه ، وذلك بطاعته وترك معصيته ، وقوله : (
ولا تمنن تستكثر ) أي لا تحسن إحساناً تريد أفضل منه في هذه الدنيا.
أما
الآية الأخيرة فأشار فيها إلى ما يلحقه من أذى قومه حين يفارقهم في الدين ،
ويقوم بدعوتهم إلى الله وحده ، فقال : ( ولربك فاصبر ) .
نزول جبريل على الرسول
كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتعد عن أهل مكة لأنهم يعبدون الأصنام
ويذهب إلى غار حراء في جبل قريب. كان يأخذ معه طعامه وشرابه ويبقى في الغار
أيامًا طويلة. يتفكّر فيمن خلق هذا الكون …
وفي يوم من أيام شهر رمضان
وبينما كان رسول الله يتفكّر في خلق السموات والأرض أنزل الله تعالى عليه
الملك جبريل، وقال للرسول: "اقرأ" فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما أنا
بقارئ"، وكرّرها عليه جبريل ثلاث مرّات، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم
يقول في كل مرّة: "ما أنا بقارئ". وفي المرّة الأخيرة قال الملك جبريل عليه
السلام: "اقرأ باسم ربّك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربّك
الأكرم. الذي علّم بالقلم. علّم الإنسان ما لم يعلم".
وكانت هذه الآيات الكريمة أوّل ما نزل من القرآن الكريم. حفظ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ما قاله جبريل عليه السلام.
عاد
الرسول صلى الله عليه وسلم خائفًا مذعورًا إلى زوجته السيدة خديجة وكان
يرتجف فقال لها:"زمّليني، زمّليني" (أي غطّيني). ولما هدأت نفسه وذهب عنه
الخوف أخبر زوجته بما رأى وسمع فطمأنته وقالت له: "أبشر يا ابن عم، إني
لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة".
كان الرسول قد بلغ الأربعين من عمره عندما أنزل عليه القران الكريم
الدعوة سرا
من
المعلوم تاريخياً أن مكة كانت مركزا لدين العرب، وكان بها سدنة الكعبة
والقائمون على الأوثان والأصنام التي كانت مقدسة عند سائر العرب في ذلك
الزمان. وجاءت رسالة الإسلام وحال مكة على ما ذكرنا، ولم يكن من الحكمة، أن
يجهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوته بداية، والعرب على ما هم عليه
من التقاليد والعادات التي ورثوها عن آبائهم. وكان الأمر يحتاج إلى صبر
ومثابرة وعزيمة لا تزلزلها المصائب والكوارث.فكان من الحكمة أن تكون الدعوة
في بداية أمرها سرية، لئلاً يفاجأ أهل مكة بما يهيجهم ويثير حميتهم
الجاهلية لآلهتهم وأصنامهم.
وبدأ رسول صلى الله عليه وسلم بعرض الإسلام
أولاً على أقرب الناس إليه، وألصقهم به، فدعا آل بيته وأصدقاءه ممن يعرفهم
ويعرفونه، يَعْرِفهم بحب الحق والخير، ويعرفونه بالصدق والصلاح، فأجابه من
هؤلاء جَمْعٌ عرفوا في التاريخ الإسلامي بالسابقين الأولين، وفي مقدمتهم
زوج النبي صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، ومولاه زيد
بن حارثة و ابن عمه على بن أبى طالب ، والصديق أبو بكر رضي الله عنهم،
أسلم هؤلاء في أول يوم من أيام الدعوة وكان إسلامهم فاتحة خير على الإسلام
ودعوته.
ثم نشط أبو بكر في الدعوة إلى الإسلام، وكان رجلاً مح***اً،
صاحب خلق وإحسان، فدعا من يثق به سراً، فأسلم بدعوته عثمان بن عفان و
الزبير بن العوام ، و عبد الرحمن بن عوف ، و سعد بن أبي وقاص، و طلحة بن
عبيد الله رضي الله عنهم.
وسارع كل واحد من هؤلاء إلى دعوة من يطمئن
إليه ويثق به، فأسلم على أيديهم جماعة من الصحابة، وهم من جميع بطون قريش،
وهؤلاء هم أوائل السابقين الأولين الذين جاء ذكرهم في قوله تعالى:
{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ
وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا
عَنْهُ} (التوبة:100).
وذكر أهل السير أنهم كانوا أكثر من أربعين نفراً.
أسلم هؤلاء سراً وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يجتمع بهم بعيداً عن
أنظار المشركين، فيرشدهم ويعلمهم ما نزل عليه من القرآن الكريم، ويثبت
الإيمان في قلوبهم.
وأما مدة الدعوة السرية فقد ذكر أكثر أهل السير أنها
كانت ثلاث سنوات، وكون الدعوة سرية في هذه المرحلة لا يعني أن خبرها لم
يبلغ قريشاً، فقد بلغها إلا أنها لم تكترث لها، ولم تعرها اهتماماً في
بداية الأمر، ظناً منها أن محمداً أحد أولئك الديانين الذين يتكلمون في
الألوهية، وعبادة الله وحده، مما ورثوه من الحنيفية دين إبراهيم عليه
السلام، كما صنع أمية بن أبي الصلت و قس بن ساعدة ، و عمرو بن نفيل
وأشباههم .
ولما بدأ عود الدعوة يشتد ويقوى وخاف المشركون من ذيوع خبرها
وامتداد أثرها، أخذوا يرقبون -على مر الأيام- أمرها ومصيرها،فوقفوا في
سبيلها بعد ذلك.
وختام القول :فإن دعوة الإسلام استدعت في بداية أمرها
أن تكون دعوة سرية، ريثما يتمكن أمرها، لتنطلق معلنة رسالتها الخاتمة، تلك
الرسالة القائمة على إخراج الناس من الغي والضلال إلى الهدى والرشاد، لتكون
عزاً ونصراً للمؤمنين ورحمة للعالمين وصدق الله القائل : {قُلْ بِفَضْلِ
اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا
يَجْمَعُونَ} (يونس:58) والحمد لله رب العالمين
الجهر بالدعوة في قريش
كانت
الدعوة الإسلامية في بداية أمرها تنتهج السرية في تبليغ رسالتها، لظروف
استدعت تلك الحال ، واستمر الأمر على ذلك ثلاث سنين، ثم كان لابد لهذه
الدعوة من أن تعلن أمرها وتمضي في طريقها الذي جاءت من أجله، مهما لاقت من
الصعاب والعنت والصد والمواجهة.
فقد أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه
وسلم -وقد بعثه رسولاً للناس أجمعين- أن يصدع بالحق، ولا يخشى في الله
لومة لائم فقال: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ
الْمُشْرِكِينَ} (الحجر:94) وأخبره أن يبدأ الجهر بدعوة أهله وعشيرته
الأقربين، فقال مخاطباً له {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين}
(الشعراء:214) فدعا بني هاشم ومن معهم من بني المطلب، قال ابن عباس رضي
الله عنهما: لما نزل قوله تعالى {وأنذر عشيرتك الأقربين} صعد النبي صلى
الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي: ( يا بني فهر يا بني عديٍّ - لبطون
قريش - حتى اجتمعوا فجعل الذي لم يستطع أن يخرج يرسل رسولاً لينظر ما الخبر
؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن
تغير عليكم أكنتم مصِّدقي؟ قالوا ما جربنَّا عليك كذباً، قال فإني نذير لكم
بين يدي عذاب شديد، فقال له أبو لهب: تباً لك إلهذا جمعتنا) متفق عليه.
فكانت
هذه الصيحة العالية بلاغاً مبيناً، وإنذاراً صريحاً بالهدف الذي جاء من
أجله، والغاية التي يحيا ويموت لها، وقد بيَّن صلى الله عليه وسلم ووضََّح
لأقرب الناس إليه أن التصديق بهذه الرسالة هو الرابط الوحيد بينه وبينهم،
وأن عصبية القرابة التي ألِفوها ودافعوا عنها واستماتوا في سبيلها، لاقيمة
لها في ميزان الحق، وأن الحق أحق أن يتبع، فها هو يقف مخاطباً قرابته -كما
ثبت في الحديث المتفق عليه بقوله: ( يا عباس بن عبد المطلب يا عم رسول الله
لا أغني عنك من الله شيئاً ، يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله
شيئاً، يا فاطمة بنت رسول الله سليني ما شئت من مالي، لا أغني عنك من الله
شيئاً) .
ولم يكن صلى الله عليه وسلم يبالي في سبيل دعوته بشئ، بل يجهر
بالحق ويصدع به لا يلوي على إعراض من أعرض، ولا يلتفت إلى استهزاء من
استهزأ، بل كانت وجهته إلى الله رب العالمين {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي
ومماتي لله رب العالمين} (الأنعام:162) وكانت وسيلته الجهر بكلمة الحق {قل
هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من
المشركين} (يوسف:108). وقد لاقى رسول الله صلى الله عليه وسلم جراء موقفه
هذا شدة وبأساً من المشركين، الذين رأوا في دعوته خطراً يهدد ما هم عليه،
فتكالبوا ضده لصده عن دعوته، وأعلنوا جهاراً الوقوف في مواجهته، آملين
الإجهاز على الحق الذي جاء به {والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا
يعلمون} (يوسف21).
ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريقه يدعو إلى
الله متلطفاً في عرض رسالة الإسلام، وكاشفاً النقاب عن مخازي الوثنية،
ومسفهاً أحلام المشركين.فوفق الله تعالى ثلة من قرابته صلى الله عليه وسلم
وقومه لقبول الحق والهدى الذي جاء به، وأعرض أكثرهم عن ذلك، ونصبوا له
العداوة والبغضاء، فقريش قد بدأت من أول يوم في طريق المحاربة لله ولرسوله،
متعصبة لما ألِفته من دين الآباء والأجداد، كما حكى الله تعالى عنهم على
سبيل الذم والإنكار فقال: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ
وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} (الزخرف:22).
وخاتمة القول : إن
الجهر بالدعوة كان تنفيذاً لأمر الله تعالى، وقياماً بالواجب، وقد صدع
النبي صلى الله عليه وسلم بالحق كما أراد الله، ولاقى مقابل هذا الإعلان ما
قد علمنا من عداوة المشركين له وللمؤمنين من حوله، والتنكيل بهم، ولكن كان
البيع الرابح مع الله تعالى، والعاقبة كانت للنبي صلى الله عليه وسلم
وللمؤمنين به فملكوا الدنيا ودانت لهم، وهدى الله بهم الناس إلى الصراط
المستقيم، وفي الدار الآخرة لهم الحسنى عند الله تعالى، واللهَ نسأل أن
يعزَّ دينه وينصر أولياءه ويسلك بنا سبيلهم إنه سميع مجيب