قد يضع الزارع البذرة، ثم يبتعد عنها ويتركها، ولا يدري أي مبلغٍ قد تبلغ، ثم يراها غيره بعد سنوات، فإذا بها دوحة عظيمة الجذع، كثيرة الأغصان، وارفة الظلال، وإذا بعشرات من الزرَّاع غيره ينهضون لرعايتها، والحفاظ عليها حتى تثمر ثمرًا طيبًا، سائغًا أُكُله، ويكون الفضل والجزاء العظيم لمن بذر البذرة في البداية.
هذا هو ملخص قصة الإسلام في غرب إفريقيا التي طرق الإسلام بابها مبكرًا في عام 46هـ، وهي الفترة التي وصلت فيها طلائع المسلمين بقيادة عقبة بن نافع إلى إقليم كوار[1].
وعندما نتحدث عن غرب إفريقيا فنحن في الواقع نتحدث عن إقليم كبير يشغل مساحة شاسعة من الأرض؛ إذ يشتمل على خمسَ عشرةَ دولة، هي: السنغال، جامبيا، الجابون، غينيا بيساو، غينيا (كوناكري)، سيراليون، ليبيريا، ساحل العاج (كوت ديفوار)، غانا، توجو، بنين، نيجيريا، بوركينا فاسو، مالي، موريتانيا. ويحدّ الإقليم من الشرق تشاد والكاميرون، بينما يحده المحيط الأطلنطي من الغرب والجنوب، والجزائر وليبيا من الشمال. ويُعَدُّ الإسلام الدين الرسمي لأغلبية السكان البالغ عددهم -حاليًّا- ما يزيد على مائتي مليون وخمسة ملايين نسمة، بينهم مائة وأربعة عشر مليون مسلم، أي قرابة 55 %[2].
ولقد جاء الإسلام منقذًا لشعوب غرب إفريقيا من جاهلية الوثنية التي كانوا متردِّين فيها، ومن التقاليد البالية التي قيَّدوا أنفسهم بها.
كانت الوثنية هي عقيدة سكان غرب إفريقيا قبل أن يصل إليها الإسلام؛ ولذلك كانت دولة المرابطين تقود حرب جهاد إسلامي ضد سكان غرب إفريقيا في محاولة لنشر العقيدة بين الوثنيين.
أمَّا بالنسبة لتقاليد هذه الدول فقد اشتهرت بالعمل في التجارة، فقد لعبت التجارة دورًا مهمًّا في اقتصاديات هذه الفترة، وكثيرًا ما كانت تقوم المشاحنات والخلافات بين الدول من أجل احتكار التجارة، فنجد مثلًا إمبراطورية غانا قد انتهجت نظام الاحتكار الذي يُستَخدَم حتى اليوم بالنسبة لبعض السلع، مثل الماس الذي تحتكره الشركات الكبرى الآن، وكان حكام غانا يتَّبعون نفس الأسلوب بالنسبة للذهب، وبالتالي استطاعوا تحقيق مكاسب تجارية كبرى، وصار الذهب الموجود في شمال إفريقيا أو في أوربا يأتي من غانا، وظلت تحتكر هذه التجارة حتى اختفت في القرن الثالث عشر؛ لتحل محلها إمبراطورية أخرى هي دولة مالي، التي واصلت نفس التقدم الذي شهدته دولة غانا[3].
وبالنسبة للأوضاع الاجتماعية؛ فقد كان الرِّقُّ منتشرًا، وإن كان بشكل مختلف عن الرقِّ المعروف عند العرب قبل الإسلام؛ فنجد أن قبيلة لمتونة -وغيرها من القبائل- كانت تنقسم إلى طبقتين: طبقة السادة (أمازيغ)، وطبقة الرقيق (الأمجاد). ويحتكر السادة الحياة السياسية، فيؤلِّفون مجالس القبيلة، ويتولَّوْنَ قيادة الجيوش، ويُسَيِّرون أمور القبيلة وفق إرادتهم، كما يحتكرون التجارة، ويدافعون عن أفراد القبيلة ضدَّ أي مكروه.
أمَّا الأمجاد أو الرقيق فهم لا يباعون، ولا يُشترون كالعبيد، ولا يعتقون، وإنما يُورثون كما يُورث المتاع، وهم يَتفانون في الدفاع عن القبيلة، ولهم الحقُّ في اقتناء الثروات كيفما طاب لهم، ولكن هذه الأموال يرثها السيد بعد وفاتهم، كما أنهم يقومون بكل الأعمال؛ فهم يرعَوْنَ الماشية، ويؤدُّون كل ما تحتاجه القبيلة من عمل يدوي، ويؤدُّون لسادتهم نصيبًا معلومًا كل عام من الإبل ونتاجها[4].
وقد عرف الغرب الإفريقي الممالك المنظمة، التي كان من أشهرها مملكة غانا، والتي تُعتَبَر من أقدم الممالك في غرب إفريقيا؛ فلقد اندفعت هجرات من الأمازيغ إلى إمارات الهوسا، وأقامت عدة دويلات في المنطقة الممتدة من النيجر في الغرب إلى بحيرة تشاد في الشرق، وكانت هذه الجماعات الزنجية تعيش على هيئة جماعات مسالمة يرأسها الأكبر سنًّا، ولكل منها كهنوته، واستطاع واحد من هذه الشعوب قبل انتشار الإسلام أن يؤسس دولة، وهذا هو شعب الماندي وأسس دولة نمانة.
وكان قيام هذه الدولة في عام 300 ميلادية أن اتخذت من مدينة أوكار قرب تمبكت الحالية مقرًّا لها، واستمرَّت هذه الدولة حتى استطاع فرع آخر من شعوب الماندي أن يستولي على هذه الدولة، ويؤسس إمبراطورية غانا، التي صارت في عام 800م دولة تجارية قويَّة، وصار اسم غانا هو السائد؛ لأن أحد حكامها يدعى بهذا الاسم، أي: الرئيس المحارب، وكان كل ملك يحمل اسمه فضلًا عن لقب غانا، وكان أحد ألقابه كياماجان (Kata Maghan)، ومعناها سيد الذهب؛ لأن الملك كان يتحكَّم في تصدير هذا المعدن النفيس.
وتُعتبر غانا من أقدم الإمبراطوريات في غرب القارة، وهي تختلف كثيرًا عن الممالك السودانية الأخرى؛ لأن السبب في نشأتها لم يكن عسكريًّا، بل هي نتيجة اختلاط جماعات مختلفة من الزنوج والمغاربة[5].
انتشار الإسلام في غرب إفريقيا
ولقد بدأ انتشار الإسلام في غرب إفريقيا نتيجة الدعوة التي قامت بها الدول التي تأسست هناك، ولعل أهمها دولة المرابطين، الذين أرسلوا الدعاة إلى جهات كثيرة من القارة الإفريقية حتى وصلوا إلى الجابون، وأقاموا رباطًا في كل مكان حلُّوا به، ثم الدول التي نشأت في تلك الجهات مثل: غانا، ومالي، وغيرهما. وفي العصر الحديث قامت الدعوة على نطاق واسع من قِبل دول الفولاني، مثل: دولة عثمان دونفديو في شمال نيجيريا، وحركة الحاج عمر، وغير ذلك.
ومما ساعد على انتشار الإسلام كذلك الحياة القبلية، فإسلام أحد أمراء القبائل يشجع كثيرًا من الأفراد على اعتناق الإسلام، وإن حركة القبائل من أجل المراعي أو اندفاعها نحو الجنوب أمام ضغط من الشمال يجعل هذه الحركة على تماسٍّ مع قبائل أخرى، فينتشر بينها الإسلام؛ لذا فإن انتقال الإسلام نحو الجنوب باتجاه خليج غانا كان بسبب حركة القبائل وانتشار الدعاة، وزادت نسبة المسلمين في هذه البلاد على 50 % من مجموع السكان، ولولا ضغط الاستعمار، ووقوفه في وجه الإسلام، وإفساحه المجال للإرساليات التنصيرية؛ لتُشرفَ على التعليم، وتسعى للحد من انتشار الإسلام عن طريق تقديم المساعدات والإغراء، لولا ذلك لعَمَّ الإسلام المنطقة كاملة[6].
أسباب انتشار الإسلام في غرب أفريقيا
وقد تَغلغل الإسلامُ في غربي إفريقيا بِوجهٍ عامٍّ، وفي بلاد (الهوسا) بوجهٍ خاصٍّ لأسباب منها:
1- ما استشعره العلماءُ والدُّعاة من مسئولية الدَّعوة إلى الله وتبليغِ دين الله أنَّى حلُّوا.
2- بَساطةُ العقيدة الإسلاميَّة وسماحتها؛ فهي عقيدةٌ تَتَّفق مع الفطرة السليمةِ، وتدركها العقولُ بسهولةٍ ويُسرٍ، وليست بحاجةٍ في شرحها وتوضيحها وإقامة براهينها إلى مصطلحاتٍ فلسفيَّةٍ، أو أدواتٍ منطقيَّةٍ، أو تعبيراتٍ أدبيَّةٍ، يدركها الصَّغير والكبير على حدٍّ سواء؛ فهي سهلةُ الفَهم في مقدِّماتها ونتائجها، فلا يجد أحدٌ صعوبةً في إدراك صدقِ هذه العقيدة واتِّفاقها مع كلِّ المقدِّمات والنتائج العقليَّة[7].
ولم يكن انتشار الإسلام في غرب إفريقيا مرتبطًا بعامل واحد، بل كانت هناك عوامل شتى، وأدوار متعددة، وطوائف متنوعة يرجع إليها الفضل بعد الله في انتشار الإسلام، ومن هذه الطوائف:
أولاً: طائفة الغزاة الفاتحين:
ويرجع الفضل إليهم منذ القرن الأول الهجري في دخول الإسلام إلى غرب إفريقيا حيث أقاموا دولًا إسلامية بعد نجاحهم. وأول هؤلاء الغزاة عقبة بن نافع، الذي ولاَّه عمرو بن العاص t على شمال إفريقيا، ففتحها وأسس بها مدينة القيروان، وجعلها مركزًا لانطلاق دعوته، وترك بها جالية عربية إسلامية، ثم رجع إلى مصر. ولم تتَّسع فتوحاته هذه المرَّة إلى الأرجاء المجاورة، ولما تولَّى مرَّة ثانية في عهد يزيد بن معاوية واصل فتوحاته صوب الغرب، حتى وصل بلاد السوس، حيث أسلمت قبائل المصامدة، ثم استمرَّ حتى انتهى إلى البحر المحيط، فنزل بفرسه فيه حتى بلغ الماء نحره، وقال قولته المشهورة: (اللهم إني أشهدك أن لا مجاز، ولو وجدت مجازًا لجزت).
ثم انصرف راجعًا، وسار نحو الجنوب حتى صادف قبائل صنهاجة، فأسلموا على يديه، ودخل طنجة، ثم سار جنوبًا، واستمر في أطراف بلاد السودان، ودخل بلاد غانا، وغينيا، وتكرور، وأسلمت على يديه بعض القبائل الأمازيغية، ويُعَدُّ أول قائد إسلامي استُشْهِد في إفريقيا.
ووُلِّيَ موسى بن نُصَيْر على إفريقيا خلفًا لعقبة، فأعاد إلى الإسلام القبائل الأمازيغية المرتدَّة، حتى حَسُن إسلامها، وشاركت في فتح إفريقيا والأندلس.
ثم تولَّى على إفريقيا في عهد عبد الملك بن مروان زُهَيْر بن قيس، وتوسَّع في فتوحاته حتى استُشهد بها، وخلفه عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة، فغزا بلاد السوس، وحفر سلسلة من الآبار في الصحراء، واستطاع أن يصل شمال إفريقيا بجنوب الصحراء صلة قويَّة.
وخلال عهد الخلفاء الراشدين وحُكم بني أمية كان الغرب الإفريقي في التنظيم الإداري تابعًا لمصر، ثم توالت فتوحات المرابطين، وغيرهم من الحكومات[8].
ثانيًا: الطرق الصوفية:
لقد أَسْدَت الطرق الصوفية في القارَّة الأفريقية دورًا محمودًا وجهدًا مشهودًا في نشر الإسلام في غرب القارة، وتمثَّل هذا الدور في نشر التعاليم الإسلامية، والدعوة للتسامح مع المسيحيين، واستخدم وسائل الترغيب وليس الترهيب لنشر الدعوة الإسلامية، فضلًا عن إنشاء المساجد والزوايا التي صارت خلايا للذكر والعبادة، وفتح المدارس، وشراء العبيد وتعليمهم مبادئ الدين الإسلامي، ثم عتقهم وإرسالهم كدُعاة لنشر الدعوة في مناطق مختلفة، ومن الطرق الصوفية التي كان لها باع في نشر الدعوة الطريقة القادرية، والتيجانية، والسنوسية[9].
ثالثًا: التجَّار المتجوِّلون:
وتُعَدُّ طائفتهم من أهم الطوائف التي نشرت الإسلام في غرب إفريقيا، فقد كانت القوافل التِّجارية تنقل الأسلحة والملابس من شمال إفريقيا إلى غربها، ونلاحظ أن التجار عندما كانوا يحُلُّون بالبلاد كانوا يختلطون بسكان المناطق التي ينزلون فيها، ويتزوَّجون منهم، بل وأنشئوا قرىً جديدة في طريقهم، وكوَّنوا لأنفسهم جاليات إسلامية تُقِيم إقامة دائمة بالبلاد التي ينزلون بها، كما أقاموا مراكز تِجارية ومرافئ للمركب والسفن، وشيَّدوا المساجد، ولا يزال بعضها باقيًا حتى الآن، وكانوا يفتحون المدارس القرآنية في هذه الأماكن، ويتبادلون الأفكار مع السكان والملوك والرؤساء، وقد وَجَدَت الأفكار الإسلامية تقبُّلًا واستجابة من النفوس الطيبة، وبعدَ وقت قصير تحوَّل الكثير من سكان المنطقة من الوثنية إلى الإيمان[10].
رابعًا: الدُّعاة والمعلِّمون:
إن الدعوة الإسلامية كانت دعوة رُوحية خالصة، وكان الداعي المسلم يتعقَّب الفاتح؛ ليُكمل النقص في هداية الناس إلى الإسلام، وقد نجح الروَّاد المسلمون الأوائل في دخول الناس في دين الله أفواجًا، وقد أدى هذا إلى تكوين دول إسلامية في مناطق كثيرة من القارَّة وخاصَّة في غربها، وذلك على أنقاض دول وثنية[11].
[1] أحمد محمد كاني: الجهاد الإسلامي في غرب إفريقيا ص13.
[2] مجلة المجتمع، رقم العدد (1570)، تاريخ العدد 27/9/2003م. انظر الرابط:
http://www.almujtamaa-mag.com/Detail.asp?InSectionID=1243&InNewsItemID=124756
[3] د. عبد الله عبد الرازق إبراهيم: انتشار الإسلام في غرب إفريقيا ص14-18.
[4] د. عصمت عبد اللطيف دندش: دور المرابطين في نشر الإسلام في غرب إفريقيا (430- 515هـ/ 1038-1121م)، الطبعة الأولى، دار الغرب الإسلامي - بيروت، 1408هـ- 1988م، ص34.
[5] د. عبد الله عبد الرازق إبراهيم: انتشار الإسلام في غرب إفريقيا ص13، 14.
[6] محمود شاكر: التاريخ الإسلامي (الأقليات الإسلامية) ج22، الطبعة الثانية، المكتب الإسلامي بيروت 1416-1995، ص276.
[7] مجلة قراءات إفريقية: العدد الأول، رمضان 1425هـ/ أكتوبر 2004م. الرابط:
http://www.albayan-magazine.com/qiraat/aboutus.htm
[8] د. محمد عبد القادر أحمد: المسلمون في غينيا، الطبعة الأولى، القاهرة 1406-1986م، ص24-25.
[9] د. عبد الله عبد الرازق: انتشار الإسلام في غرب إفريقيا، دار الفكر العربي - القاهرة، 2006م، ص6.
[10] د. محمد عبد القادر أحمد: المسلمون في غينيا، الطبعة الأولى، القاهرة، 1406هـ-1986م، ص26-27.
[11] د. عبد الله عبد الرازق: انتشار الإسلام في غرب إفريقيا ص10.