لاشكَّ أن الآباء الذين اكتسبوا من حياتهم الماضية التجاربَ والخبرات في ميادين العمل المختلفة -
هم أوَّلُ مَن يتعلَّق بهم هذا الواجب المقدس نحو أبنائهم.
فضلاً عن أن الطبيعة البشرية جعلتْهم أكثرَ الناس عطفًا عليهم، وأعظمهم حنانًا ومحبةً، وصدق الشاعر حيث يقول:-
وَإِنَّمَا أَوْلاَدُنَا بَيْنَنا
أَكْبَادُنَا تَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ
والولد بعض أبيه، وقطعة منه، وهو ثمرة حياته، وهو الذي يتمنى أبوه - في صدق وإخلاص - أن ينجح في عمله، وأن يرتفع شأنُه بين الناس، فلا يمكن أبدًا أن يحقد عليه، أو يغار منه، أو تقوم بنفسه كراهية ذاتية له، إلى غير ذلك من الأشواك والعقبات التي تقوم في طريق العلاقات الطيبة بين الأفراد.
وصدق المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - حيث يقول في حقِّ ابنته السيدة فاطمة الزهراء - رضي الله عنها -: ((فاطمة بضعة مني، فمن أغضبها أغضبني))؛ رواه البخاري - رحمه الله تعالى - عن المسور - رضي الله عنه – والبضْعَة - مثلَّثة الباء -: القطعة، وطبيعي أن يكون للبعض من التوقير والاحترام ما للكل، فهذا منه - صلَّى الله عليه وسلَّم - تعظيمٌ لحق فاطمة - رضي الله عنه.
ومعلوم أن الآباء والأمهات مهما لاقَوا من الشدائد والمتاعب والآلام في سبيل تربية أبنائهم وبناتهم، فإنهم يُحبُّونهم حبًّا قويًّا غامرًا، بل إنه كلما ازدادت متاعبُ الأبناء، كلما ازداد الحبُّ والعطف عليهم، وهذا من فضل الله - تعالى - ورحمته بالبشرية.
فلولا هذه المحبة، وهذا العطف، اللذان يضعها الله - تعالى - في قلوب الآباء والأمهات، ما تربَّي الأبناء، وما عاشوا.
فالمولى - سبحانه وتعالى - جعل من هذه المحبة وذلك العطف درعًا حصينًا يتدرَّع به الطفل في حياته الأولى، ويتَّقي به ضررَ الإهمال وشرَّ التعرض للأحداث.
ولا شك أن الأبناء نعمةٌ من نعم الله - تعالى - ولذلك امتنَّ بهم - سبحانه وتعالى - علينا في كتابه العزيز بقوله: ﴿ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ ﴾ [نوح: 12] ويقول أيضًا: ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾[الكهف: 46].
وهذه النعمة لا تتم، ولا يكون لها شأنٌ عند الله - تعالى - إلاَّ بالإيمان الصادق والعمل الصالح؛ يقول - جلَّ ذكْرُه -: ﴿ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ﴾ [سبأ: 37]، قال المفسرون: "يعني: أن الأموال لا تُقرِّب أحدًا إلى الله إلاَّ المؤمن الصالح، الذي ينفقها في سبيل الله، والأولاد لا تقرب أحدًا إلى الله إلاَّ المؤمن الصالح، الذي يعلم أولاده الخير ويُفقِّههم في الدين، ويرشحهم للصلاح والطاعة".
والأبناء أمانة في أعناق الآباء، من قِبَل الله - سبحانه وتعالى - وكلُّ أمورِهم إليهم، وجعل لهم الولاية عليهم، يرعونهم وينظرون فيما يصلحهم، وهم مسؤولون عنهم أمام الله - تعالى - يوم القيامة.
لذلك كانت لهم حقوقٌ وواجباتٌ على الآباء، أوجبها الشارع الحكيم، وهذه الحقوق تنحصر في أمرين: الإنفاق عليهم، وتربيتهم.
فيجب على الوالد أن يُنفق على أولاده بالحسنى، من غير تقتير ولا تبذير، فيكفيهم حاجاتِهم من المسكن والملبس والمأكل والمشرب، حسبما يستطيع، فلا يمنع عنهم خيرًا وصل إليه، ولا ينفق عليهم فوق طاقته؛ فذلك ظلمٌ لنفسه ولهم، ويجب عليه أن يُجنِّبهم الحرام، وأن يتخيَّر لهم الحلال، وأن يعفَّهم عما في أيدي الناس.
والسعي في سبيل تحصيل النفقة الواجبة من أفضل الطاعات، بل هو من الجهاد المشروع في سبيل الله - تعالى - يُثيب عليه الثواب الجزيل، ويجب أن يعدل بين أولاده في الإنفاق، فلا يخير واحدًا منهم على آخر، بل يُسوِّي بينهم.
أما تربية الأبناء فهي نوعان:
1- التربية الخُلُقيَّة والدينية.
2- والتربية للتأهيل والإعداد للحياة في المجتمع، والقدرة على تحصيل أسباب العيش.
ويجب عليه أن يبثَّ فيه حبَّ الوطن، والتضحية في سبيله بكل ما يملك، وأن يحذِّرَهم من قرناء السوء، ومن الانحرافات التي تسود المجتمع، وأن يُبصِّرهم دائمًا بعواقب الأمور، ويُبيِّن لهم ألاَّ يغتروا بكلِّ جديد، بل يأخذوا بالحسن منه، ويتركوا ما عداه، وهكذا يفتح لهم أبواب النور والخير والهداية.
كذلك يجب على الوالد أن يُنشِّئ أبناءه تنشئة دينية، فيُعلمهم أن هناك ربًّا قادرًا عظيمًا يطلع على السرائر؛ ﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴾ [غافر: 19]، ويُعودِّهم من الصغر على الصلاة والصوم؛ يقول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مُروا أولادَكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها لعشر))، ويحملهم على أداء سائر الواجبات، والابتعاد عن كافة المحرمات، ويصونهم عن موارد الفتن، وهكذا ينشأ الأولاد متمسِّكين بمبادئ دينهم، حريصين على طاعة الله، مراقبين لعظمته - تعالى.
أما التربية للتأهيل والإعداد للحياة في المجتمع، فيجب على الوالد أن يُعلِّم ولده تعليمًا يُؤهِّله لحياة كريمة سعيدة، حتى لا يكون عالةً على غيره، وحتى يستطيع أن يُسهم بنصيب وافر في خدمة وطنه، وإسعاد مجتمعه الذي يعيش فيه.
ولقد أصبح العلم في هذا العصر أساسَ كلِّ خير، وسبيلَ كلِّ نجاح، بل هو الدعامة الوحيدة في سبيل تقدم الأمم، وعزِّها ومجدها، وكرامته وحضارتها.
وليس المراد من العلم، العلم الديني فحسب، بل المراد سائر العلوم التي تتصل بكافة نواحي الحياة، والتي تخدم الإنسانية، وتزيد في رفاهيتها، كالتجارة والزراعة والصناعة، وما يحقق الأعداد لحماية الأوطان كصنع الأسلحة، كذلك ما يتصل بإصلاح الأبدان كعلوم الطب والحكمة، إلى غير ذلك.
وأقبح ما يتصف به الإنسان الجهلُ وعدم المعرفة؛ يقول الإمام عليُّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -:
مَا الْفَخْرُ إِلاَّ لِأَهْلِ الْعِلْمِ إِنَّهُمُ
عَلَى الْهُدَى لِمَنِ اسْتَهْدَى أَدِلاَّءُ
وَقَدْرُ كُلِّ امْرِئٍ مَا كَانَ يُحْسِنُهُ
وَالْجَاهِلُونَ لِأَهْلِ الْعِلْمِ أَعْدَاءُ
فَفُزْ بِعِلْمٍ تَعِشْ حَيًّا بِهِ أَبَدًا
النَّاسُ مَوْتَى وَأَهْلُ الْعِلْمِ أَحْيَاءُ
فإذا قام الوالد بواجبه نحو أبنائه؛ من حسن الإنفاق والرعاية، والتأديب الخلقي، والتعليم على الوجه الذي أسلفناه لك، مع المحبة والعطف، والنصح والإخلاص والإرشاد - فقد أرضى الله - تعالى - واستحقَّ مثوبته.
وطبيعي أن لكل فترة من فترات حياة الأبناء وضعًا خاصًّا، فمن حقِّ الطفل في طفولته: أن يلاعبه أبوه ويداعبه، ويدخل على نفسه السرور، ثم يأتي دور التأديب والتعليم، ثم يأتي دور النصح والإرشاد، والتوجيه ومعرفة حقائق الأشياء؛ ولذلك يقول الإمام على - رضي الله عنه -: "لاعبْ ولدَك سبعًا، وأدِّبْه سبعًا، وصاحبه سبعًا، ثم اترك حبله على غاربه".
وقد اتخذ علماء التشريع والقانون هذا القولَ الحكيم أصلاً في جعْل سنِّ الرشد التي ترفع فيها الوصاية عن الأفراد إحدى وعشرين سنة.
وبعد، فقد أسلفنا لك بعضَ ما يجب على الآباء لأبنائهم، وقرَّرتْه الشريعة الإسلامية الكريمة السَّمْحة، ما أجدرنا أن نؤديه لأبنائنا ولمجتمعنا ولأُمتنا؛ لنفوز بسعادة الدنيا والآخرة، ونحظى برضوان الله - تعالى.
وكل ما نرجوه ونؤمِّله وندعو إليه: أن يستجيب الأبناء لتوجيه الآباء، وأن يستمعوا لإرشاداتهم، وأن يتقبلوا نصائحَهم.
فبذلك يحققون الرجاء، ويستحقون الثناء، والله - سبحانه وتعالى - وليُّ التوفيق، والهادي إلى أقوم طريق؛ ﴿ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ﴾ [سبأ: 37].