موضوع: }}{{ السيرة النبوية }}{{ كاملة ــ بدءًا من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسلم 16/5/2012, 3:32 pm
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدي ودين الحق ليظهره على الدين كله، فجعله شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، وجعل فيه أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وفجّر لهم ينابيع الرحمة والرضوان تفجيرا. وبعد:-
النسب والمولد والنشأة
*نسب النبي صلى الله عليه وسلم وأسرته :
نسب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ينقسم إلى ثلاثة أجزاء: جزء اتفق عليه كافة أهل السير والأنساب، وهو الجزء الذي يبدأ منه صلى الله عليه وسلم وينتهي إلى عدنان.
وجزء آخر كثر فيه الاختلاف، حتى جاوز حد الجمع والائتلاف، وهو الجزء الذي يبدأ بعد عدنان وينتهي إلى إبراهيم عليه السلام فقد توقف فيه قوم، وقالوا: لا يجوز سرده، بينما جوزه آخرون وساقوه. ثم اختلف هؤلا المجوزون في عدد الآباء وأسمائهم، فاشتد اختلافهم وكثرت أقوالهم حتى جاوزت ثلاثين قولًا، إلا أن الجميع متفقون على أن عدنان من صريح ولد إسماعيل عليه السلام.
أما الجزء الثالث فهو يبدأ من بعد إبراهيم عليه السلام وينتهي إلى آدم عليه السلام، وجل الاعتماد فيه على نقل أهل الكتاب، وعندهم فيه من بعض تفاصـيل الأعمـار وغيرهـا ما لا نشك في بطلانه، بينما نتوقف في البقية الباقية.
وفيما يلى الأجزاء الثلاثة من نسبه الزكى صلى الله عليه وسلم بالترتيب :
الجزء الأول : محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ـ واسمه شَيْبَة ـ بن هاشم ـ واسمه عمرو ـ بن عبد مناف ـ واسمه المغيرة ـ بن قُصَىّ ـ واسمه زيد ـ بن كِلاب بن مُرَّة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فِهْر ـ وهو الملقب بقريش وإليه تنتسب القبيلة ـ بن مالك بن النَّضْر ـ واسمه قيس ـ بن كِنَانة بن خُزَيْمَة بن مُدْرِكة ـ واسمه عامـر ـ بن إلياس بن مُضَر بن نِزَار بن مَعَدّ بن عدنان.
الجزء الثانى : ما فوق عدنان، وعدنان هو ابن أُدَد بن الهَمَيْسَع بن سلامان بن عَوْص بن بوز بن قموال بن أبي بن عوام بن ناشد بن حزا بن بلداس بن يدلاف بن طابخ بن جاحم بن ناحش بن ماخى بن عيض بن عبقر بن عبيد بن الدعا بن حَمْدان بن سنبر بن يثربى بن يحزن بن يلحن بن أرعوى بن عيض بن ديشان بن عيصر بن أفناد ابن أيهام بن مقصر بن ناحث بن زارح بن سمى بن مزى بن عوضة بن عرام بن قيدار ابن إسماعيل بن إيراهيم عليهما السلام.
الجزء الثالث : ما فوق إبراهيم عليه السلام، وهو ابن تارَح ـ واسمه آزر ـ بن ناحور بن ساروع ـ أو ساروغ ـ بن رَاعُو بن فَالَخ بن عابر بن شَالَخ بن أرْفَخْشَد بن سام بن نوح عليه السلام بن لامك بن مَتوشَلخَ بن أَخْنُوخ ـ يقال : هو إدريس النبي عليه السلام ـ بن يَرْد بن مَهْلائيل بن قينان بن أنُوش بن شِيث بن آدم ـ عليهما السلام.
*الأسرة النبوية :
تعرف أسرته صلى الله عليه وسلم بالأسرة الهاشمية ـ نسبة إلى جده هاشم بن عبد مناف ـ وإذن فلنذكر شيئًا من أحوال هاشم ومن بعده :
1 ـ هاشم :
قد أسلفنا أن هاشمًا هو الذي تولى السقاية والرفادة من بني عبد مناف حين تصالح بنو عبد مناف وبنو عبد الدار على اقتسام المناصب فيما بينهما، وكان هاشم موسرًا ذا شرف كبير، وهو أول من أطعم الثريد للحجاج بمكة، وكان اسمه عمرو فما سمى هاشمًا إلا لهشمه الخبز، وهو أول من سن الرحلتين لقريش، رحلة الشتاء والصيف، وفيه يقول الشاعر :
عمرو الذي هَشَمَ الثريدَ لقومه ** قَــومٍ بمـكــة مُسِْنتِيــن عِجَــافِ
سُنَّتْ إليه الرحلتان كلاهـمــا ** سَفَرُ الشتاء ورحلة الأصياف
ومن حديثه أنه خرج إلى الشام تاجرًا، فلما قدم المدينة تزوج سلمى بنت عمرو أحد بني عدى بن النجار وأقام عندها، ثم خرج إلى الشام ـ وهي عند أهلها قد حملت بعبد المطلب ـ فمات هاشم بغزة من أرض فلسطين، وولدت امرأته سلمى عبد المطلب سنة 497 م، وسمته شيبة؛ لشيبة كانت في رأسه، وجعلت تربيه في بيت أبيها في يثرب، ولم يشعر به أحد من أسرتـه بمكـة، وكان لهاشم أربعة بنين وهم: أسد وأبو صيفي ونضلة وعبد المطلب. وخمس بنات وهن: الشفاء، وخالدة، وضعيفة، ورقية، وجنة.
2 ـ عبـد المطلب :
قد علمنا مما سبق أن السقاية والرفادة بعد هاشم صارت إلى أخيه المطلب بن عبد مناف [وكان شريفًا مطاعًا ذا فضل في قومه، كانت قريش تسميه الفياض لسخائه] لما صار شيبة ـ عبد المطلب ـ وصيفًا أو فوق ذلك ابن سبع سنين أو ثماني سنين سمع به المطلب. فرحل في طلبه، فلما رآه فاضت عيناه، وضمه، وأردفه على راحلته فامتنع حتى تأذن له أمه، فسألها المطلب أن ترسله معه، فامتنعت، فقال : إنما يمضى إلى ملك أبيه وإلى حرم الله فأذنت له، فقدم به مكة مردفه على بعيره، فقال الناس: هذا عبد المطلب، فقال: ويحكم، إنما هو ابن أخى هاشم، فأقام عنده حتى ترعرع، ثم إن المطلب هلك بـ [دمان] من أرض اليمن، فولى بعده عبد المطلب، فأقام لقومه ما كان آباؤه يقيمون لقومهم،وشرف في قومه شرفًا لم يبلغه أحد من آبائه، وأحبه قومه وعظم خطره فيهم.
ولما مات المطلب وثب نوفل على أركاح بد المطلب فغصبه إياها، فسأل رجالًا من قريش النصرة على عمه، فقالوا: لا ندخل بينك وبين عمك، فكتب إلى أخواله من بني النجار أبياتًا يستنجدهم، فسار خاله أبو سعد بن عدى في ثمانين راكبًا، حتى نزل بالأبطح من مكة، فتلقاه عبد المطلب، فقال: المنزل يا خال، فقال: لا والله حتى ألقى نوفلًا، ثم أقبل فوقف على نوفل، وهو جالس في الحجر مع مشايخ قريش، فسل أبو سعد سيفه وقال: ورب البيت، لئن لم ترد على ابن أختى أركاحه لأمكنن منك هذا السيف، فقال: رددتها عليه، فأشهد عليه مشايخ قريش، ثم نزل على عبد المطلب، فأقام عنده ثلاثًا، ثم اعتمر ورجع إلى المدينة. فلما جرى ذلك حالف نوفل بني عبد شمس بن عبد مناف على بني هاشم. ولما رأت خزاعة نصر بني النجار لعبد المطلب قالوا: نحن ولدناه كما ولدتموه، فنحن أحق بنصره ـ وذلك أن أم عبد مناف منهم ـ فدخلوا دار الندوة وحالفوا بني هاشم على بني عبد شمس ونوفل، وهذا الحلف هو الذي صار سببًا لفتح مكة كما سيأتى.
ومن أهم ما وقع لعبد المطلب من أمور البيت شيئان:
حفر بئر زمزم ووقعة الفيل
وخلاصة الأول: أنه أمر في المنام بحفر زمزم ووصف له موضعها، فقام يحفر، فوجد فيه الأشياء التي دفنها الجراهمة حين لجأوا إلى الجلاء، أي السيوف والدروع والغزالين من الذهب، فضرب الأسياف بابًا للكعبة، وضرب في الباب الغزالين صفائح من ذهب، وأقام سقاية
زمزم للحجاج.
ولما بدت بئر زمزم نازعت قريش عبد المطلب، وقالوا له : أشركنا.قال: ما أنا بفاعل، هذا أمر خصصت به، فلم يتركوه حتى خرجوا به للمحاكمة إلى كاهنة بني سعد هُذَيْم، وكانت بأشراف الشام، فلما كانوا في الطريق، ونفد الماء سقى الله عبد المطلب مطرًا، م ينزل عليهم قطرة، فعرفوا تخصيص عبد المطلب بزمزم ورجعـوا، وحينئذ نذر عبد المطلب لئن آتاه الله عشرة أبناء، وبلغوا أن يمنعوه لينحرن أحدهم عند الكعبة.
وخلاصة الثانى: أن أبرهة بن الصباح الحبشى، النائب العام عن النجاشى على اليمن، لما رأي العرب يحجون الكعبة بني كنيسة كبيرة بصنعاء، وأراد أن يصرف حج العرب إليها، وسمع بذلك رجل من بني كنانة، فدخلها ليلًا فلطخ قبلتها بالعذرة. ولما علم أبرهة بذلك ثار غيظه، وسار بجيش عرمرم ـ عدده ستون ألف جندى ـ إلى الكعبة ليهدمها، واختار لنفسه فيلا من أكبر الفيلة، وكان في الجيش 9 فيلة أو 13 فيلا، وواصل سيره حتى بلغ المُغَمَّس، وهناك عبأ جيشه وهيأ فيله، وتهيأ لدخول مكة، فلما كان في وادى مُحَسِّر بين المزدلفة ومنى برك الفيل، ولم يقم ليقدم إلى الكعبة، وكانوا كلما وجهوه إلى الجنوب أو الشمال أو الشرق يقوم يهرول، وإذا صرفوه إلى الكعبة برك، فبيناهم كذلك إذ أرسل الله عليهم طيرًا أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول. وكانت الطير أمثال الخطاطيف والبلسان، مع كل طائر ثلاثة أحجار؛ حجر في منقاره، وحجران في رجليه أمثال الحمص، لا تصيب منهم أحدًا إلا صارت تتقطع أعضاؤه وهلك، وليس كلهم أصابت، وخرجوا هاربين يموج بعضهم في بعض، فتساقطوا بكل طريق وهلكوا على كل منهل، وأما أبرهة فبعث الله عليه داء تساقطت بسببه أنامله، ولم يصل إلى صنعاء إلا وهو مثل الفرخ، وانصدع صدره عن قلبه ثم هلك.
وأما قريش فكانوا قد تفرقوا في الشعاب، وتحرزوا في رءوس الجبال خوفًا على أنفسهم من معرة الجيش، فلما نزل بالجيش ما نزل رجعوا إلى بيوتهم آمنين.
وكانت هذه الوقعة في شهر المحرم قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بخمسين يومًا أو بخمسة وخمسين يومًا ـ عند الأكثر ـ وهو يطابق أواخر فبراير أو أوائل مارس سنة 571 م، وكانت تقدمة قدمها الله لنبيه وبيته؛ لأنّا حين ننظر إلى بيت المقدس نرى أن المشركين من أعداء الله استولوا على هذه القبلة مرتين بينما كان أهلها مسلمين، كما وقع لبُخْتُنَصَّر سنة 587 ق.م، والرومان سنة 70 م، ولكن لم يتم استيلاء نصارى الحبشة على الكعبة وهم المسلمون إذ ذاك، وأهل الكعبة كانوا مشركين.
وقد وقعت هذه الوقعة في الظروف التي يبلغ نبؤها إلى معظم المعمورة المتحضرة إذ ذاك. فالحبشة كانت لها صلة قوية بالرومان، والفرس لا يزالون لهم بالمرصاد، يترقبون ما نزل بالرومان وحلفائهم؛ ولذلك سرعان ما جاءت الفرس إلى اليمن بعد هذه الوقعة، وهاتان الدولتان كانتا تمثلان العالم المتحضر في ذلك الوقت. فهذه الوقعة لفتت أنظار العالم ودلته على شرف بيت الله، وأنه هو الذي اصطفاه الله للتقديس، فإذن لو قام أحد من أهله بدعوى النبوة كان ذلك هو عين ما تقتضيه هذه الوقعة، وكان تفسيرًا للحكمة الخفية التي كانت في نصرة الله للمشركين ضد أهل الإيمان بطريق يفوق عالم الأسباب.
وكان لعبد المطلب عشرة بنين، وهم: الحارث، والزبير، وأبو طالب، وعبد الله، وحمزة، وأبو لهب، والغَيْدَاق، والمُقَوِّم، وضِرَار، والعباس. وقيل: كانوا أحد عشر، فزادوا ولدًا اسمه: قُثَم، وقيل : كانوا ثلاثة عشر، فزادوا: عبد الكعبة وحَجْلًا، وقيل: إن عبد الكعبة هو المقوم، وحجلا هو الغيداق، ولم يكن من أولاده رجل اسمه قثم، وأما البنات فست وهن : أم الحكيم ـ وهي البيضاء ـ وبَرَّة، وعاتكة، وصفية، وأرْوَى، وأميمة.
3ـ عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أمـه فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم بن يَقَظَة بـن مـرة، وكـان عبد الله أحسن أولاد عبد المطلب وأعفهم وأحبهم إليه، وهو الذبيح؛ وذلك أن عبد المطلب لمـا تم أبناؤه عشرة، وعرف أنهم يمنعونه أخبرهم بنذره فأطاعوه، فقيل : إنه أقـرع بينهم أيهم ينـحـر ؟ فطـارت القرعــة على عـبد الله، وكــان أحـب النـاس إليه.فقال:اللهم هو أو مائة من الإبل.ثم أقرع بينه وبين الإبل فطارت القرعة على المائة من الإبل، وقيل:إنه كتب أسماءهم في القداح،وأعطاها قيم هبل، فضرب القداح فخرج القدح على عبد الله، فأخذه عبد المطلب، وأخذ الشفرة،ثم أقبل به إلى الكعبة ليذبحه،فمنعته قريش،ولاسيما أخواله من بني مخزوم وأخوه أبو طالب. فقال عبد المطلب : فكيف أصنع بنذري؟ فأشاروا عليه أن يأتى عرافة فيستأمرها، فأتاها، فأمرت أن يضرب القداح على عبد الله وعلى عشر من الإبل، فإن خرجت على عبد الله يزيد عشرًا من الإبل حتى يرضى ربه، فإن خرجت على الإبل نحرها، فرجع وأقرع بين عبد الله وبين عشر من الإبل، فوقعت القرعة على عبد الله، فلم يزل يزيد من الإبل عشرًا عشرًا ولا تقع القرعة إلا عليه إلى أن بلغت الإبل مائة فوقعت القرعة عليها، فنحرت ثم تركت، لا يرد عنها إنسان ولا سبع، وكانت الدية في قريش وفي العرب عشرًا من الإبل، فجرت بعد هذه الوقعة مائة من الإبل، وأقرها الإسلام، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [أنا ابن الذبيحين] يعنى إسماعيل، وأباه عبد الله.
واختار عبد المطلب لولده عبد الله آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، وهي يومئذ تعد أفضل امرأة في قريش نسبًا وموضعًا، وأبوها سيد بني زهرة نسبًا وشرفًا، فزوجه بها، فبني بها عبد الله في مكة، وبعد قليل أرسله عبد المطلب إلى المدينة يمتار لهم تمرًا، فمات بها، وقيل : بل خرج تاجرًا إلى الشام، فأقبل في عير قريش، فنزل بالمدينة وهو مريض فتوفي بها، ودفن في دار النابغة الجعدى، وله إذ ذاك خمس وعشرون سنة، وكانت وفاته قبل أن يولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبه يقول أكثر المؤرخين، وقيل : بل توفي بعد مولده بشهرين أو أكثر. ولما بلغ نعيه إلى مكة رثته آمنة بأروع المراثى، قالت :
عَفَا جانبُ البطحاءِ من ابن هاشم ** وجاور لَحْدًا خارجـًا في الغَـمَاغِـــم
دَعَتْـه المنــايا دعــوة فأجـابـــهـا ** وما تركتْ في الناس مثل ابن هاشـم
عشيـة راحـوا يحملــون سريـره ** تَعَاوَرَهُ أصـحـابــه في التزاحــــم
وجميع ما خلفه عبد الله خمسة أجمال، وقطعة غنم، وجارية حبشية اسمها بركة وكنيتها أم أيمن، وهي حاضنـة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
المولد وأربعون عامًا قبل النبوة
*المولـــد:
ولـد سيـد المرسلـين صلى الله عليه وسلم بشـعب بني هاشـم بمكـة في صبيحـة يــوم الاثنين التاسع مـن شـهر ربيـع الأول، لأول عـام مـن حادثـة الفيـل، ولأربعـين سنة خلت من ملك كسرى أنوشروان، ويوافق ذلك عشرين أو اثنين وعشرين من شهر أبريل سنة 571 م حسبما حققه العالم الكبير محمد سليمان ـ المنصورفورى ـ رحمه اللـه.
وروى ابــن سعــد أن أم رســول الله صلى الله عليه وسلم قالــت : لمــا ولـدتــه خــرج مــن فرجـى نــور أضــاءت لـه قصـور الشام. وروى أحمد والدارمى وغيرهمـا قريبـًا مـن ذلك.
وقد روى أن إرهاصات بالبعثة وقعت عند الميلاد، فسقطت أربع عشرة شرفة من إيوان كسرى، وخمدت النار التي يعبدها المجوس، وانهدمت الكنائس حول بحيرة ساوة بعد أن غاضت، روى ذلك الطبرى والبيهقى وغيرهما. وليس له إسناد ثابت، ولم يشهد له تاريخ تلك الأمم مع قوة دواعى التسجيل.
ولما ولدته أمه أرسلت إلى جده عبد المطلب تبشره بحفيده،فجاء مستبشرًا ودخل به الكعبة، ودعا الله وشكر له. واختار له اسم محمد ـ وهذا الاسم لم يكن معروفًا في العرب ـ وخَتَنَه يوم سابعه كما كان العرب يفعلون.
وأول من أرضعته من المراضع ـ وذلك بعد أمه صلى الله عليه وسلم بأسبوع ـ ثُوَيْبَة مولاة أبي لهب بلبن ابن لها يقال له: مَسْرُوح، وكانت قد أرضعت قبله حمزة بن عبد المطلب، وأرضعت بعده أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي.
*في بني سعد :
وكانت العادة عند الحاضرين من العرب أن يلتمسوا المراضع لأولادهم ابتعادًا لهم عن أمراض الحواضر؛ ولتقوى أجسامهم، وتشتد أعصابهم، ويتقنوا اللسان العربى في مهدهم، فالتمس عبد المطلب لرسول الله صلى الله عليه وسلم المراضع، واسترضع له امرأة من بني سعد بن بكر، وهي حليمة بنت أبي ذؤيب عبد الله بن الحارث، وزوجها الحارث ابن عبد العزى المكنى بأبي كبشة من نفس القبيلة.
وإخوته صلى الله عليه وسلم هناك من الرضاعة : عبد الله بن الحارث، وأنيسة بنت الحارث، وحذافة أو جذامة بنت الحارث [وهي الشيماء؛ لقب غلب على اسمها] وكانت تحضن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عمه حمزة بن عبد المطلب مسترضعًا في بني سعد بن بكر، فأرضعت أمه رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا وهو عند أمه حليمة،فكان حمزة رضيع رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهتين، من جهة ثويبة ومن جهة السعدية.
ورأت حليمة من بركته صلى الله عليه وسلم ما قضت منه العجب، ولنتركها تروى ذلك مفصلًا :
قال ابن إسحاق : كانت حليمة تحدث : أنها خرجت من بلدها مع زوجها وابن لها صغير ترضعه في نسوة من بني سعد بن بكر، تلتمس الرضعاء. قالت : وذلك في سنة شهباء لم تبق لنا شيئًا، قالت : فخرجت على أتان لى قمراء، ومعنا شارف لنا، والله ما تَبِضّ ُبقطرة، وما ننام ليلنا أجمع من صبينا الذي معنا، من بكائه من الجوع، ما في ثديى ما يغنيه، وما في شارفنا ما يغذيه، ولكن كنا نرجو الغيث والفرج، فخرجت على أتانى تلك، فلقد أذَمَّتْ بالركب حتى شق ذلك عليهم، ضعفًا وعجفًا، حتى قدمنا مكة نلتمس الرضعاء، فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه، إذا قيل لها: إنه يتيم، وذلك أنا كنا نرجو المعروف من أبي الصبي، فكنا نقول: يتيم! وما عسى أن تصنع أمه وجده، فكنا نكرهه لذلك، فما بقيت امرأة قدمت معي إلا أخذت رضيعًا غيرى، فلما أجمعنا الانطلاق قلت لصاحبى: والله، إنى لأكره أن أرجع من بين صواحبى ولم آخذ رضيعًا، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه. قال : لا عليك أن تفعلى، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة. قالت: فذهبت إليه وأخذته،وما حملنى على أخذه إلا أنى لم أجد غيره، قالت: فلما أخذته رجعت به إلى رحلى، فلما وضعته في حجرى أقبل عليه ثديأي بما شاء من لبن، فشرب حتى روى، وشرب معه أخوه حتى روى، ثم ناما، وما كنا ننام معه قبل ذلك، وقام زوجي إلى شارفنا تلك، فإذا هي حافل، فحلب منها ما شرب وشربت معه حتى انتهينا ريا وشبعا، فبتنا بخير ليلة، قالت: يقول صاحبى حين أصبحنا: تعلمي والله يا حليمة، لقد أخذت نسمة مباركة، قالت: فقلت: والله إنى لأرجو ذلك. قالت: ثم خرجنا وركبت أنا أتانى، وحملته عليها معى، فوالله لقطعت بالركب ما لا يقدر عليه شىء من حمرهم، حتى إن صواحبى ليقلن لى: يا ابنة أبي ذؤيب، ويحك! أرْبِعى علينا، أليست هذه أتانك التي كنت خرجت عليها؟ فأقول لهن: بلى والله، إنها لهي هي، فيقلن: والله إن لها شأنًا، قالت: ثم قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد، وما أعلم أرضًا من أرض الله أجدب منها، فكانت غنمى تروح علىَّ حين قدمنا به معنا شباعًا لُبَّنـًا، فنحلب ونشرب، وما يحلب إنسان قطرة لبن، ولا يجدها في ضرع، حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم: ويلكم، اسرحوا حيث يسرح راعى بنت أبي ذؤيب، فتروح أغنامهم جياعًا ما تبض بقطرة لبن، وتروح غنمى شباعًا لبنًا. فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته، وكان يشب شبابًا لا يشبه الغلمان، فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلامًا جفرًا. قالت: فقدمنا به على أمه ونحن أحرص على مكثه فينا، لما كنا نرى من بركته، فكلمنا أمه، وقلت لها: لو تركت ابني عندي حتى يغلظ، فإني أخشى عليه وباء مكة، قالت: فلم نزل بها حتى ردته معنا.
موضوع: رد: }}{{ السيرة النبوية }}{{ كاملة ــ بدءًا من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسلم 16/5/2012, 3:33 pm
وهكذا رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني سعد، حتى إذا كان بعده بأشهر على قول ابن إسحاق، وفي السنة الرابعة من مولده على قول المحققين وقع حادث شق صدره، روى مسلم عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل، وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طَسْت من ذهب بماء زمزم، ثم لأَمَه ـ أي جمعه وضم بعضه إلى بعض ـ ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه ـ يعنى ظئره ـ فقالوا: إن محمدًا قد قتل، فاستقبلوه وهو مُنْتَقِعُ اللون ـ أي متغير اللون ـ قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره.
*إلى أمه الحنون :
وخشيت عليه حليمة بعد هذه الوقعة حتى ردته إلى أمه، فكان عند أمه إلى أن بلغ ست سنين.
ورأت آمنة ـ وفاء لذكرى زوجها الراحل ـ أن تزور قبره بيثرب، فخرجت من مكة قاطعة رحلة تبلغ نحو خمسمائة كيلو متر ومعها ولدها اليتيم ـ محمد صلى الله عليه وسلم ـ وخادمتها أم أيمن، وقيمها عبد المطلب، فمكثت شهرًا ثم قفلت، وبينما هي راجعة إذ لحقها المرض في أوائل الطريق، ثم اشتد حتى ماتت بالأبْوَاء بين مكة والمدينة.
*إلى جده العطوف :
وعاد به عبد المطلب إلى مكة، وكانت مشاعر الحنو في فؤاده تربو نحو حفيده اليتيم الذي أصيب بمصاب جديد نَكَأ الجروح القديمة، فَرَقَّ عليه رقة لم يرقها على أحد من أولاده، فكان لا يدعه لوحدته المفروضة، بل يؤثره على أولاده، قال ابن هشام: كان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة، فكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه، لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالًا له، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتى وهو غلام جفر حتى يجلس عليه، فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه، فيقول عبد المطلب إذا رأي ذلك منهم: دعوا ابني هذا، فوالله إن له لشأنًا، ثم يجلس معه على فراشه، ويمسح ظهره بيده، ويسره ما يراه يصنع.
ولثمانى سنوات وشهرين وعشرة أيام من عمره صلى الله عليه وسلم توفي جده عبد المطلب بمكة، ورأي قبل وفاته أن يعهد بكفالة حفيده إلى عمه أبي طالب شقيق أبيه.
*إلى عمه الشفيق :
ونهض أبو طالب بحق ابن أخيه على أكمل وجه، وضمه إلى ولده وقدمه عليهم واختصه بفضل احترام وتقدير، وظل فوق أربعين سنة يعز جانبه، ويبسط عليه حمايته، ويصادق ويخاصم من أجله، وستأتي نبذ من ذلك في مواضعها.
* يستسقى الغمام بوجهه :
أخرج ابن عساكر عن جَلْهُمَة بن عُرْفُطَة قال: قدمت مكة وهم في قحط، فقالت قريش: يا أبا طالب، أقحط الوادي، وأجدب العيال، فهَلُمَّ فاستسق، فخرج أبو طالب ومعه غلام، كأنه شمس دُجُنَّة، تجلت عنه سحابة قَتْمَاء، حوله أُغَيْلمة، فأخذه أبو طالب، فألصق ظهره بالكعبة،ولاذ بأضبعه الغلام، وما في السماء قَزَعَة، فأقبل السحاب من هاهنا وهاهنا وأغدق واغْدَوْدَق، وانفجر الوادي، وأخصب النادي والبادي، وإلى هذا أشار أبو طالب حين قال:
ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتى عشرة سنة ـ قيل: وشهرين وعشرة أيام ـ ارتحل به أبو طالب تاجرًا إلى الشام، حتى وصل إلى بُصْرَى ـ وهي معدودة من الشام، وقَصَبَة لحُورَان، وكانت في ذلك الوقت قصبة للبلاد العربية التي كانت تحت حكم الرومان. وكان في هذا البلد راهب عرف بَبحِيرَى، واسمه ـ فيما يقال: جرجيس، فلما نزل الركب خرج إليهم، وكان لا يخرج إليهم قبل ذلك، فجعل يتخلّلهم حتى جاء فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين. فقال له [أبو طالب و] أشياخ قريش: [و] ما علمك [بذلك]؟ فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق حجر ولا شجر إلا خر ساجدًا، ولا يسجدان إلا لنبى، وإنى أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل ال، [وإنا نجده في كتبنا]، ثم أكرمهم بالضيافة، وسأل أبا طالب أن يرده، ولا يقدم به إلى الشام؛ خوفًا عليه من الروم واليهود، فبعثه عمه مع بعض غلمانه إلى مكة.
*حرب الفِجَار :
وفي السنة العشرين من عمره صلى الله عليه وسلم وقعت في سوق عُكاظ حرب بين قريش ـ ومعهم كنانة ـ وبين قَيْس عَيْلان، تعرف بحرب الفِجَار وسببها: أن أحد بني كنانة، واسمه البَرَّاض، اغتال ثلاثة رجال من قيس عيلان، ووصل الخبر إلى عكاظ فثار الطرفان، وكان قائد قريش وكنانة كلها حرب بن أمية؛ لمكانته فيهم سنا وشرفًا، وكان الظفر في أول النهار لقيس على كنانة، حتى إذا كان في وسط النهار كادت الدائرة تدور على قيس. ثم تداعى بعض قريش إلى الصلح على أن يحصوا قتلى الفريقين، فمن وجد قتلاه أكثر أخذ دية الزائد. فاصطلحوا على ذلك، ووضعوا الحرب، وهدموا ما كان بينهم من العداوة والشر. وسميت بحرب الفجار؛ لانتهاك حرمة الشهر الحرام فيها، وقد حضر هذه الحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ينبل على عمومته؛ أي يجهز لهم النبل للرمي.
*حلف الفضول :
وعلى أثر هذه الحرب وقع حلف الفضول في ذى القعدة في شهر حرام تداعت إليه قبائل من قريش: بنو هاشم، وبنو المطلب،وأسد بن عبد العزى، وزهرة بن كلاب، وتيم بن مرة، فاجتمعوا في دار عبد الله بن جُدْعان التيمى؛ لسنِّه وشرفه، فتعاقدوا وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلومًا من أهلها وغيرهم من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته، وشهد هذا الحلف رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال بعد أن أكرمه الله بالرسالة: (لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفًا ما أحب أن لى به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت).
وهذا الحلف روحه تنافي الحمية الجاهلية التي كانت العصبية تثيرها، ويقال في سبب هذا الحلف: إن رجلًا من زُبَيْد قدم مكة ببضاعة، واشتراها منه العاص بن وائل السهمى، وحبس عنه حقه، فاستعدى عليه الأحلاف عبد الدار ومخزومًا، وجُمَحًا وسَهْمًا وعَدِيّا فلم يكترثوا له، فعلا جبل أبي قُبَيْس، ونادى بأشعار يصف فيها ظلامته رافعًا صوته، فمشى في ذلك الزبير بن عبد المطلب، وقال: ما لهذا مترك؟ حتى اجتمع الذين مضى ذكرهم في حلف الفضول، فعقدوا الحلف ثم قاموا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه حق الزبيدي.
*حياة الكدح :
ولم يكن له صلى الله عليه وسلم عمل معين في أول شبابه، إلا أن الروايات توالت أنه كان يرعى غنمًا، رعاها في بني سعد، وفي مكة لأهلها على قراريط، ويبدو أنه انتقل إلى عمل التجارة حين شب،فقد ورد أنه كان يتجر مع السائب بن أبي السائب المخزومي فكان خير شريك له، لا يدارى ولا يمارى، وجاءه يوم الفتح فرحب به، وقال: مرحبًا بأخي وشريكي.
وفي الخامسة والعشرين من سنه خرج تاجرًا إلى الشام في مال خديجة رضي الله عنها قال ابن إسحاق: كانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها، وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم، وكانت قريش قومًا تجارًا، فلما بلغها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بلغها من صدق حديثه، وعظم أمانته وكرم أخلاقه بعثت إليه، فعرضت عليه أن يخرج في مال لها إلى الشام تاجرًا، وتعطيه أفضل ما كانت تعطى غيره من التجار، مع غلام لها يقال له: ميسرة، فقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، وخرج في مالها ذلك، وخرج معه غلامها ميسرة حتى قدم الشام.
*زواجه بخديجة :
ولما رجع إلى مكة، ورأت خديجة في مالها من الأمانة والبركة ما لم تر قبل هذا، وأخبرها غلامها ميسرة بما رأي فيه صلى الله عليه وسلم من خلال عذبة، وشمائل كريمة، وفكر راجح، ومنطق صادق، ونهج أمين، وجدت ضالتها المنشودة ـ وكان السادات والرؤساء يحرصون على زواجها فتأبي عليهم ذلك ـ فتحدثت بما في نفسها إلى صديقتها نفيسة بنت منبه، وهذه ذهبت إليه صلى الله عليه وسلم تفاتحه أن يتزوج خديجة، فرضى بذلك، وكلم أعمامه، فذهبوا إلى عم خديجة وخطبوها إليه، وعلى إثر ذلك تم الزواج، وحضر العقد بنو هاشم ورؤساء مضر، وذلك بعد رجوعه من الشام بشهرين، وأصدقها عشرين بَكْرة. وكانت سنها إذ ذاك أربعين سنة، وكانت يومئذ أفضل نساء قومها نسبًا وثروة وعقلًا، وهي أول امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتزوج عليها غيرها حتى ماتت.
وكل أولاده صلى الله عليه وسلم منها سوى إبراهيم،ولدت له: أولًا القاسم ـ وبه كان يكنى ـ ثم زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة، وعبد الله. وكان عبد الله يلقب بالطيب والطاهر، ومات بنوه كلهم في صغرهم، أما البنات فكلهن أدركن الإسلام فأسلمن وهاجرن،إلا أنهن أدركتهن الوفاة في حياته صلى الله عليه وسلم سوى فاطمة رضي الله عنها، فقد تأخرت بعده ستة أشهر ثم لحقت به.
*بناء الكعبة وقضية التحكيم :
ولخمس وثلاثين سنة من مولده صلى الله عليه وسلم قامت قريش ببناء الكعبة؛ وذلك لأن الكعبة كانت رَضْمًا فوق القامة، ارتفاعها تسعة أذرع من عهد إسماعيل عليه السلام، ولم يكن لها سقف، فسرق نفر من اللصوص كنزها الذي كان في جوفها، وكانت مع ذلك قد تعرضت ـ باعتبارها أثرًا قديما ـ للعوادى التي أدهت بنيانها، وصدعت جدرانها، وقبل بعثته صلى الله عليه وسلم بخمس سنين جرف مكة سيل عرم انحدر إلى البيت الحرام، فأوشكت الكعبة منه على الانهيار، فاضطرت قريش إلى تجديد بنائها حرصًا على مكانتها، واتفقوا على ألا يدخلوا في بنائها إلا طيبًا، فلا يدخلون فيها مهر بغى ولا بيع ربًا ولا مظلمة أحد من الناس، وكانوا يهابون هدمها، فابتدأ بها الوليد بن المغيرة المخزومى، فأخذ المعول وقال: اللّهم لا نريد إلا الخير، ثم هدم ناحية الركنين، ولما لم يصبه شيء تبعه الناس في الهدم في اليوم الثاني، ولم يزالوا في الهدم حتى وصلوا إلى قواعد إبراهيم، ثم أرادوا الأخذ في البناء فجزأوا الكعبة، وخصصوا لكل قبيلة جزءًا منها. فجمعت كل قبيلة حجارة على حدة، وأخذوا يبنونها، وتولى البناء بناء رومي اسمه: باقوم. ولما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود اختلفوا فيمن يمتاز بشرف وضعه في مكانه، واستمر النزاع أربع ليال أو خمسًا، واشتد حتى كاد يتحول إلى حرب ضروس في أرض الحرم، إلا أن أبا أمية بن المغيرة المخزومى عرض عليهم أن يحكموا فيما شجر بينهم أول داخل عليهم من باب المسجد فارتضوه، وشاء الله أن يكون ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه هتفوا: هذا الأمين، رضيناه، هذا محمد، فلما انتهى إليهم، وأخبروه الخبر طلب رداء فوضع الحجر وسطه وطلب من رؤساء القبائل المتنازعين أن يمسكوا جميعًا بأطراف الرداء، وأمرهم أن يرفعوه، حتى إذا أوصلوه إلى موضعه أخذه بيده فوضعه في مكانه، وهذا حل حصيف رضى به القوم.
وقصرت بقريش النفقة الطيبة فأخرجوا من الجهة الشمالية نحوا من ستة أذرع، وهي التي تسمى بالحجر والحطيم، ورفعوا بابها من الأرض؛ لئلا يدخلها إلا من أرادوا، ولما بلغ البناء خمسة عشر ذراعًا سقفوه على ستة أعمدة.
وصارت الكعبة بعد انتهائها ذات شكل مربع تقريبًا، يبلغ ارتفاعه 15 مترًا، وطول ضلعه الذي فيه الحجر الأسود والمقابل له 10 أمتار، والحجر موضوع على ارتفاع 1.50متر من أرضية المطاف. والضلع الذي فيه الباب والمقابل له 12مترًا، وبابها على ارتفاع مترين من الأرض، ويحيط بها من الخارج قصبة من البناء أسفلها، متوسط ارتفاعها 0.25مترًا ومتوسط عرضها 0.30 مترًا وتسمى بالشاذروان، وهي من أصل البيت لكن قريشًا تركتها.
*السيرة الإجمالية قبل النبوة :
كان النبي صلى الله عليه وسلم قد جمع في نشأته خير ما في طبقات الناس من ميزات، وكان طرازًا رفيعًا من الفكر الصائب، والنظر السديد، ونال حظًا وافرًا من حسن الفطنة وأصالة الفكرة وسداد الوسيلة والهدف، وكان يستعين بصمته الطويل على طول التأمل وإدمان الفكرة واستكناه الحق، وطالع بعقله الخصب وفطرته الصافية صحائف الحياة وشئون الناس وأحوال الجماعات، فعاف ما سواها من خرافة، ونأي عنها، ثم عاشر الناس على بصيرة من أمره وأمرهم، فما وجد حسنًا شارك فيه وإلا عاد إلى عزلته العتيدة، فكان لا يشرب الخمر، ولا يأكل مما ذبح على النصب، ولا يحضر للأوثان عيدًا ولا احتفالًا، بل كان من أول نشأته نافرا من هذه المعبودات الباطلة، حتى لم يكن شيء أبغض إليه منها، وحتى كان لا يصبر على سماع الحلف باللات والعزى.
ولا شك أن القدر حاطه بالحفظ، فعندما تتحرك نوازع النفس لاستطلاع بعض متع الدنيا، وعندما يرضى باتباع بعض التقاليد غير المحمودة ـ تتدخل العناية الربانية للحيلولة بينه وبينها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون غير مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبينه، ثم ما هممت به حتى أكرمنى برسالته، قلت ليلة للغلام الذي يرعى معي الغنم بأعلى مكة: لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة وأسمر بها كما يسمر الشباب، فقال: أفعل، فخرجت حتى إذا كنت عند أول دار بمكة سمعت عزفًا، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: عرس فلان بفلانة، فجلست أسمع، فضرب الله على أذنـى فنمت، فما أيقظني إلا حر الشمس. فعدت إلى صاحبي فسألني، فأخبرته، ثم قلت ليلة أخرى مثل ذلك، ودخلت بمكة فأصابني مثل أول ليلة... ثم ما هممت بسوء).
وروى البخاري عن جابر بن عبد الله قال: لما بنيت الكعبة ذهب النبي صلى الله عليه وسلم وعباس ينقلان الحجارة، فقال عباس للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل إزارك على رقبتك يقيقك من الحجارة، فخر إلى الأرض وطمحت عيناه إلى السماء ثم أفاق، فقال: (إزاري، إزاري) فشد عليه إزاره. وفي رواية: فما رؤيت له عورة بعد ذلك.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمتاز في قومه بخلال عذبة وأخلاق فاضلة، وشمائل كريمة، فكان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقًا، وأعزهم جوارًا، وأعظمهم حلمًا، وأصدقهم حديثًا، وألينهم عَرِيكة، وأعفهم نفسًا وأكرمهم خيرًا، وأبرهم عملًا، وأوفاهم عهدًا، وآمنهم أمانة حتى سماه قومه: [الأمين] لما جمع فيه من الأحوال الصالحة والخصال المرضية، وكان كما قالت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها يحمل الكل، ويكسب المعدوم، ويقرى الضيف، ويعين على نوائب الحق.
حياة النبـوة و الرسـالة والدعـوة
*النبــوة والدعــوة - العهـد المكـي :
تنقسم حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن شرفه الله بالنبوة والرسالة إلى عهدين يمتاز أحدهما عن الآخـر تمـام الامتياز، وهما:
1 ـ العهد المكي، ثلاث عشرة سنة تقريبًا.
2 ـ العهد المدني، عشر سنوات كاملة.
ثم يشتمل كل من العهدين على عدة مراحل، لكل مرحلة منها خصائص تمتاز بها عن غيرها، يظهر ذلك جليًا بعد النظر الدقيق في الظروف التي مرت بها الدعوة خلال العهدين.
ويمكن تقسيم العهد المكي إلى ثلاث مراحل:
1 ـ مرحلة الدعوة السرية، ثلاث سنوات.
2 ـ مرحلة إعلان الدعوة في أهل مكة، من بداية السنة الرابعة من النبوة إلى هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
3 ـ مرحلة الدعوة خارج مكة وفشوها فيهم، من أواخر السنة العاشرة من النبوة. وقد شملت العهد المدني وامتدت إلى آخر حياته صلى الله عليه وسلم.
أما مراحل العهد المدني فسيجيء تفصيلها في موضعه.
* في ظلال النبوة والرسالة :
*في غار حراء :
لما تقاربت سنه صلى الله عليه وسلم الأربعين، وكانت تأملاته الماضية قد وسعت الشقة العقلية بينه وبين قومه، حبب إليه الخلاء، فكان يأخذ السَّوِيق والماء، ويذهب إلى غار حراء في جبل النور على مبعدة نحو ميلين من مكة ـ وهو غار لطيف طوله أربعة أذرع، وعرضه ذراع وثلاثة أرباع ذراع من ذراع الحديد ـ فيقيم فيه شهر رمضان، ويقضي وقته في العبادة والتفكير فيما حوله من مشاهد الكون وفيما وراءها من قدرة مبدعة، وهو غير مطمئن لما عليه قومه من عقائد الشرك المهلهلة وتصوراتها الواهية، ولكن ليس بين يديه طريق واضح، ولا منهج محدد، ولا طريق قاصد يطمئن إليه ويرضاه.
وكان اختياره صلى الله عليه وسلم لهذه العزلة طرفًا من تدبير الله له، وليكون انقطاعه عن شواغل الأرض وضَجَّة الحياة وهموم الناس الصغيرة التي تشغل الحياة نقطة تحول لاستعداده لما ينتظره من الأمر العظيم، فيستعد لحمل الأمانة الكبرى وتغيير وجه الأرض، وتعديل خط التاريخ... دبر الله له هذه العزلة قبل تكليفه بالرسالة بثلاث سنوات، ينطلق في هذه العزلة شهرًا من الزمان، مع روح الوجود الطليقة، ويتدبر ما وراء الوجود من غيب مكنون، حتى يحين موعد التعامل مع هذا الغيب عندما يأذن الله.
*جبريل ينزل بالوحي :
ولما تكامل له أربعون سنة ـ وهي رأس الكمال، وقيل: ولها تبعث الرسل ـ بدأت طلائع النبوة تلوح وتلمع، فمن ذلك أن حجرًا بمكة كان يسلم عليه، ومنها أنه كان يرى الرؤيا الصادقة؛ فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، حتى مضت على ذلك ستة أشهر ـ ومدة النبوة ثلاث وعشرون سنة، فهذه الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة ـ فلما كان رمضان من السنة الثالثة من عزلته صلى الله عليه وسلم بحراء شاء الله أن يفيض من رحمته على أهل الأرض، فأكرمه بالنبوة، وأنزل إليه جبريل بآيات من القرآن.
وبعد النظر والتأمل في القرائن والدلائل يمكن لنا أن نحدد ذلك اليوم بأنه كان يوم الاثنين لإحدى وعشرين مضت من شهر رمضان ليلًا، وقد وافق 10 أغسطس سنة 610 م، وكان عمره صلى الله عليه وسلم إذ ذاك بالضبط أربعين سنة قمرية، وستة أشهر، و12 يومًا، وذلك نحو 39 سنة شمسية وثلاثة أشهر وعشرين يومًا.
ولنستمع إلى عائشة الصديقة رضي الله عنها تروى لنا قصة هذه الوقعة التي كانت نقطة بداية النبوة، وأخذت تفتح دياجير ظلمات الكفر والضلال حتى غيرت مجرى الحياة، وعدلت خط التاريخ، قالت عائشة رضي الله عنها.
أول ما بديء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَق الصبح، ثم حُبِّبَ إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيَتَحَنَّث فيه ـ وهو التعبد ـ الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ: قال: (ما أنا بقارئ)، قال: (فأخذنى فغطنى حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلنى، فقال: اقرأ، قلت: مـا أنـا بقـارئ، قـال: فأخذنى فغطنى الثانية حتى بلـغ منـى الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة، ثـم أرسلـني فـقـال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ}[العلق:1: 3])، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: (زَمِّلُونى زملونى)، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة: (ما لي؟) فأخبرها الخبر، (لقد خشيت على نفسي)، فقالت خديجة: كلا، والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل ابن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة ـ وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبرانى، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي ـ فقالت له خديجة: يابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يابن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأي، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزله الله على موسى، يا ليتني فيها جَذَعا، ليتنى أكون حيًا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أو مخرجيّ هم؟) قال:نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عُودِىَ، وإن يدركنى يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا، ثم لم يَنْشَبْ ورقة أن توفي، وفَتَر الوحى.
*فَتْرَة الوحى :
أما مدة فترة الوحى فاختلفوا فيها على عدة أقوال. والصحيح أنها كانت أيامًا، وقد روى ابن سعد عن ابن عباس ما يفيد ذلك. وأما ما اشتهر من أنها دامت ثلاث سنوات أو سنتين ونصفًا فليس بصحيح.
وقد ظهر لى شىء غريب بعد إدارة النظر في الروايات وفي أقوال أهل العلم. ولم أر من تعرض له منهم، وهو أن هذه الأقوال والروايات تفيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجاور بحراء شهرًا واحدًا، وهو شهر رمضان من كل سنة، وذلك من ثلاث سنوات قبل النبوة،وأن سنة النبوة كانت هي آخر تلك السنوات الثلاث، وأنه كان يتم جواره بتمام شهر رمضان، فكان ينزل بعده من حراء صباحًا ـ أي لأول يوم من شهر شوال ـ ويعود إلى البيت.
وقد ورد التنصيص في رواية الصحيحين على أن الوحى الذي نزل عليه صلى الله عليه وسلم بعد الفترة إنما نزل وهو صلى الله عليه وسلم راجع إلى بيته بعد إتمام جواره بتمام الشهر.
أقول: فهذا يفيد أن الوحى الذي نزل عليه صلى الله عليه وسلم بعد الفترة إنما نزل في أول يوم من شهر شوال بعد نهاية شهر رمضان الذي تشرف فيه بالنبوة والوحى؛ لأنه كان آخر مجاورة له بحراء، وإذا ثبت أن أول نزول الوحى كان في ليلة الاثنين الحادية عشرة من شهر رمضان فإن هذا يعنى أن فترة الوحى كانت لعشرة أيام فقط. وأن الوحى نزل بعدها صبيحة يوم الخميس لأول شوال من السنة الأولى من النبوة. ولعل هذا هو السر في تخصيص العشر الأواخر من رمضان بالمجاورة والاعتكاف، وفي تخصيص أول شهر شوال بالعيد السعيد، والله أعلم.
وقد بقى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أيام الفترة كئيبًا محزونًا تعتريه الحيرة والدهشة، فقد روى البخاري في كتاب التعبير ما نصه:
وفتر الوحي فترة حزن النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا حزنًا عدا منه مرارًا كى يتردى من رءوس شواهق الجبال، فكلما أوْفي بذِرْوَة جبل لكى يلقى نفسه منه تَبدَّى له جبريل فقال: يا محمد، إنك رسول الله حقًا، فيسكن لذلك جأشه، وتَقَرّ نفسه، فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحى غدا لمثل ذلك، فإذا أوفي بذروة الجبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك.
موضوع: رد: }}{{ السيرة النبوية }}{{ كاملة ــ بدءًا من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسلم 16/5/2012, 3:34 pm
*جبريل ينزل بالوحي مرة ثانية :
قال ابن حجر: وكان ذلك [أي انقطاع الوحي أيامًا]؛ ليذهب ما كان صلى الله عليه وسلم وجده من الروع، وليحصل له التشوف إلى العود، فلما حصل له ذلك وأخذ يرتقب مجىء الوحى أكرمه الله بالوحي مرة ثانية. قال: صلى الله عليه وسلم:
(جاورت بحراء شهرًا فلما قضيت جوارى هبطت [فلما استبطنت الوادي] فنوديت، فنظرت عن يميني فلم أر شيئًا، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئًا، ونظرت أمامي فلم أر شيئا، ونظرت خلفي فلم أرشيئًا، فرفعت رأسى فرأيت شيئًا، [فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فَجُئِثْتُ منه رعبًا حتى هويت إلى الأرض] فأتيت خديجة فقلت: [زملوني، زملوني]، دثرونى، وصبوا على ماء باردًا)، قال: (فدثرونى وصبوا على ماء باردًا، فنزلت: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 1: 5]) وذلك قبل أن تفرض الصلاة، ثم حمى الوحى بعد وتتابع.
وهذه الآيات هي مبدأ رسالته صلى الله عليه وسلم وهي متأخرة عن النبوة بمقدار فترة الوحى. وتشتمل على نوعين من التكليف مع بيان ما يترتب عليه:
النوع الأول: تكليفه صلى الله عليه وسلم بالبلاغ والتحذير، وذلك في قوله تعالى: {قُمْ فَأَنذِرْ} فإن معناه: حذر الناس من عذاب الله إن لم يرجعوا عما هم فيه من الغى والضلال وعبادة غير الله المتعال، والإشراك به في الذات والصفات والحقوق و الأفعال.
النوع الثاني: تكليفه صلى الله عليه وسلم بتطبيق أوامر الله سبحانه وتعالى على ذاته، والالتزام بها في نفسه؛ ليحرز بذلك مرضاة الله، ويصير أسوة حسنة لمن آمن بالله وذلك في بقية الآيات. فقوله: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} معناه: خصه بالتعظيم، ولا تشرك به في ذلك أحدًا. وقوله: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} المقصود الظاهر منه: تطهير الثياب والجسد، إذ ليس لمن يكبر الله ويقف بين يديه أن يكون نجسًا مستقذرًا. وإذا كان هذا التطهر مطلوبًا فإن التطهر من أدران الشرك وأرجاس الأعمال والأخـلاق أولـى بالطـلب، وقولــه: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} معناه: ابتعد عن أسباب سخط الله وعذابه، وذلك بالتزام طاعته وترك معصيته. وقوله: {وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} أي: لا تحسن إحسانًا تريد أجره من الناس أو تريد له جزاء أفضل في هذه الدنيا.
أما الآية الأخيرة ففيها تنبيه على ما يلحقه من أذى قومه حين يفارقهم في الدين ويقوم بدعوتهم إلى الله وحده وبتحذيرهم من عذابه وبطشه، فقال: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}، ثم إن مطلع الآيات تضمنت النداء العلوى ـ في صوت الكبير المتعال ـ بانتداب النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الأمر الجلل، وانتزاعه من النوم والتدثر والدفء إلى الجهاد والكفاح والمشقة: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ}، كأنه قيل: إن الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحًا، أما أنت الذي تحمل هذا العبء الكبير فما لك والنوم؟ وما لك والراحة؟ وما لك والفراش الدافئ؟ والعيش الهادئ؟ والمتاع المريح! قم للأمر العظيم الذي ينتظرك، والعبء الثقيل المهيأ لك، قم للجهد والنصب، والكد والتعب، قم فقد مضى وقت النوم والراحة، وما عاد منذ اليوم إلا السهر المتواصل، والجهاد الطويل الشاق، قم فتهيأ لهذا الأمر واستعد.
إنها كلمة عظيمة رهيبة تنزعه صلى الله عليه وسلم من دفء الفراش في البيت الهادئ والحضن الدافئ، لتدفع به في الخضم، بين الزعازع والأنواء، وبين الشد والجذب في ضمائر الناس وفي واقع الحياة سواء.
وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فظل قائمًا بعدها أكثر من عشرين عامًا؛ لم يسترح ولم يسكن، ولم يعـش لنفسه ولا لأهله. قام وظل قائمًا على دعوة الله، يحمل على عاتقه العبء الثقيل الباهظ ولا ينوء به، عبء الأمانة الكبرى في هذه الأرض، عبء البشرية كلها، عبء العقيدة كلها، وعبء الكفاح والجهاد في ميادين شتى، عاش في المعركة الدائبة المستمرة أكثر من عشرين عامًا؛ لا يلهيه شأن عن شأن في خلال هذا الأمد منذ أن سمع النداء العلوى الجليل، وتلقى منه التكليف الرهيب... جزاه الله عنا وعن البشرية كلها خير الجزاء.
وليست الأوراق الآتية إلا صورة مصغرة بسيطة من هذا الجهاد الطويل الشاق الذي قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم خلال هذا الأمد.
*أقسام الوحى :
وقبل الدخول في موضوع هذا الجهاد أرى من الأحسن أن أستطرد إلى بيان أقسام الوحى ومراتبه. قال ابن القيم، وهو يذكر تلك المراتب:
إحداها: الرؤيا الصادقة، وكانت مبدأ وحيه صلى الله عليه وسلم.
الثانية: ما كان يلقيه الملك في روعه وقلبه من غير أن يراه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن روح القدس نفث في روعى أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله، فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته).
الثالثة: إنه صلى الله عليه وسلم كان يتمثل له الملك رجلًا فيخاطبه حتى يَعِىَ عنه ما يقول له، وفي هذه المرتبة كان يراه الصحابة أحيانًا.
الرابعة: أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس، وكان أشده عليه، فيلتبس به الملك، حتى أن جبينه ليتَفَصَّد عرقًا في اليوم الشديد البرد، وحتى أن راحلته لتبرك به إلى الأرض إذا كان راكبها، ولقد جاء الوحى مرة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت، فثقلت عليه حتى كادت ترضها.
الخامسة: إنه يرى الملك في صورته التي خلق عليها، فيوحى إليه ما شاء الله أن يوحيه، وهذا وقع له مرتين كما ذكر الله ذلك في سورة النجم.
السادسة: ما أوحاه الله إليه، وهو فوق السموات ليلة المعراج من فرض الصلاة وغيرها.
السابعة: كلام الله له منه إليه بلا واسطة ملك كما كلم الله موسى بن عمران، وهذه المرتبة هي ثابتة لموسى قطعًا بنص القرآن. وثبوتها لنبينا صلى الله عليه وسلم هو في حديث الإسراء.
وقـد زاد بعضهم مرتبة ثامنة؛ وهي تكليم الله له كفاحًا من غير حجاب، وهي مسألة خلاف بين السلف والخلف. انتهي مع تلخيص يسير في بيان المرتبة الأولى والثامنة.
المرحلة الأولى: من جهاد الدعوة إلي الله
*ثلاث سنوات من الدعوة السرية :
قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول ما تقدم من آيات سورة المدثر، بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى؛ وحيث إن قومه كانوا جفاة لا دين لهم إلا عبادة الأصنام والأوثان، ولا حجة لهم إلا أنهم ألفوا آباءهم على ذلك، ولا أخلاق لهم إلا الأخذ بالعزة والأنفة، ولا سبيل لهم في حل المشاكل إلا السيف، وكانوا مع ذلك متصدرين للزعامة الدينية في جزيرة العرب، ومحتلين مركزها الرئيس، ضامنين حفظ كيانها، فقد كان من الحكمة تلقاء ذلك أن تكون الدعوة في بدء أمرها سرية؛ لئلا يفاجئ أهل مكة بما يهيجهم.
*الرعيل الأول :
وكان من الطبيعى أن يعرض الرسول صلى الله عليه وسلم الإسلام أولًا على ألصق الناس به من أهل بيته، وأصدقائه، فدعاهم إلى الإسلام، ودعا إليه كل من توسم فيه الخير ممن يعرفهم ويعرفونه، يعرفهم بحب الحق والخير، ويعرفونه بتحرى الصدق والصلاح، فأجابه من هؤلاء ـ الذين لم تخالجهم ريبة قط في عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم وجلالة نفسه وصدق خبره ـ جَمْعٌ عُرِفوا في التاريخ الإسلامى بالسابقين الأولين، وفي مقدمتهم زوجة النبي صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين خديجة بنت خويلد، ومولاه زيد بن حارثة بن شراحيل الxxxي وابن عمه علي بن أبي طالب ـ وكان صبيًا يعيش في كفالة الرسول صلى الله عليه وسلم ـ وصديقه الحميم أبو بكر الصديق. أسلم هؤلاء في أول يوم الدعوة.
ثم نشط أبو بكر في الدعوة إلى الإسلام، وكان رجلًا مألفًا محببًا سهلًا ذا خلق ومعروف،وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه؛ لعلمه وتجارته وحسن مجالسته، فجعل يدعو من يثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه، فأسلم بدعوته عثمان بن عفان الأموى، والزبير بن العوام الأسدى، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص الزهريان، وطلحة بن عبيد الله التيمي. فكان هؤلاء النفر الثمانية الذين سبقوا الناس هم الرعيل الأول وطليعة الإسلام.
ثم تلا هؤلاء أمين هذه الأمة أبو عبيدة عامر بن الجراح من بني الحارث بن فهر، وأبو سلمة بن عبد الأسد المخزومى، وامرأته أم سلمة، والأرقم بن أبي الأرقم المخزومى، وعثمان بن مظعون الجُمَحِىّ وأخواه قدامة وعبد الله، وعبيدة بن الحارث ابن المطلب بن عبد مناف، وسعيد بن زيد العدوى، وامرأته فاطمة بنت الخطاب العدوية أخت عمر بن الخطاب، وخباب بن الأرت التميمى، وجعفر بن أبي طالب، وامرأته أسماء بنت عُمَيْس، وخالد بن سعيد بن العاص الأموى، وامرأته أمينة بنت خلف، ثم أخوه عمرو بن سعيد بن العاص، وحاطب بن الحارث الجمحي، وامرأته فاطمة بنت المُجَلِّل وأخوه الخطاب بن الحارث، وامرأته فُكَيْهَة بنت يسار، وأخوه معمر ابن الحارث، والمطلب بن أزهر الزهري، وامرأته رملة بنت أبي عوف، ونعيم بن عبد الله بن النحام العدوي، وهؤلاء كلهم قرشيون من بطون وأفخاذ شتى من قريش.
ومن السابقين الأولين إلى الإسلام من غير قريش: عبد الله بن مسعود الهذلي، ومسعود بن ربيعة القاري، وعبد الله بن جحش الأسدي وأخوه أبو أحمد بن جحش، وبلال بن رباح الحبشي، صُهَيْب بن سِنان الرومي، وعمار بن ياسر العنسي، وأبوه ياسر، وأمه سمية، وعامر بن فُهيرة.
وممن سبق إلى الإسلام من النساء غير من تقدم ذكرهن: أم أيمن بركة الحبشية، وأم الفضل لبابة الكبرى بنت الحارث الهلالية زوج العباس بن عبد المطلب، وأسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما.
هؤلاء معروفون بالسابقين الأولين، ويظهر بعد التتبع والاستقراء أن عدد الموصوفين بالسبق إلى الإسلام وصل إلى مائة وثلاثين رجلًا وامرأة، ولكن لا يعرف بالضبط أنهم كلهم أسلموا قبل الجهر بالدعوة أو تأخر إسلام بعضهم إلى الجهر بها.
*الصلاة :
ومن أوائل ما نزل من الأحكام الأمر بالصلاة، قال ابن حجر: كان صلى الله عليه وسلم قبل الإسراء يصلى قطعًا وكذلك أصحابه، ولكن اختلف هل فرض شىء قبل الصلوات الخمس من الصلوات أم لا؟ فقيل: إن الفرض كانت صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها. انتهي. وروى الحارث بن أبي أسامة من طريق ابن لَهِيعَة موصولًا عن زيد ابن حارثة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول ما أوحى إليه أتاه جبريل، فعلمه الوضوء، فلما فرغ من الوضوء أخذ غرفة من ماء فنضح بها فرجه، وقد رواه ابن ماجه بمعناه، وروى نحوه عن البراء بن عازب وابن عباس، وفي حديث ابن عباس: وكان ذلك من أول الفريضة.
وقد ذكر ابن هشام أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا إذا حضرت الصلاة ذهبوا في الشعاب فاستخفوا بصلاتهم من قومهم، وقد رأي أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم وعليّا يصليان مرة، فكلمهما في ذلك، ولما عرف جلية الأمر أمرهما بالثبات.
تلك هي العبادة التي أمر بها المؤمنون، ولا تعرف لهم عبادات وأوامر ونواه أخرى غير ما يتعلق بالصلاة، وإنما كان الوحى يبين لهم جوانب شتى من التوحيد، ويرغبهم في تزكية النفوس، ويحثهم على مكارم الأخلاق، ويصف لهم الجنة والنار كأنهما رأي عين، ويعظهم بمواعظ بليغة تشرح الصدور وتغذى الأرواح، وتحدو بهم إلى جو آخر غير الذي كان فيه المجتمع البشرى آنذاك.
وهكذا مرت ثلاثة أعوام، والدعوة لم تزل مقصورة على الأفراد، ولم يجهر بها النبي صلى الله عليه وسلم في المجامع والنوادى،إلا أنها عرفت لدى قريش، وفشا ذكر الإسلام بمكة، وتحدث به الناس، وقد تنكر له بعضهم أحيانًا، واعتدوا على بعض المؤمنين، إلا أنهم لم يهتموا به كثيرًا حيث لم يتعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم لدينهم، ولم يتكلم في آلهتهم.
المرحلـة الثانية: الدعــوة جهــارًا
*أول أمـر بإظهار الدعـوة :
لما تكونت جماعة من المؤمنين تقوم على الأخوة والتعاون، وتتحمل عبء تبليغ الرسالة وتمكينها من مقامها نزل الوحى يكلف رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعالنة الدعوة، ومجابهة الباطل بالحسنى.
وأول ما نزل بهذا الصدد قوله تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]، وقد ورد في سياق ذكرت فيه أولًا قصة موسى عليه السلام، من بداية نبوته إلى هجرته مع بني إسرائيل، وقصة نجاتهم من فرعون وقومه، وإغراق آل فرعون معه، وقد اشتملت هذه القصة على جميع المراحل التي مر بها موسى عليه السلام، خلال دعوة فرعون وقومه إلى الله.
وكأن هذا التفصيل جىء به مع أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بجهر الدعوة إلى الله؛ ليكون أمامه وأمام أصحابه مثال لما سيلقونه من التكذيب والاضطهاد حينما يجهرون بالدعوة، وليكونوا على بصيرة من أمرهم منذ البداية.
ومن ناحية أخرى تشتمل هذه السورة على ذكر مآل المكذبين للرسل، من قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم إبراهيم، وقوم لوط، وأصحاب الأيكة ـ عدا ما ذكر من أمر فرعون وقومه ـ ليعلم الذين سيقومون بالتكذيب عاقبة أمرهم وما سيلقونه من مؤاخذة الله إن استمروا عليه، وليعرف المؤمنون أن حسن العاقبة لهم وليس للمكذبين.
*الدعـوة في الأقربين :
ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشيرته بني هاشم بعد نزول هذه الآية، فجاءوا ومعهم نفر من بني المطلب بن عبد مناف، فكانوا نحو خمسة وأربعين رجلًا. فلما أراد أن يتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بادره أبو لهب وقال: هؤلاء عمومتك وبنو عمك فتكلم، ودع الصباة، واعلم أنه ليس لقومك بالعرب قاطبة طاقة، وأنا أحق من أخذك، فحسبك بنو أبيك، وإن أقمت على ما أنت عليه فهو أيسر عليهم من أن يثب بك بطون قريش، وتمدهم العرب، فما رأيت أحدًا جاء على بني أبيه بشر مما جئت به، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتكلم في ذلك المجلس.
ثم دعاهم ثانية وقال: (الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأومن به، وأتوكل عليه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له). ثم قال: (إن الرائد لا يكذب أهله، والله الذي لا إله إلا هو، إنى رسول الله إليكم خاصة وإلى الناس عامة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون، وإنها الجنة أبدًا أو النار أبدًا).
فقال أبو طالب: ما أحب إلينا معاونتك، وأقبلنا لنصيحتك، وأشد تصديقًا لحديثك. وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون، وإنما أنا أحدهم، غير أني أسرعهم إلى ما تحب، فامض لما أمرت به. فوالله، لا أزال أحوطك وأمنعك، غير أن نفسى لا تطاوعنى على فراق دين عبد المطلب.
فقال أبو لهب: هذه والله السوأة، خذوا على يديه قبل أن يأخذ غيركم، فقال أبو طالب: والله لنمنعه ما بقينا.
*على جبل الصفا :
وبعد تأكد النبي صلى الله عليه وسلم من تعهد أبي طالب بحمايته وهو يبلغ عن ربه، صعد النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم على الصفا، فعلا أعلاها حجرًا، ثم هتف: (يا صباحاه)
وكانت كلمة إنذار تخبر عن هجوم جيش أو وقوع أمر عظيم.
ثم جعل ينادى بطون قريش، ويدعوهم قبائل قبائل: (يا بني فهر، يا بني عدى، يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني عبد مناف، يا بني عبد المطلب).
فلما سمعوا قالوا: من هذا الذي يهتف؟ قالوا: محمد. فأسرع الناس إليه، حتى إن الرجل إذا لم يستطع أن يخرج إليه أرسل رسولًا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش.
فلما اجتمعوا قال: (أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلًا بالوادى بسَفْح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم أكنتم مُصَدِّقِىَّ؟).
قالوا: نعم، ما جربنا عليك كذبًا، ما جربنا عليك إلا صدقًا.
قال: (إنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد، إنما مثلى ومثلكم كمثل رجل رأي العَدُوّ فانطلق يَرْبَأ أهله)( أي يتطلع وينظر لهم من مكان مرتفع لئلا يدهمهم العدو) (خشى أن يسبقوه فجعل ينادى: يا صباحاه)
ثم دعاهم إلى الحق، وأنذرهم من عذاب الله، فخص وعم فقال:
(يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم من الله، أنقذوا أنفسكم من النار، فإنى لا أملك لكم من الله ضرًا ولا نفعًا، ولا أغنى عنكم من الله شيئًا.
يا بني كعب بن لؤى، أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم ضرًا ولا نفعًا.
يا بني مرة بن كعب، أنقذوا أنفسكم من النار.
يا معشر بني قصى، أنقذوا أنفسكم من النار، فإنى لا أملك لكم ضرًا ولا نفعًا.
يا معشر بني عبد مناف، أنقذوا أنفسكم من النار، فإنى لا أملك لكم من الله ضرًا ولا نفعًا، ولا أغنى عنكم من الله شيئًا.
يا بني عبد شمس، أنقذوا أنفسكم من النار.
يا بني هاشم، أنقذوا أنفسكم من النار.
يا معشر بني عبد المطلب، أنقذوا أنفسكم من النار، فإنى لا أملك لكم ضرًا ولا نفعًا، ولا أغنى عنكم من الله شيئًا، سلونى من مالى ماشئتم، لا أملك لكم من الله شيئًا.
يا عباس بن عبد المطلب، لا أغنى عنك من الله شيئًا.
يا صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله، لا أغنى عنك من الله شيئًا.
يا فاطمة بنت محمد رسول الله، سلينى ما شئت من مالى، أنقذى نفسك من النار، فإنى لا أملك لك ضرًا ولا نفعًا، ولا أغنى عنك من الله شيئًا.
غير أن لكم رحمًا سأبُلُّها بِبلاَلها) أي أصلها حسب حقها.
ولما تم هذا الإنذار انفض الناس وتفرقوا، ولا يذكر عنهم أي ردة فعل، سوى أن أبا لهب واجه النبي صلى الله عليه وسلم بالسوء، وقال: تبا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [سورة المسد:1].
كانت هذه الصيحـة العالية هي غاية البلاغ، فقد أوضح الرسول صلى الله عليه وسلم لأقرب الناس إليه أن التصديق بهذه الرسالة هو حياة الصلات بينه وبينهم، وأن عصبة القرابة التي يقوم عليها العرب ذابت في حرارة هذا الإنذار الآتى من عند الله.
ولم يزل هذا الصوت يرتج دويه في أرجاء مكة حتى نزل قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:94]، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر بالدعوة إلى الإسلام في مجامع المشركين ونواديهم، يتلو عليهم كتاب الله، ويقول لهم ما قالته الرسل لأقوامهم: {يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59]،وبدء يعبد الله تعالى أمام أعينهم، فكان يصلى بفناء الكعبة نهارًا جهارًا وعلى رءوس الأشهاد.
وقد نالت دعوته مزيدًا من القبول، ودخل الناس في دين الله واحدًا بعد واحد. وحصل بينهم وبين من لم يسلم من أهل بيتهم تباغض وتباعد وعناد واشمأزت قريش من كل ذلك، وساءهم ما كانوا يبصرون.
*المجلس الاستشاري لكف الحجاج عن استماع الدعوة
وخلال هذه الأيام أهم قريشًا أمر آخر،وذلك أن الجهر بالدعوة لم يمض عليه إلا أيام أو أشهر معدودة حتى قرب موسم الحج، وعرفت قريش أن وفود العرب ستقدم عليهم، فرأت أنه لابد من كلمة يقولونها للعرب، في شأن محمد صلى الله عليه وسلم حتى لا يكون لدعوته أثر في نفوس العرب، فاجتمعوا إلى الوليد بن المغيرة يتداولون في تلك الكلمة، فقال لهم الوليد: أجمعوا فيه رأيـًا واحدًا،ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضًا، ويرد قولكم بعضه بعضًا، قالوا: فأنت فقل، وأقم لنا رأيًا نقول به. قال: بل أنتم فقولوا أسمع. قالوا: نقول: كاهن. قال: لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزَمْزَمَة الكاهن ولا سجعه. قالوا: فنقول: مجنون، قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، ما هو بخَنْقِه ولا تَخَالُجِه ولا وسوسته. قالوا: فنقول: شاعر. قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رَجَزَه وهَزَجَه وقَرِيضَه ومَقْبُوضه ومَبْسُوطه، فما هو بالشعر، قالوا: فنقول: ساحر. قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنَفْثِهِم ولا عقْدِهِم. قالوا: فما نقول؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، [وإن عليه لطلاوة] وإن أصله لعَذَق، وإن فَرْعَه لجَنَاة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئًا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا: ساحر. جاء بقول هو سحر، يفرق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته، فتفرقوا عنه بذلك.
وتفيد بعض الروايات أن الوليد لما رد عليهم كل ما عرضوا له، قالوا: أرنا رأيك الذي لا غضاضة فيه، فقال لهم: أمهلونى حتى أفكر في ذلك، فظل الوليد يفكر ويفكر حتى أبدى لهم رأيه الذي ذكر آنفًا.
وفي الوليد أنزل الله تعالى ست عشرة آية من سورة المدثر{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَفَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِسَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [من 11 إلى 26] وفي خلالها صور كيفية تفكيره، فقال: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:18: 25]
وبعد أن اتفق المجلس على هذا القرار أخذوا في تنفيذه، فجلسوا بسبل الناس حين قدموا للموسم، لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه وذكروا لهم أمره.
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج يتبع الناس في منازلهم وفي عُكَاظ ومَجَنَّة وذى المَجَاز، يدعوهم إلى الله، وأبو لهب وراءه يقول: لا تطيعوه فإنه صابئ كذاب.
وأدى ذلك إلى أن صدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتشر ذكره في بلاد العرب كلها.
قصدوا بها تخذيل المسلمين، وتوهين قواهم المعنوية، فرموا النبي صلى الله عليه وسلم بتهم هازلة، وشتائم سفيهة، فكانوا ينادونه بالمجنون {وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر:6]، ويصمونه بالسحر والكذب {وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [ص:4]،وكانوا يشيعونه ويستقبلونه بنظرات ملتهمة ناقمة، وعواطف منفعلة هائجة {وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} [القلم:51]،وكان إذا جلس وحوله المستضعفون من أصحابه استهزأوا بهم وقالوا: هؤلاء جلساؤه {مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا} [الأنعام: 53]، قال تعالى: {أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام:53]،وكانوا كما قص الله علينا {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين: 29: 33].
وقد أكثروا من السخرية والاستهزاء وزادوا من الطعن والتضحيك شيئًا فشيئًا حتى أثر ذلك في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} [الحجر:97]، ثم ثبته الله وأمره بما يذهب بهذا الضيق فقال: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}[الحجر:98، 99]، وقد أخبره من قبل أنه يكفيه هؤلاء المستهزئين حيث قال: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلـهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْمَلُونَ} [الحجر: 95، 96]، وأخبره أن فعلهم هذا سوف ينقلب وبالًا عليهم فقال: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ} [الأنعام:10].
2ـ إثارة الشبهات وتكثيف الدعايات الكاذبة:
وقد أكثروا من ذلك وتفننوا فيه بحيث لا يبقى لعامة الناس مجال للتدبر في دعوته والتفكير فيها، فكانوا يقولون عن القرآن: {أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ} [الأنبياء:5] يراها محمد بالليل ويتلوها بالنهار، ويقولون: {بَلِ افْتَرَاهُ} من عند نفسه ويقولون: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} وقالوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} [الفرقان: 4] أي اشترك هو وزملاؤه في اختلاقه. {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان:5]
وأحيانا قالوا: إن له جنًا أو شيطانًا يتنزل عليه كما ينزل الجن والشياطين على الكهان. قال تعالى ردًا عليهم: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء:221، 222]، أي إنها تنزل على الكذاب الفاجر المتلطخ بالذنوب، وما جرّبتم علىّ كذبًا، وما وجدتم في فسقًا، فكيف تجعلون القرآن من تنزيل الشيطان؟
وأحيانًا قالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم: إنه مصاب بنوع من الجنون، فهو يتخيل المعانى، ثم يصوغها في كلمات بديعة رائعة كما يصوغ الشعراء، فهو شاعر وكلامه شعر. قال تعالى ردًا عليهم: {وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} [الشعراء:225: 226] فهذه ثلاث خصائص يتصف بها الشعراء ليست واحدة منها في النبي صلى الله عليه وسلم، فالذين اتبعوه هداة مهتدون، متقون صالحون في دينهم وخلقهم وأعمالهم وتصرفاتهم، وليست عليهم مسحة من الغواية في أي شأن من شئونهم، ثم النبي صلى الله عليه وسلم لا يهيم في كل واد كما يهيم الشعراء، بل هو يدعو إلى رب واحد، ودين واحد، وصراط واحد، وهو لا يقول إلا ما يفعل، ولا يفعل إلا ما يقول، فأين هو من الشعر والشعراء؟ وأين الشعر والشعراء منه.
هكذا كان يرد عليهم بجواب مقنع حول كل شبهة كانوا يثيرونها ضد النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن والإسلام.
ومعظم شبهتهم كانت تدور حول التوحيد، ثم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم بعث الأموات ونشرهم وحشرهم يوم القيامة، وقد رد القرآن على كل شبهة من شبهاتهم حول التوحيد، بل زاد عليها زيادات أوضح بها هذه القضية من كل ناحية، وبين عجز آلهتهم عجزًا لا مزيد عليه، ولعل هذا كان مثار غضبهم واستنكارهم الذي أدى إلى ما أدى إليه.
أما شبهاتهم في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم مع اعترافهم بصدق النبي صلى الله عليه وسلم وأمانته وغاية صلاحه وتقواه، كانوا يعتقدون أن منصب النبوة والرسالة أجل وأعظم من أن يعطى لبشر، فالبشر لا يكون رسولًا، والرسول لا يكون بشرًا حسب عقيدتهم. فلما أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نبوته، ودعا إلى الإيمان به تحيروا وقالوا: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7]، وقالوا: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم بشر،و {مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} [الأنعام: 19]، فقال تعالى ردًا عليهم:{قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ}، وكانوا يعرفون ويعترفون بأن موسى بشر. ورد عليهم أيضًا بأن كل قوم قالوا لرسلهم إنكارًا على رسالتهم: {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا} [إبراهيم:10]، فـ {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم: 11]. فالأنبياء والرسل لا يكونون إلا بشرًا، ولا منافاة بين البشرية والرسالة.
وحيث إنهم كانوا يعترفون بأن إبراهيم و إسماعيل وموسى ـ عليهم السلام ـ كانوا رسلًا وكانوا بشرًا، فإنهم لم يجدوا مجالًا للإصرار على شبهتهم هذه،فقالوا:ألم يجد الله لحمل رسالته إلا هذا اليتيم المسكين،ما كـان اللـه ليترك كـبار أهـل مكـة والطائف ويتخذ هذا المسكين رسولًا{وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]، قال تعالى ردًا عليهم:{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} [الزخرف:32]، يعنى أن الوحى والرسالة رحمة من الله و{اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124].
وانتقلوا بعد ذلك إلى شبهة أخرى، قالوا: إن رسل ملوك الدنيا يمشون في موكب من الخدم والحشم، ويتمتعون بالأبهة والجلال، ويوفر لهم كل أسباب الحياة، فما بال محمد يدفع في الأسواق للقمة عيش وهو يدعى أنه رسول الله؟ {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا} [الفرقان:7: 8]، ورد على شبهتهم هذه بأن محمدًا رسول، يعنى أن مهمته هو إبلاغ رسالة الله إلى كل صغير وكبير، وضعيف وقوى، وشريف ووضيع، وحر وعبد، فلو لبث في الأبهة والجلال والخدم والحشم والحرس والمواكبين مثل رسل الملوك، لم يكن يصل إليه ضعفاء الناس وصغارهم حتى يستفيدوا به، وهم جمهور البشر، وإذن فاتت مصلحة الرسالة، ولم تعد لها فائدة تذكر.
أما إنكارهم البعث بعد الموت فلم يكن عندهم في ذلك إلا التعجب والاستغراب والاستبعاد العقلي، فكانوا يقولون: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ} [الصافات:16، 17]،وكانوا يقولون: {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق: 3] وكانوا يقولون على سبيل الاستغراب: {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ: 7، 8].
وقال قائلهم:
أَموْتٌ ثم بَعْثٌ ثم حَشْرٌ ** حدِيثُ خُرَافة يا أم عمرو
وقد رد عليهم بتبصيرهم ما يجرى في الدنيا، فالـظالم يموت دون أن يلقى جزاء ظلمه، والمظلوم يموت دون أن يأخذ حقه من ظالمه، والمحسن الصالح يموت قبل أن يلقى جزاء إحسانه وصلاحه، والفاجر المسىء يموت قبل أن يعاقب على سوء عمله، فإن لم يكن بعث ولا حياة ولا جزاء بعد الموت لاستوى الفريقان، بل لكان الظالم والفاجر أسعد من المظلوم والصالح، وهذا غير معقول إطلاقا. ولا يتصور من الله أن يبني نظام خلقه على مثل هذا الفساد. قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35، 36]، وقال: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [ص: 28]، وقال: {أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21].
وأما الاستبعاد العقلى فقال تعالى ردًا عليه: {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا} [النازعات:27]، وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأحقاف: 33]، وقال: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ} [الواقعة:62]، وبين ما هو معروف عقلًا وعرفًا، وهو أن الإعادة {أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27]،وقال: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ} [الأنبياء:104]، وقال: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ} [ق: 15].
وهكذا رد على كل ما أثاروا من الشبهات ردًا مفحمًا يقنع كل ذى عقل ولب، ولكنهم كانوا مشاغبين مستكبرين يريدون عُلوا في الأرض وفرض رأيهم على الخلق، فبقوا في طغيانهم يعمهون.
3 ـ الحيلولة بين الناس وبين سماعهم القرآن، ومعارضته بأساطير الأولين:
كان المشركون بجنب إثارة هذه الشبهات يحولون بين الناس وبين سماعهم القرآن ودعوة الإسلام بكل طريق يمكن، فكانوا يطردون الناس ويثيرون الشغب والضوضاء ويتغنون ويلعبون، إذا رأوا أن النبي صلى الله عليه وسلم يتهيأ للدعوة، أو إذا رأوه يصلى ويتلو القرآن. قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26] حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتمكن من تلاوة القرآن عليهم في مجامعهم ونواديهم إلا في أواخر السنة الخامسة من النبوة، وذلك أيضًا عن طريق المفاجأة، دون أن يشعروا بقصده قبل بداية التلاوة.
وكان النضر بن الحارث، أحد شياطين قريش قد قدم الحيرة، وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس، وأحاديث رستم واسفنديار، فكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسًا للتذكير بالله والتحذير من نقمته خلفه النضر ويقول: أنا و الله يا معشر قريش أحسن حديثًا منه، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم واسفنديار، ثم يقول: بماذا محمد أحسن حديثًا مني.
وفي رواية عن ابن عباس أن النضر كان قد اشترى قَيْنَةً، فكان لا يسمع بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته، فيقول: أطعميه واسقيه وغنيه، هذا خير مما يدعوك إليه محمد، وفيه نزل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان: 6].
*الاضطهادات :
أعمل المشركون الأساليب التي ذكرناها شيئًا فشيئًا لإحباط الدعوة بعد ظهورها في بداية السنة الرابعة من النبوة، ومضت على ذلك أسابيع وشهور وهم مقتصرون على هذه الأساليب لا يتجاوزونها إلى طريق الاضطهاد والتعذيب، ولكنهم لما رأوا أن هذه الأساليب لم تجد نفعًا في إحباط الدعوة الإسلامية استشاروا فيما بينهم، فقرروا القيام بتعذيب المسلمين وفتنتهم عن دينهم، فأخذ كل رئيس يعذب من دان من قبيلته بالإسلام، وانقض كل سيد على من اختار من عبيده طريق الإيمان.
وكان من الطبيعي أن يهرول الأذناب والأوباش خلف ساداتهم وكبرائهم، ويتحركوا حسب مرضاتهم وأهوائهم، فجروا على المسلمين ـ ولاسيما الضعفاء منهم ـ ويلات تقشعر منها الجلود، وأخذوهم بنقمات تتفطر لسماعها القلوب.
كان أبو جهل إذا سمع برجل قد أسلم له شرف ومنعة أنبه وأخزاه، وأوعده بإبلاغ الخسارة الفادحة في المال، والجاه، وإن كان ضعيفًا ضربه وأغرى به.
وكان عم عثمان بن عفان يلفه في حصير من ورق النخيل ثم يدخنه من تحته.
ولما علمت أم مصعب بن عمير بإسلامه منعته الطعام والشراب، وأخرجته من بيته، وكان من أنعم الناس عيشًا، فتَخَشَّفَ جلده تخشف الحية.
وكان صهيب بن سنان الرومي يُعذَّب حتى يفقد وعيه ولا يدرى ما يقول.
وكان بلال مولى أمية بن خلف الجمحي، فكان أمية يضع في عنقه حبلًا، ثم يسلمه إلى الصبيان، يطوفون به في جبال مكة، ويجرونه حتى كان الحبل يؤثر في عنقه، وهو يقول: أحَدٌ أحَدٌ، وكان أمية يـشده شـدًا ثم يضربه بالعصا، و يلجئه إلى الجلوس في حر الشمس، كما كان يكرهه على الجوع. وأشد من ذلك كله أنه كان يخرجه إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في الرمضاء في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول: لا واللـه لا تـزال هكـذا حتى تموت أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى، فيقول وهو في ذلك: أحد،أحد، ويقـول: لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها. ومر به أبو بكر يوما وهم يصنعون ذلك به فاشتراه بغلام أسود، وقيل: بسبع أواق أو بخمس من الفضة، وأعتقه.
وكان عمار بن ياسر رضي الله عنه مولى لبني مخزوم، أسلم هو وأبوه وأمه، فكان المشركون ـ وعلى رأسهم أبو جهل ـ يخرجونهم إلى الأبطح إذا حميت الرمضاء فيعذبونهم بحرها. ومر بهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم يعذبون فقال: (صبرًا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة)، فمات ياسر في العذاب، وطعن أبو جهل سمية ـ أم عمار ـ في قبلها بحربة فماتت، وهي أول شهيدة في الإسلام، وهي سمية بنت خياط مولاة أبي حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وكانت عجوزًا كبيرة ضعيفة. وشددوا العذاب على عمار بالحر تارة، وبوضع الصخر الأحمر على صدره أخرى، وبغطه في الماء حتى كان يفقد وعيه. وقالوا له: لا نتركك حتى تسب محمدًا، أو تقول في اللات والعزى خيرًا، فوافقهم على ذلك مكرهًا، وجاء باكيًا معتذرًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله: {مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ}الآية [ النحل: 106 ].
وكان أبو فُكَيْهَةَ ـ واسمة أفلح ـ مولى لبني عبد الدار، وكان من الأزد. فكانوا يخرجونه في نصف النهار في حر شديد، وفي رجليه قيد من حديد، فيجردونه من الثياب، ويبطحونه في الرمضاء، ثم يضعون على ظهره صخرة حتى لا يتحرك، فكان يبقى كذلك حتى لا يعقل، فلم يزل يعذب كذلك حتى هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية، وكانوا مرة قد ربطوا رجله بحبل، ثم جروه وألقوه في الرمضاء وخنقوه حتى ظنوا أنه قد مات، فمر به أبو بكر فاشتراه وأعتقه لله.
وكان خباب بن الأرت مولى لأم أنمار بنت سِباع الخزاعية، وكان حدادًا، فلما أسلم عذبته مولاته بالنار، كانت تأتى بالحديدة المحماة فتجعلها على ظهره أو رأسه، ليكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، فلم يكن يزيده ذلك إلا إيمانًا وتسليمًا، وكان المشركون أيضًا يعذبونه فيلوون عنقه، ويجذبون شعره، وقد ألقوه على النار، ثم سحبوه عليها، فما أطفأها إلا وَدَكَ ظهره.
وكانت زِنِّيرَةُ أمَةً رومية قد أسلمت فعذبت في الله، وأصيبت في بصرها حتى عميت، فقيل لها: أصابتك اللات والعزى، فقالت: لا والله ما أصابتني، وهذا من الله، وإن شاء كشفه، فأصبحت من الغد وقد رد الله بصرها، فقالت قريش: هذا بعض سحر محمد.
وأسلمت أم عُبَيْس، جارية لبني زهرة، فكان يعذبها المشركون، وبخاصة مولاها الأسود بن عبد يغوث، وكان من أشد أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن المستهزئين به.
وأسلمت جارية عمر بن مؤمل من بني عدى، فكان عمر بن الخطاب يعذبها ـ وهو يومئذ على الشرك ـ فكان يضربها حتى يفتر، ثم يدعها ويقول: والله ما أدعك إلا سآمة، فتقول: كذلك يفعل بك ربك.
وممـن أسلمـن وعـذبن مـن الجـوارى: النهدية وابنتها، وكانتا لامـرأة من بني عبد الدار.
وممن عذب من العبيد: عامر بن فُهَيْرَة، كان يعذب حتى يفقد وعيه ولا يدرى ما يقول.
واشترى أبوبكر رضي الله عنه هؤلاء الإماء والعبيد رضي الله عنهم وعنهن أجمعين، فأعتقهم جميعًا. وقد عاتبه في ذلك أبوه أبو قحافة وقال: أراك تعتق رقابًا ضعافًا، فلو أعتقت رجالًا جلدًا لمنعوك. قال: إني أريد وجه الله. فأنزل الله قرآنًا مدح فيه أبا بكر، وذم أعداءه. قال تعالى: {فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل:14: 16] وهو أمية بن خلف، ومن كان على شاكلته {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليـل:17: 21] وهـو أبـو بـكـر الصديـق رضي الله عنه.
وأوذى أبو بكر الصديق رضي الله عنه أيضًا. فقد أخذه نوفل بن خويلد العدوى، وأخذ معه طلحة بن عبيد الله فشدهما في حبل واحد، ليمنعهما عن الصلاة وعن الدين فلم يجيباه، فلم يروعاه إلا وهما مطلقان يصليان؛ ولذلك سميا بالقرينين، وقيل: إنما فعل ذلك عثمان بن عبيد الله أخو طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه.
والحاصل أنهم لم يعلموا بأحد دخل في الإسلام إلا وتصدوا له بالأذى والنكال، وكان ذلك سهلًا ميسورًا بالنسبة لضعفاء المسلمين، ولا سيما العبيد والإماء منهم، فلم يكن من يغضب لهم ويحميهم، بل كانت السادة والرؤساء هم أنفسهم يقومون بالتعذيب ويغرون الأوباش، ولكن بالنسبة لمن أسلم من الكبار والأشراف كان ذلك صعبًا جدًا؛ إذ كانوا في عز ومنعة من قومهم، ولذلك قلما كان يجتريء عليهم إلا أشراف قومهم، مع شيء كبير من الحيطة والحذر.
*موقف المشركين من رسول الله صلى الله عليه وسلم :
وأما بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه صلى الله عليه وسلم كان رجلًا شهمًا وقورًا ذا شخصية فذة، تتعاظمه نفوس الأعداء والأصدقاء بحيث لا يقابل مثله إلا بالإجلال والتشريف، ولا يجترئ على اقتراف الدنايا والرذائل ضده إلا أراذل الناس وسفهاؤهم، ومع ذلك كان في منعة أبي طالب، وأبو طالب من رجال مكة المعدودين، كان معظمًا في أصله، معظمًا بين الناس، فكان من الصعب أن يجسر أحد على إخفار ذمته واستباحة بيضته، إن هذا الوضع أقلق قريشًا وأقامهم وأقعدهم، ودعاهم إلى تفكير سليم يخرجهم من المأزق دون أن يقعوا في محذور لا يحمد عقباه، وقد هداهم ذلك إلى أن يختاروا سبيل المفاوضات مع المسئول الأكبر: أبي طالب، ولكن مع شيء كبير من الحكمة والجدية، ومع نوع من أسلوب التحدي والتهديد الخفي حتى يذعن لما يقولون.
*وفد قريش إلى أبي طالب :
قال ابن إسحاق: مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب، فقالوا: يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا، وسَفَّه أحلامنا، وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلى بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فنكفيكه، فقال لهم أبو طالب قولًا رقيقًا وردهم ردًا جميلًا، فانصرفوا عنه، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه، يظهر دين الله ويدعو إليه. ولكن لم تصبر قريش طويلًا حين رأته صلى الله عليه وسلم ماضيًا في عمله ودعوته إلى الله، بل أكثرت ذكره وتذامرت فيه، حتى قررت مراجعة أبي طالب بأسلوب أغلظ وأقسى من السابق.
*قريش يهددون أبا طالب :
وجاءت سادات قريش إلى أبي طالب فقالوا له: يا أبا طالب، إن لك سنًا وشرفًا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك، حتى يهلك أحد الفريقين.
عَظُم على أبي طالب هذا الوعيد والتهديد الشديد، فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: يا بن أخي، إن قومك قد جاءونى فقالوا لي كذا وكذا، فأبق عليَّ وعلى نفسك، ولا تحملنى من الأمر ما لا أطيق، فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمه خاذله، وأنه ضعُف عن نصرته، فقال: (يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يمينى والقمر في يسارى على أن أترك هذا الأمر ـ حتى يظهره الله أو أهلك فيه ـ ما تركته)، ثم استعبر وبكى، وقام، فلما ولى ناداه أبو طالب، فلما أقبل قال له: اذهب يا بن أخي، فقل ما أحببت، فو الله لا أُسْلِمُك لشىء أبدًا وأنشد:
والله لن يصلوا إليك بجَمْعـِهِم ** حتى أُوَسَّدَ في التــراب دفيــنًا
ولما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ماض في عمله عرفت أن أبا طالب قد أبي خذلان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه مجمع لفراقهم وعداوتهم في ذلك، فذهبوا إليه بعمارة ابن الوليد بن المغيرة وقالوا له: يا أبا طالب، إن هذا الفتى أنْهَدَ فتى في قريش وأجمله، فخذه فلك عقله ونصره، واتخذه ولدًا فهو لك، وأسْلِمْ إلينا ابن أخيك هذا الذي خالف دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومك، وسفه أحلامهم، فنقتله، فإنما هو رجل برجل، فقال: والله لبئس ما تسومونني، أتعطوني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه؟ هذا والله ما لا يكون أبدًا. فقال المطعم بن عدى بن نوفل ابن عبد مناف: والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك، وجهدوا على التخلص مما تكره، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئًا، فقال: والله ما أنصفتموني، ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم علىّ، فاصنع ما بدا لك.
ولما فشلت قريش في هذه المفاوضات، ولم توفق في إقناع أبي طالب بمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفه عن الدعوة إلى الله، قررت أن يختار سبيلا قد حاولت تجنبه والابتعاد منه مخافة مغبته وما يؤول إليه، وهو سبيل الاعتداء على ذات الرسول صلى الله عليه وسلم.
*اعتداءات على رسول الله صلى الله عليه وسلم :
واخترقت قريش ما كانت تتعاظمه وتحترمه منذ ظهرت الدعوة على الساحة، فقد صعب على غطرستها وكبريائها أن تصبر طويلًا، فمدت يد الاعتداء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع ما كانت تأتيه من السخرية والاستهزاء والتشوية والتلبيس والتشويش وغير ذلك. وكان من الطبيعى أن يكون أبو لهب في مقدمتهم وعلى رأسهم، فإنه كان أحد رؤوس بني هاشم، فلم يكن يخشى ما يخشاه الآخرون، وكان عدوًا لدودًا للإسلام وأهله، وقد وقف موقف العداء من رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ اليوم الأول، واعتدى عليه قبل أن تفكر فيه قريش، وقد أسلفنا ما فعل بالنبي صلى الله عليه وسلم في مجلس بني هاشم، وما فعل على الصفا.
وكان أبو لهب قد زوج ولديه عتبة وعتيبة ببنتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رقية وأم كلثوم قبل البعثة، فلما كانت البعثة أمرهما بتطليقهما بعنف وشدة حتى طلقاهما.
ولما مات عبد الله ـ الابن الثاني لرسول الله صلى الله عليه وسلم ـ استبشر أبو لهب وذهب إلى المشركين يبشرهم بأن محمدًا صار أبتر.
وقد أسلفنا أن أبا لهب كان يجول خلف النبي صلى الله عليه وسلم في موسم الحج والأسواق لتكذيبه، وقد روى طارق بن عبد الله المحاربى ما يفيد أنه كان لا يقتصر على التكذيب بل كان يضربه بالحجر حتى يدمى عقباه.
وكانت امرأة أبي لهب ـ أم جميل أروى بنت حرب بن أمية، أخت أبي سفيان ـ لا تقل عن زوجها في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كانت تحمل الشوك، وتضعه في طريق النبي صلى الله عليه وسلم وعلى بابه ليلًا، وكانت امرأة سليطة تبسط فيه لسانها، وتطيل عليه الافتراء والدس، وتؤجج نار الفتنة، وتثير حربًا شعواء على النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك وصفها القرآن بحمالة الحطب.
ولما سمعت ما نزل فيها وفي زوجها من القرآن أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد عند الكعبة، ومعه أبو بكر الصديق وفي يدها فِهْرٌ [أي بمقدار ملء الكف] من حجارة، فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ترى إلا أبا بكر، فقالت: يا أبا بكر، أين صاحبك؟ قد بلغنى أنه يهجونى، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه، أما والله إني لشاعرة. ثم قالت:
مُذَمَّما عصينا * وأمره أبينا * ودينه قَلَيْنا
ثم انصرفت، فقال أبو بكر: يا رسول الله، أما تراها رأتك؟ فقال: (ما رأتنى، لقد أخذ الله ببصرها عني).
وروى أبو بكر البزار هذه القصة، وفيها: أنها لما وقفت على أبي بكر قالت: أبا بكر، هجانا صاحبك، فقال أبو بكر: لا ورب هذه البنية، ما ينطق بالشعر ولا يتفوه به، فقالت: إنك لمُصدَّق.
كان أبو لهب يفعل كل ذلك وهو عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاره، كان بيته ملصقا ببيته، كما كان غيره من جيران رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذونه وهو في بيته.
قال ابن إسحاق: كان النفر الذين يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته أبا لهب، والحكم بن أبي العاص بن أمية، وعقبة بن أبي معيط، وعدى بن حمراء الثقفي، وابن الأصداء الهذلى ـ وكانوا جيرانه ـ لم يسلم منهم أحد إلا الحكم بن أبي العاص، فكان أحدهم يطرح عليه صلى الله عليه وسلم رحم الشاة وهو يصلى، وكان أحدهم يطرحها في برمته إذا نصبت له، حتى اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجرًا ليستتر به منهم إذا صلى فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طرحوا عليه ذلك الأذى يخرج به على العود، فيقف به على بابه، ثم يقول: (يا بني عبد مناف، أي جوار هذا؟) ثم يلقيه في الطريق.
وازداد عقبة بن أبي مُعَيْط في شقاوته وخبثه، فقد روى البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلى عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس؛ إذ قال بعضهم لبعض: أيكم يجىء بسَلاَ جَزُور بني فلان فيضعه على ظهر محمد إذا سجد، فانبعث أشقى القوم [وهو عقبة بن أبي معيط] فجاء به فنظر، حتى إذا سجد النبي وضع على ظهره بين كتفيه، وأنا أنظر، لا أغنى شيئًا، لو كانت لي منعة، قال: فجعلوا يضحكون، ويحيل بعضهم على بعضهم [أي يتمايل بعضهم على بعض مرحًا وبطرًا] ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد، لا يرفع رأسه، حتى جاءته فاطمة، فطرحته عن ظهره، فرفع رأسه، ثم قال: [اللهم عليك بقريش] ثلاث مرات، فشق ذلك عليهم إذ دعا عليهم، قال: وكانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة، ثم سمى: (اللّهم عليك بأبي جهل، وعليك بعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط) ـ وعد السابع فلم نحفظه ـ فوالذي نفسى بيده لقد رأيت الذين عدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صرعى في القَلِيب، قليب بدر.
وكان أمية بن خلف إذا رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم همزه ولمزه. وفيه نزل: {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} [سورة الهمزة:1] قال ابن هشام: الهمزة: الذي يشتم الرجل علانية، ويكسر عينيه، ويغمز به. واللمزة: الذي يعيب الناس سرًا، ويؤذيهم.
أما أخوه أبي بن خلف فكان هو وعقبة بن أبي معيط متصافيين. وجلس عقبة مرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسمع منه، فلما بلغ ذلك أبيًا أنبه وعاتبه، وطلب منه أن يتفل في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل، وأبي بن خلف نفسه فت عظمًا رميمًا ثم نفخه في الريح نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان الأخنس بن شَرِيق الثقفي ممن ينال من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وصفه القرآن بتسع صفات تدل على ما كان عليه، وهي في قوله تعالى:{ وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم:10: 13].
وكان أبو جهل يجىء أحيانًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع منه القرآن، ثم يذهب عنه فلا يؤمن ولا يطيع، ولا يتأدب ولا يخشى، ويؤذى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقول، ويصد عن سبيل الله، ثم يذهب مختالًا بما فعل، فخورًا بما ارتكب من الشر، كأن ما فعل شيئًا يذكر، وفيه نزل: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى} [القيامة:31]، وكان يمنع النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة منذ أول يوم رآه يصلى في الحرم، ومرة مر به وهو يصلى عند المقام فقال: يا محمد، ألم أنهك عن هذا، وتوعده، فأغلظ لــه رسـول الله صلى الله عليه وسلم وانتـهره، فقال: يا محمد، بأي شىء تهددنى؟ أما والله إني لأكثر هذا الوادى ناديًا. فأنزل الله {فَلْيَدْعُ نَادِيَه سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق:17، 18]. وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بخناقه وهزه، وهو يقول له:{أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} [القيامة:34، 35] فقال عدو الله: أتوعدنى يا محمد؟ والله لا تستطيع أنت ولا ربك شيئًا، وإني لأعز من مشى بين جبليها.
ولم يكن أبو جهل ليفيق من غباوته بعد هذا الانتهار، بل ازداد شقاوة فيما بعد. أخرج مسلم عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل: يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى، لئن رأيته لأطأن على رقبته، ولأعفرن وجهه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلى، زعم ليطأ رقبته، فما فجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقى بيديه، فقالوا: ما لك يا أبا الحكم؟ قال: إن بينى وبينه لخندقًا من نار وهولًا وأجنحةً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو دنا منى لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا).
هذه صورة مصغرة جدًا لما كان يتلقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون من الظلم والخسف والجور على أيدى طغاة المشركين، الذين كانوا يزعمون أنهم أهل الله وسكان حرمه.
وكان من مقتضيات هذه الظروف المتأزمة أن يختار رسول الله صلى الله عليه وسلم موقفًا حازمًا ينقذ به المسلمين عما دهمهم من البلاء، ويخفف وطأته بقدر المستطاع، وقد اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطوتين حكيمتين كان لهما أثرهما في تسيير الدعوة وتحقيق الهدف، وهما:
1 ـ اختيار دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومى مركزا للدعوة ومقرًا للتربية.
2ـ أمر المسلمين بالهجرة إلى الحبشة.
*دار الأرقم :
كانت هذه الدار في أصل الصفا، بعيدة عن أعين الطغاة ومجالسهم، فاختارها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجتمع فيها بالمسلمين سرًا، فيتلو عليهم آيات الله ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة؛ وليؤدى المسلمون عبادتهم وأعمالهم، ويتلقوا ما أنزل الله على رسوله وهم في أمن وسلام، وليدخل من يدخل في الإسلام ولا يعلم به الطغاة من أصحاب السطوة والنقمة.
ومما لم يكن يشك فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو اجتمع بالمسلمين علنا لحاول المشركون بكل ما عندهم من القسوة والغلظة أن يحولوا بينه وبين ما يريد من تزكية نفوسهم ومن تعليمهم الكتاب والحكمة، وربما أفضى ذلك إلى مصادمة الفريقين، بل قد وقع ذلك فعلًا. فقد ذكر ابن إسحاق أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يجتمعون في الشعاب، فيصلون فيها سرًا، فرآهم نفر من كفار قريش، فسبوهم وقاتلوهم، فضرب سعد بن أبي وقاص رجلًا فسال دمه، وكان أول دم هريق في الإسلام.
ومعلوم أن المصادمة لو تعددت وطالت لأفضت إلى تدمير المسلمين وإبادتهم، فكان من الحكمة السريةُ والاختفاء، فكان عامة الصحابة يُخْفُون إسلامهم وعبادتهم واجتماعهم، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يجهر بالدعوة والعبادة بين ظهرإني المشركين، لا يصرفه عن ذلك شىء، ولكن كان يجتمع مع المسلمين سرًا؛ نظرًا لصالحهم وصالح الإسلام.
*الهجرة الأولى إلى الحبشة :
كانت بداية الاعتداءات في أواسط أو أواخر السنة الرابعة من النبوة، بدأت ضعيفة، ثم لم تزل تشتد يومًا فيومًا وشهرًا فشهرا، حتى تفاقمت في أواسط السنة الخامسة، ونبا بهم المقام في مكة، وأخذوا يفكرون في حيلة تنجيهم من هذا العذاب الأليم، وفي هذه الظروف نزلت سورة الزمر تشير إلى اتخاذ سبيل الهجرة، وتعلن بأن أرض الله ليست بضيقة {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10].
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علم أن أصْحَمَة النجاشى ملك الحبشة ملك عادل، لا يظلم عنده أحد، فأمر المسلمين أن يهاجروا إلى الحبشة فرارًا بدينهم من الفتن.
وفي رجب سنة خمس من النبوة هاجر أول فوج من الصحابة إلى الحبشة. كان مكونًا من اثنى عشر رجلًا وأربع نسوة، رئيسهم عثمان بن عفان، ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهما: (إنهما أول بيت هاجر في سبيل الله بعد إبراهيم ولوط عليهما السلام)
كان رحيل هؤلاء تسللًا في ظلمة الليل ـ حتى لا تفطن لهم قريش ـ خرجوا إلى البحر ويمموا ميناء شعيبة، وقيضت لهم الأقدار سفينتين تجاريتين أبحرتا بهم إلى الحبشة، وفطنت لهم قريش، فخرجت في آثارهم، لكن لما بلغت إلى الشاطئ كانوا قد انطلقوا آمنين، وأقام المسلمون في الحبشة في أحسن جوار.
*سجود المشركين مع المسلمين وعودة المهاجرين :
وفي رمضان من نفس السنة خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحرم، وفيه جمع كبير من قريش، فيهم ساداتهم وكبراؤهم، فقام فيهم، وفاجأهم بتلاوة سورة النجم، ولم يكن أولئك الكفار سمعوا كلام الله من قبل؛ لأنهم كانوا مستمرين على ما تواصى به بعضهم بعضًا،من قولهم: {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26] فلما باغتهم بتلاوة هذه السورة، وقرع آذانهم كلام إلهي خلاب، وكان أروع كلام سمعوه قط، أخذ مشاعرهم، ونسوا ما كانوا فيه فما من أحد إلا وهو مصغ إليه، لا يخطر بباله شىء سواه، حتى إذا تلا في خواتيم هذه السورة قوارع تطير لها القلوب، ثم قرأ: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:62] ثم سجد، لم يتمالك أحد نفسه حتى خر ساجدًا. وفي الحقيقة كانت روعة الحق قد صدعت العناد في نفوس المستكبرين والمستهزئين، فما تمالكوا أن يخروا لله ساجدين.
وسَقَطَ في أيديهم لما أحسوا أن جلال كلام الله لَوَّى زمامهم، فارتكبوا عين ما كانوا يبذلون قصارى جهدهم في محوه وإفنائه، وقد توالى عليهم اللوم والعتاب من كل جانب، ممن لم يحضر هذا المشهد من المشركين، وعند ذلك كذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وافتروا عليه أنه عطف على أصنامهم بكلمة تقدير، وأنه قال عنها ما كانوا يرددونه هم دائما من قولهم: (تلك الغرانيـق العلى، وإن شفاعتهم لترتجى)، جاءوا بهذا الإفك المبـين ليعـتذروا عـن سجودهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، وليس يستغـــرب هـذا مـن قـوم كانوا يألفون الكذب، ويطيلون الدس والافتراء.
وبلغ هذا الخبر إلى مهاجري الحبشة، ولكن في صورة تختلف تمامًا عن صورته الحقيقية، بلغهم أن قريشًا أسلمت، فرجعوا إلى مكة في شوال من نفس السنة، فلما كانوا دون مكة ساعة من نهار وعرفوا جلية الأمر رجع منهم من رجع إلى الحبشة، ولم يدخل في مكة من سائرهم أحد إلا مستخفيًا، أو في جوار رجل من قريش.
ثم اشتد عليهم وعلى المسلمين البلاء والعذاب من قريش، وسطت بهم عشائرهم، فقد كان صعب على قريش ما بلغها عن النجاشي من حسن الجوار، ولم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم بدا من أن يشير على أصحابه بالهجرة إلى الحبشة مرة أخرى.
*الهجرة الثانية إلى الحبشة :
واستعد المسلمون للهجرة مرة أخرى، وعلى نطاق أوسع، ولكن كانت هذه الهجرة الثانية أشق من سابقتها، فقد تيقظت لها قريش وقررت إحباطها، بيد أن المسلمين كانوا أسرع، ويسر الله لهم السفر، فانحازوا إلى نجاشي الحبشة قبل أن يدركوا.
وفي هذه المرة هاجر من الرجال ثلاثة وثمانون رجلًا إن كان فيهم عمار، فإنه يشك فيه، وثماني عشرة أوتسع عشرة امرأة.
*مكيدة قريش بمهاجري الحبشة :
عز على المشركين أن يجد المهاجرون مأمنا لأنفسهم ودينهم، فاختاروا رجلين جلدين لبيبين، وهما: عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة ـ قبل أن يسلما ـ وأرسلوا معهما الهدايا المستطرفة للنجاشي ولبطارقته، وبعد أن ساق الرجلان تلك الهدايا إلى البطارقة، وزوداهم بالحجج التي يطرد بها أولئك المسلمون، وبعد أن اتفقت البطارقة أن يشيروا على النجاشي بإقصائهم، حضرا إلى النجاشي، وقدما له الهديا ثم كلماه فقالا له:
أيها الملك، إنه قد ضَوَى إلى بلدك غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم؛ لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عينًا، وأعلم بما عابوا عليهم، وعاتبوهم فيه.
ولكن رأي النجاشي أنه لا بد من تمحيص القضية، وسماع أطرافها جميعًا. فأرسل إلى المسلمين، ودعاهم، فحضروا، وكانوا قد أجمعوا على الصدق كائنًا ما كان. فقال لهم النجاشي: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا به في دينى ولا دين أحد من هذه الملل ؟
قال جعفر بن أبي طالب ـ وكان هو المتكلم عن المسلمين: أيها الملك كنا قومًا أهل جاهلية؛ نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتى الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسىء الجوار، ويأكل منا القوى الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولًا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم،وقذف المحصنات،وأمرنا أن نعبد الله وحده،لا نشرك به شيئًا،وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام ـ فعدد عليه أمور الإسلام ـ فصدقناه، وآمنا به، واتبعناه على ما جاءنا به من دين الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئًا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا؛ ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك.
فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ فقال له جعفر: نعم. فقال له النجاشي: فاقرأه على، فقرأ عليه صدرًا من: {كهيعص} فبكى والله النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخْضَلُوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال لهم النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما، ولا يكادون ـ يخاطب عمرو بن العاص وصاحبه ـ فخرجا، فلما خرجا قال عمرو بن العاص لعبد الله بن أبي ربيعة: والله لآتينه غدًا عنهم بما أستأصل به خضراءهم. فقال له عبد الله بن أبي ربيعة: لا تفعل، فإن لهم أرحامًا وإن كانوا قد خالفونا، ولكن أصر عمرو على رأيه.
فلما كان الغد قال للنجاشي: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولًا عظيمًا، فأرسل إليهم النجاشي يسألهم عن قولهم في المسيح ففزعوا، ولكن أجمعوا على الصدق، كائنًا ما كان، فلما دخلوا عليه وسألهم، قال له جعفر: نقول فيه الذي جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البَتُول.
فأخذ النجاشي عودًا من الأرض ثم قال: والله ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود، فتناخرت بطارقته، فقال: وإن نَخَرْتُم والله.
ثم قال للمسلمين: اذهبوا فأنتم شُيُومٌ بأرضي ـ والشيوم: الآمنون بلسان الحبشة ـ من سَبَّكم غَرِم، من سبكم غرم، من سبكم غرم، ما أحب أن لى دَبْرًا من ذهب وإني آذيت رجلًا منكم ـ والدبر: الجبل بلسان الحبشة.
ثم قال لحاشيته: ردّوا عليهما هداياهما فلا حاجة لى بها، فوالله ما أخذ الله منـي الرشـوة حين رد علي ملكي، فآخذ الرشـوة فيــه، وما أطاع الناس في فأطيعـهم فيه.
قالت أم سلمة التي تروى هذه القصة: فخرجا من عنده مقبوحين مردودًا عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار.
هذه رواية ابن إسحاق، وذكر غيره أن وفادة عمرو بن العاص إلى النجاشي كانت بعد بدر، وجمع بعضهم بأن الوفادة كانت مرتين. ولكن الأسئلة والأجوبة التي ذكروا أنها دارت بين النجاشي وبين جعفر بن أبي طالب في الوفادة الثانية هي نفس الأسئلة والأجوبة التي ذكرها ابن إسحاق هنا، ثم إن تلك الأسئلة تدل بفحواها أنها كانت في أول مرافعة قدمت إلى النجاشي.
*الشدة في التعذيب ومحاولة القضاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم : ولما أخفق المشركون في مكيدتهم، وفشلوا في استرداد المهاجرين استشاطوا غضبًا، وكادوا يتميزون غيظًا، فاشتدت ضراوتهم وانقضوا على بقية المسلمين، ومدوا أيديهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسوء، وظهرت منهم تصرفات تدل على أنهم أرادوا القضاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليستأصلوا جذور الفتنة التي أقضت مضاجعهم، حسب زعمهم.
أما بالنسبة للمسلمين فإن الباقين منهم في مكة كانوا قليلين جدًا، وكانوا إما ذوى شرف ومنعة، أو محتمين بجوار أحد، ومع ذلك كانوا يخفون إسلامهم ويبتعدون عن أعين الطغاة بقدر الإمكان، ولكنهم مع هذه الحيطة والحذر لم يسلموا كل السلامة من الأذى والخسف والجور.
وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان يصلى ويعبد الله أمام أعين الطغاة، ويدعو إلى الله سرًا وجهرًا لا يمنعه عن ذلك مانع، ولا يصرفه عنه شيء؛ إذ كان ذلك من جملة تبليغ رسالة الله منذ أمره الله سبحانه وتعالى بقوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:94]، وبذلك كان يمكن للمشركين أن يتعرضوا له إذا أرادوا، ولم يكن في الظاهر ما يحول بينهم وبين ما يريدون إلا ما كان له صلى الله عليه وسلم من الحشمة والوقار، وما كان لأبي طالب من الذمة والاحترام، وما كانوا يخافونه من مغبة سوء تصرفاتهم، ومن اجتماع بني هاشم عليهم،
موضوع: رد: }}{{ السيرة النبوية }}{{ كاملة ــ بدءًا من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسلم 16/5/2012, 3:39 pm
* إسلام حمزة رضي الله عنه :
خلال هذا الجو الملبد بغيوم الظلم والعدوان ظهر برق أضاء الطريق، وهو إسلام حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه أسلم في أواخر السنة السادسة من النبوة، والأغلب أنه أسلم في شهر ذى الحجة.
وسبب إسلامه: أن أبا جهل مر برسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا عند الصفا فآذاه ونال منه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لا يكلمه، ثم ضربه أبو جهل بحجر في رأسه فَشَجَّهُ حتى نزف منه الدم، ثم انصرف عنه إلى نادى قريش عند الكعبة، فجلس معهم، وكانت مولاة لعبد الله بن جُدْعَان في مسكن لها على الصفا ترى ذلك، وأقبل حمزة من القَنَص مُتَوَشِّحًا قوسه، فأخبرته المولاة بما رأت من أبي جهل، فغضب حمزة ـ وكان أعز فتى في قريش وأشده شكيمة ـ فخرج يسعى، لم يقف لأحد؛ معدًا لأبي جهل إذا لقيه أن يوقع به، فلما دخل المسجد قام على رأسه، وقال له: يا مُصَفِّرَ اسْتَه، تشتم ابن أخي وأنا على دينه ؟ ثم ضربه بالقوس فشجه شجة منكرة، فثار رجال من بني مخزوم ـ حى أبي جهل ـ وثار بنو هاشم ـ حي حمزة ـ فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة، فإني سببت ابن أخيه سبًا قبيحًا.
وكان إسلام حمزة أول الأمر أنفة رجل، أبي أن يهان مولاه، ثم شرح الله صدره فاستمسك بالعروة الوثقى، واعتز به المسلمون أيما اعتزاز.
* إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
وخلال هذا الجو الملبد بغيوم الظلم والعدوان أضاء برق آخر أشد بريقًا وإضاءة من الأول، ألا وهو إسلام عمر بن الخطاب، أسلم في ذى الحجـة سـنة سـت مـن النبـوة. بعد ثلاثة أيام من إسلام حمزة رضي الله عنه وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا الله تعالى لإسلامه. فقد أخرج الترمذى عن ابن عمر، وصححه، وأخرج الطبراني عن ابن مسعود وأنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللّهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك: بعمر بن الخطاب أو بأبي جهل بن هشام) فكان أحبهما إلى الله عمر رضي الله عنه.
وبعد إدارة النظر في جميع الروايات التي رويت في إسلامه يبدو أن نزول الإسلام في قلبه كان تدريجيًا، ولكن قبل أن نسوق خلاصتها نرى أن نشير إلى ما كان يتمتع به رضي الله عنه من العواطف والمشاعر.
كان رضي الله عنه معروفًا بحدة الطبع وقوة الشكيمة، وطالما لقى المسلمون منه ألوان الأذى، والظاهر أنه كانت تصطرع في نفسه مشاعر متناقضة؛ احترامه للتقاليد التي سنها الآباء والأجداد وتحمسه لها، ثم إعجابه بصلابة المسلمين، وباحتمالهم البلاء في سبيل العقيدة، ثم الشكوك التي كانت تساوره ـ كأي عاقل ـ في أن ما يدعو إليه الإسلام قد يكون أجل وأزكى من غيره، ولهذا ما إن يَثُور حتى يَخُور.
وخلاصة الروايات ـ مع الجمع بينها ـ في إسلامه رضي الله عنه: أنه التجأ ليلة إلى المبيت خارج بيته، فجاء إلى الحرم، ودخل في ستر الكعبة، والنبي صلى الله عليه وسلم قائم يصلي، وقد استفتح سورة {الْحَاقَّةُ}،فجعل عمر يستمع إلى القرآن، ويعجب من تأليفه، قال: فقلت ـ أي في نفسي: هذا والله شاعر، كما قالت قريش، قال: فقرأ {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة:40، 41] قال: قلت: كاهن. قال:{ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} إلى آخر السورة [الحاقة:42، 43] . قال: فوقع الإسلام في قلبي.
كان هذا أول وقوع نواة الإسلام في قلبه، لكن كانت قشرة النزعات الجاهلية، وعصبية التقليد، والتعاظم بدين الآباء هي غالبـة على مخ الحقيقة التي كان يتهمس بها قلبه، فبقى مجدًا في عمله ضد الإسلام غير مكترث بالشعور الذي يكمن وراء هذه القشرة.
وكان من حدة طبعه وفرط عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خرج يومًا متوشحًا سيفه يريد القضاء على النبي صلى الله عليه وسلم، فلقيه نعيم بن عبد الله النحام العدوي، أو رجل من بني زهرة، أو رجل من بني مخزوم فقال: أين تعمد يا عمر؟ قال: أريد أن أقتل محمدًا. قال: كيف تأمن من بني هاشم ومن بني زهرة وقد قتلت محمدًا؟ فقال له عمر: ما أراك إلا قد صبوت، وتركت دينك الذي كنت عليه، قال: أفلا أدلك على العجب يا عمر! إن أختك وخَتَنَكَ قد صبوا، وتركا دينك الذي أنت عليه، فمشى عمر دامرًا حتى أتاهما، وعندهما خباب بن الأرت، معه صحيفة فيها: [طه] يقرئهما إياها ـ وكان يختلف إليهما ويقرئهما القرآن ـ فلما سمع خباب حس عمر توارى في البيت، وسترت فاطمة ـ أخت عمر ـ الصحيفة. وكان قد سمع عمر حين دنا من البيت قراءة خباب إليهما، فلما دخل عليهما قال: ما هذه الهينمة التي سمعتها عندكم؟ فقالا: ما عدا حديثًا تحدثناه بيننا. قال: فلعلكما قد صبوتما. فقال له ختنه: يا عمر، أرأيت إن كان الحق في غير دينك؟ فوثب عمر على ختنه فوطئه وطأ شديدًا. فجاءت أخته فرفعته عن زوجها، فنفحها نفحة بيده، فدمى وجهها ـ وفي رواية ابن إسحاق أنه ضربها فشجها ـ فقالت، وهي غضبى: يا عمر، إن كان الحق في غير دينك، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله.
فلما يئس عمر، ورأي ما بأخته من الدم ندم واستحيا، وقال: أعطونى هذا الكتاب الذي عندكم فأقرؤه، فقالت أخته: إنك رجس، ولا يمسه إلا المطهرون، فقم فاغتسل، فقام فاغتسل، ثم أخذ الكتاب، فقرأ: {بسم الله الرحمن الرحيم} فقال: أسماء طيبة طاهرة. ثم قرأ [طه] حتى انتهي إلى قوله: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] فقال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه؟ دلوني على محمد.
فلما سمع خباب قول عمر خرج من البيت، فقال: أبشر يا عمر، فإني أرجو أن تكون دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لك ليلة الخميس: (اللّهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب أو بأبي جهل بن هشام)، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الدار التي في أصل الصفا.
فأخذ عمر سيفه، فتوشحه، ثم انطلق حتى أتى الدار، فضرب الباب، فقام رجل ينظر من خلل الباب، فرآه متوشحًا السيف، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستجمع القوم، فقال لهم حمزة: ما لكم ؟ قالوا: عمر؟ فقال: وعمر؟ افتحوا له الباب، فإن كان جاء يريد خيرًا بذلناه له، وإن كان جاء يريد شرًا قتلناه بسيفه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم داخل يوحى إليه، فخرج إلى عمر حتى لقيه في الحجرة، فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل السيف، ثم جبذه جبذة شديدة فقال: (أما أنت منتهيًا يا عمر حتى ينزل الله بك من الخزى والنكال ما نزل بالوليد بن المغيرة؟ اللهم، هذا عمر بن الخطاب، اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب)، فقال عمر: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله. وأسلم، فكبر أهل الدار تكبيرة سمعها أهل المسجد.
كان عمر رضي الله عنه ذا شكيمة لا يرام، وقد أثار إسلامه ضجة بين المشركين، وشعورا لهم بالذلة والهوان، وكسا المسلمين عزة وشرفًا وسرورًا.
روى ابن إسحاق بسنده عن عمر قال: لما أسلمت تذكرت أي أهل مكة أشد لرسول الله صلى الله عليه وسلم عداوة، قال: قلت: أبو جهل، فأتيت حتى ضربت عليه بابه، فخرج إلىّ، وقال: أهلًا وسهلًا، ما جاء بك؟ قال: جئت لأخبرك إني قد آمنت بالله وبرسوله محمد، وصدقت بما جاء به. قال: فضرب الباب في وجهي، وقال: قبحك الله، وقبح ما جئت به.
وذكر ابن الجوزي أن عمر رضي الله عنه قال: كان الرجل إذا أسلم تعلق به الرجال، فيضربونه ويضربهم، فجئت ـ أي حين أسلمت ـ إلى خالى ـ وهو العاصى بن هاشم ـ فأعلمته فدخل البيت، قال: وذهبت إلى رجل من كبراء قريش ـ لعله أبو جهل ـ فأعلمته فدخل البيت.
وفي رواية لابن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر قال: لما أسلم عمر بن الخطاب لم تعلم قريش بإسلامه، فقال: أي أهل مكة أنشأ للحديث؟ فقالوا: جميل بن معمر الجمحى. فخرج إليه وأنا معه، أعقل ما أرى وأسمع، فأتاه، فقال: ياجميل، إني قد أسلمت، قال: فو الله ما رد عليه كلمة حتى قام عامدًا إلى المسجد فنادى [بأعلى صوته] أن: يا قريش، إن ابن الخطاب قد صبأ. فقال عمر ـ وهو خلفه: كذب، ولكنى قد أسلمت [وآمنت بالله وصدقت رسوله]، فثاروا إليه فما زال يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رءوسهم، وطَلَح ـ أي أعيا ـ عمر، فقعد، وقاموا على رأسه، وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم، فأحلف بالله أن لو كنا ثلاثمائة رجل لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا.
وبعد ذلك زحف المشركون إلى بيته يريدون قتله.روى البخاري عن عبد الله بن عمر قال:بينما هو ـ أي عمر ـ في الدار خائفًا إذ جاءه العاص بن وائل السهمى أبو عمرو،وعليه حلة حبرة وقميص مكفوف بحرير ـ وهو من بني سهم، وهم حلفاؤنا في الجاهلية ـ فقال له: ما لك؟ قال: زعم قومك أنهم سيقتلوني إن أسلمت، قال: لا سبيل إليك ـ بعد أن قالها أمنت ـ فخرج العاص، فلقى الناس قد سال بهم الوادي، فقال: أين تريدون؟ فقالوا: هذا ابن الخطاب الذي قد صبأ، قال: لا سبيل إليه، فَكَرَّ الناس. وفي لفظ في رواية ابن إسحاق: والله، لكأنما كانوا ثوبًا كُشِطَ عنه.
هذا بالنسبة إلى المشركين، أما بالنسبة إلى المسلمين فروى مجاهد عن ابن عباس قال: سألت عمر بن الخطاب: لأي شيء سميت الفاروق؟ قال: أسلم حمزة قبلى بثلاثة أيام ـ ثم قص عليه قصة إسلامه. وقال في آخره: قلت ـ أي حين أسلمت: يا رسول الله، ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا؟ قال: (بلى، والذي نفسي بيده، إنكم على الحق وإن متم وإن حييتم)، قال: قلت: ففيم الاختفاء؟ والذي بعثك بالحق لنخرجن، فأخرجناه في صفين، حمزة في أحدهما، وأنا في الآخر، له كديد ككديد الطحين، حتى دخلنا المسجد، قال: فنظرت إلىّ قريش وإلى حمزة، فأصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها، فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم (الفاروق) يومئذ.
وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: ما كنا نقدر أن نصلى عند الكعبة حتى أسلم عمر.
وعن صهيب بن سنان الرومى رضي الله عنه قال: لما أسلم عمر ظهر الإسلام، ودعى إليه علانية، وجلسنا حول البيت حلقًا، وطفنا بالبيت، وانتصفنا ممن غلظ علينا، ورددنا عليه بعض ما يأتى به.
وعن عبد الله بن مسعود قال: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر.
* ممثل قريش بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم :
وبعد إسلام هذين البطلين الجليلين ـ حمزة بن عبد المطلب وعمـر بن الخطاب رضي الله عنهما أخذت السحائب تتقشع، وأفاق المشركون عن سكرهم في تنكيلهم بالمسلمين، وغيروا تفكيرهم في معاملتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، واختاروا أسلوب المساومات وتقديم الرغائب والمغريات، ولم يدر هؤلاء المساكين أن كل ما تطلع عليه الشمس لا يساوي جناح بعوضة أمام دين الله والدعوة إليه، فخابوا وفشلوا فيما أرادوا.
قال ابن إسحاق: حدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظى قال: حدثت أن عتبة بن ربيعة، وكان سيدًا، قال يومًا ـ وهو في نادى قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورًا لعله يقبل بعضها، فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟ وذلك حين أسلم حمزة رضي الله عنه ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثرون ويزيدون، فقالوا: بلى، يا أبا الوليد، قم إليه، فكلمه، فقام إليه عتبة،حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السِّطَةِ في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع منى أعرض عليك أمورًا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها. قال: فقال رسول صلى الله عليه وسلم: (قل يا أبا الوليد أسمع).
قال: يابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالًا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالًا، وإن كنت تريد به شرفًا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد به ملكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيًا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه ـ أو كما قال له ـ حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه قال: (أقد فرغت يا أبا الوليد؟) قال: نعم، قال: (فاسمع منى)، قال:أفعل، فقال: { بسم الله الرحمن الرحيم حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت:1: 5]. ثم مضى رسول الله فيها، يقرؤها عليه. فلما سمعها منه عتبة أنصت له، وألقى يديه خلف ظهره معتمدًا عليهما، يسمع منه، ثم انتهي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد ثم قال: (قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك).
فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني سمعت قولًا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعونى واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم.
وفي روايات أخرى: أن عتبة استمع حتى إذا بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13] قال: حسبك، حسبك، ووضع يده على فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وناشده بالرحم أن يكف، وذلك مخافة أن يقع النذير، ثم قام إلى القوم فقال ما قال.
*رؤساء قريش يفاوضون رسول الله صلى الله عليه وسلم :
وكأن رجاء قريش لم ينقطع بما أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم عتبة على اقتراحاته؛ لأنه لم يكن صريحًا في الرفض أو القبول، بل تلا عليه النبي صلى الله عليه وسلم آيات لم يفهمها عتبة، ورجع من حيث جاء، فتشاور رؤساء قريش فيما بينهم وفكروا في كل جوانب القضية، ودرسوا كل المواقف بروية وتريث، ثم اجتمعوا يومًا عند ظهر الكعبة بعد غروب الشمس، وأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يدعونه، فجاء مسرعًا يرجو خيرًا، فلما جلس إليهم قالوا له مثل ما قال عتبة، وعرضوا عليه نفس المطالب التي عرضها عتبة. وكأنهم ظنوا أنه لم يثق بجدية هذا العرض حين عرض عتبة وحده، فإذا عرضوا هم أجمعون يثق ويقبل، ولكن قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما بي ما تَقُولُون، ما جِئْتُكُم بما جِئْتُكُم بِه أَطْلُب أَمْوَالكُم ولا الشَّرف فيكم، ولا المُلْكَ عليكم، ولكنّ الله بَعَثَنِى إلَيْكُم رَسُولًا، وَ أَنْزَلَ علىَّ كِتابًا، وأَمَرَنِى أنْ أَكُونَ لَكُم بَشِيرًا وَنَذِيرًا، فَبَلَّغْتُكُم رِسَالاتِ ربي، وَنَصَحْتُ لَكُمْ، فإِنْ تَقْبَلُوا مِنّى ما جِئْتُكُم بِه فَهُوَ حَظُّكُم في الدُنيا والآخرة، وإنْ تَرُدُّوا علىّ أَصْبِر لأمْرِ الله ِ حتّى يَحْكُم الله ُ بَيْنِى وَ بَيْـنَكُم). أو كما قال.
فانتقلوا إلى نقطة أخرى، وطلبوا منه أن يسأل ربه أن يسير عنهم الجبال، ويبسط لهم البلاد، ويفجر فيها الأنهار، ويحيى لهم الموتى ـ ولا سيما قصى بن كلاب ـ فإن صدقوه يؤمنون به. فأجاب بنفس ما سبق من الجواب.
فانتقلوا إلى نقطة ثالثة، وطلبوا منه أن يسأل ربه أن يبعث له ملكًا يصدقه، ويراجعونه فيه، وأن يجعل له جنات وكنوزًا وقصورًا من ذهب وفضة، فأجابهم بنفس الجواب.
فانتقلوا إلى نقطة رابعة، وطلبوا منه العذاب: أن يسقط عليهم السماء كسفًا، كما يقول ويتوعد، فقال: (ذلك إلى الله، إن شاء فعل). فقالوا: أما علم ربك أنا سنجلس معك، ونسألك ونطلب منك، حتى يعلمك ما تراجعنا به، وما هو صانع بنا إذا لم نقبل.
وأخيرًا هددوه أشد التهديد، وقالوا:أما والله لا نتركك وما فعلت بنا حتى نهلكك أو تهلكنا، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، وانصرف إلى أهله حزينًا أسفا لما فاته ما طمع من قومه.
*عزم أبي جهل على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ولما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم خاطبهم أبو جهل في كبريائه وقال: يا معشر قريش، إن محمدًا قد أبي إلا ما ترون من عيب ديننا، وشتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وشتم آلهتنا، وأني أعاهد الله لأجلسن له بحجر ما أطيق حمله، فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه، فأسلمونى عند ذلك أو امنعونى، فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم، قالوا: والله لا نسلمك لشيء أبدًا، فامض لما تريد.
فلما أصبح أبو جهل، أخذ حجرًا كما وصف، ثم جلس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظره، وغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يغدو، فقام يصلي، وقد غدت قريش فجلسوا في أنديتهم ينتظرون ما أبو جهل فاعل، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم احتمل أبو جهل الحجر، ثم أقبل نحوه، حتى إذا دنا منه رجع منهزمًا ممتقعًا لونه، مرعوبًا قد يبست يداه على حجره، حتى قذف الحجر من يده، وقامت إليه رجال قريش فقالوا له: ما لك يا أبا الحكم؟ قال: قمت إليه لأفعل به ما قلت لكم البارحة، فلما دنوت منه عرض لى دونه فَحْلٌ من الإبل، لا والله ما رأيت مثل هَامَتِه، ولا مثل قَصَرَتِه ولا أنيابه لفحل قط، فَهَمَّ بى أن يأكلنى.
قال ابن إسحاق: فذكر لى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ذلك جبريل عليه السلام لو دنا لأخذه)
*مساومات وتنازلات :
ولما فشلت قريش في مفاوضتهم المبنية على الإغراء والترغيب، والتهديد والترهيب، وخاب أبو جهل فيما أبداه من الرعونة وقصد الفتك، تيقظت فيهم رغبة الوصول إلى حل حصيف ينقذهم عما هم فيه، ولم يكونوا يجزمون أن النبي صلى الله عليه وسلم على باطل، بل كانوا ـ كما قال الله تعالى {لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} [الشورى:14]. فرأوا أن يساوموه صلى الله عليه وسلم في أمور الدين، ويلتقوا به في منتصف الطريق، فيتركوا بعض ما هم عليه، ويطالبوا النبي صلى الله عليه وسلم بترك بعض ما هو عليه، وظنوا أنهم بهذا الطريق سيصيبون الحق، إن كان ما يدعو إليه النبي صلى الله عليه وسلم حقًا.
روى ابن إسحاق بسنده، قال: اعترض رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهو يطوف بالكعبة ـ الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى والوليد بن المغيرة وأمية بن خلف والعاص بن وائل السهمى ـ وكانوا ذوى أسنان في قومهم ـ فقالوا: يا محمد، هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي تعبد خيرًا مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه، وإن كان ما نعبد خيرًا مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه، فأنزل الله تعالى فيهم: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} السورة كلها.
وأخرج عَبْدُ بن حُمَـيْد وغيره عن ابن عباس أن قريشًا قالت: لو استلمت آلهتنا لعبدنا إلهك. فأنزل الله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} السورة كلها وأخرج ابن جرير وغيره عنه أن قريشًا قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: تعبد آلهتنا سنة، ونعبد إلهك سنة،فأنزل الله:{قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر:64]
ولما حسم الله تعالى هذه المفاوضة المضحكة بهذه المفاصلة الجازمة لم تيأس قريش كل اليأس، بل أبدوا مزيدًا من التنازل بشرط أن يجرى النبي صلى الله عليه وسلم بعض التعديل فيما جاء به من التعليمات، فقالوا: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَا أَوْ بَدِّلْهُ}، فقطع الله هذا السبيل أيضًا بإنزال ما يرد به النبي صلى الله عليه وسلم عليهم فقال: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [يونس:15] ونبه على عظم خطورة هذا العمل بقوله:{ وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} [الإسراء:73: 75].
حيرة قريش وتفكيرهم الجاد واتصالهم باليهود
أظلمت أمام المشركين السبل بعد فشلهم في هذه المفاوضات والمساومات والتنازلات، واحتاروا فيما يفعلون، حتى قام أحد شياطينهم: النضر بن الحارث، فنصحهم قائلًا: يا معشر قريش، والله لقد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد، قد كان محمد فيكم غلامًا حدثًا أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثًا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب، و جاءكم بما جاءكم به، قلتم: ساحر، لا والله ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة ونَفْثَهم وعَقْدَهم، وقلتم: كاهن، لا والله ما هو بكاهن، قد رأينا الكهنة وتَخَالُجَهم وسمعنا سَجَعَهُم، وقلتم: شاعر، لا والله ما هو بشاعر، قد رأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها هَزَجَه ورَجَزَه، وقلتم: مجنون، لا والله ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون، فما هو بخنقه، ولا وسوسته، ولا تخليطه، يا معشر قريش، فانظروا في شأنكم، فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم.
وكأنهم لما رأوا صموده صلى الله عليه وسلم في وجه كل التحديات، ورفضه كل المغريات، وصلابته في كل مرحلة ـ مع ما كان يتمتع به من الصدق والعفاف ومكارم الأخلاق ـ قويت شبهتهم في كونه رسولًا حقًا، فقرروا أن يتصلوا باليهود حتى يتأكدوا من أمره صلى الله عليه وسلم، فلما نصحهم النضر بن الحارث بما سبق كلفوه مع آخر أو آخرين ليذهب إلى يهود المدينة، فأتاهم فقال أحبارهم: سلوه عن ثلاث، فإن أخبر فهو نبى مرسل، وإلا فهو متقول؛ سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول،ما كان أمرهم؟ فإن لهم حديثًا عجبًا ، وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الروح، ما هي؟
فلما قدم مكة قال: جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، وأخبرهم بما قاله اليهود، فسألت قريش رسول صلى الله عليه وسلم عن الأمور الثلاثة، فنزلت بعد أيام سورة الكهف، فيها قصة أولئك الفتية، وهم أصحاب الكهف، وقصة الرجل الطواف، وهو ذو القرنين، ونزل الجواب عن الروح في سورة الإسراء. وتبين لقريش أنه صلى الله عليه وسلم على حق وصدق، ولكن أبي الظالمون إلا كفورًا.
هذه نبذة خفيفة مما واجه به المشركون دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد مارسوا كل ذلك جنبا إلى جنب، متنقلين من طور إلى طور، ومن دور إلى دور. فمن شدة إلى لين، ومن لين إلى شدة، ومن جدال إلى مساومة، ومن مساومة إلى جدال، ومن تهديد إلى ترغيب، ومن ترغيب إلى تهديد، كانوا يثورون ثم يخورون، ويجادلون ثم يجاملون، وينازلون ثم يتنازلون، ويوعدون ثم يرغبون، كأنهم كانوا يتقدمون ويتأخرون، لا يقر لهم قرار، ولا يعجبهم الفرار، وكان الغرض من كل ذلك هو إحباط الدعوة الإسلامية، ولَمَّ شَعْثِ الكفر، ولكنهم بعد بذل كل الجهود واختبار كل الحيل عادوا خائبين، ولم يبق أمامهم إلا السيف، والسيف لا يزيد الفرقة إلا شدة، ولا ينتج إلا عن تناحر يستأصل الشأفة، فاحتاروا ماذا يفعلون.
*موقف أبي طالب وعشيرته :
أما أبو طالب فإنه لما واجه مطالبة قريش بتسليم النبي صلى الله عليه وسلم لهم ليقتلوه، ثم رأي في تحركاتهم وتصرفاتهم ما يؤكد أنهم يريدون قتله وإخفار ذمته ـ مثل ما فعله عقبة بن أبي معيط، وأبو جهل بن هشام وعمر بن الخطاب ـ جمع بني هاشم وبني المطلب، ودعاهم إلى القيام بحفظ النبي صلى الله عليه وسلم، فأجابوه إلى ذلك كلهم ـ مسلمهم وكافرهم ـ حَمِيَّةً للجوار العربي، وتعاقدوا وتعاهدوا عليه عند الكعبة. إلا ما كان من أخيه أبي لهب، فإنه فارقهم، وكان مع قريش.
المقاطعة العامة
*ميثاق الظلم والعدوان :
زادت حيرة المشركين إذ نفدت بهم الحيل، ووجدوا بني هاشم وبني المطلب مصممين على حفظ نبى الله صلى الله عليه وسلم والقيام دونه، كائنًا ما كان، فاجتمعوا في خيف بني كنانة من وادى المُحَصَّبِ فتحالفوا على بني هاشم وبني المطلب ألا يناكحوهم، ولا يبايعوهم، ولا يجالسوهم، ولا يخالطوهم، ولا يدخلوا بيوتهم، ولا يكلموهم، حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للقـتل، وكتـبوا بذلك صحيـفـة فيها عهود ومواثيق (ألا يقبلوا من بني هاشم صلحًا أبدًا، ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل). قال ابن القيم: يقال: كتبها منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم، ويقال: نضر بن الحارث، والصحيح أنه بَغِيض بن عامر بن هاشم، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فَشُلَّتْ يده.
تم هذا الميثاق وعلقت الصحيفة في جوف الكعبة، فانحاز بنو هاشم وبنو المطلب، مؤمنهم وكافرهم ـ إلا أبا لهب ـ وحبسوا في شعب أبي طالب، وذلك فيما يقال: ليلة هلال المحرم سنة سبع من البعثة. وقد قيل غير ذلك.
*ثلاثة أعوام في شعب أبي طالب :
واشتد الحصار، وقطعت عنهم الميرة والمادة، فلم يكن المشركون يتركون طعامًا يدخل مكة ولا بيعًا إلا بادروه فاشتروه، حتى بلغهم الجهد، والتجأوا إلى أكل الأوراق والجلود، وحتى كان يسمع من وراء الشعب أصوات نسائهم وصبيانهم يتضاغون من الجوع، وكان لا يصل إليهم شيء إلا سرًا، وكانوا لا يخرجون من الشعب لاشتراء الحوائج إلا في الأشهر الحرم، وكانوا يشترون من العير التي ترد مكة من خارجها، ولكن أهل مكة كانوا يزيدون عليهم في السلعة قيمتها حتى لا يستطيعون شراءها.
وكان حكيم بن حزام ربما يحمل قمحًا إلى عمته خديجة رضي الله عنها وقـد تعـرض لـه مرة أبو جهل فتعلق به ليمنعه، فتدخل بينهما أبو البخترى، ومكنه من حمل القمح إلى عمته.
وكان أبو طالب يخاف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان إذا أخذ الناس مضاجعهم يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضطجع على فراشه، حتى يرى ذلك من أراد اغتياله، فإذا نام الناس أمر أحد بنيه أو إخوانه أو بني عمه فاضطجع على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يأتى بعض فرشهم.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يخرجون في أيام الموسم، فيلقون الناس، ويدعونهم إلى الإسلام، وقد أسلفنا ما كان يأتى به أبو لهب.
*نقض صحيفة الميثاق
مر عامان أو ثلاثة أعوام والأمر على ذلك، وفي المحرم سنة عشر من النبوة نقضت الصحيفة وفك الحصار؛ وذلك أن قريشًا كانوا بين راض بهذا الميثاق وكاره له، فسعى في نقض الصحيفة من كان كارهًا لها.
وكان القائم بذلك هشام بن عمرو من بني عامر بن لؤى ـ وكان يصل بني هاشم في الشعب مستخفيًا بالليل بالطعام ـ فإنه ذهب إلى زهير بن أبي أمية المخزومى ـ وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب ـ وقال: يا زهير، أرضيت أن تأكل الطعام، وتشرب الشراب، وأخوالك بحيث تعلم؟ فقال: ويحك، فما أصنع وأنا رجل واحد؟ أما والله لو كان معى رجل آخر لقمت في نقضها، قال: قد وجدت رجلًا. قال: فمن هو؟ قال: أنا. قال له زهير: ابغنا رجلًا ثالثًا.
فذهب إلى المطعم بن عدى، فذكره أرحام بني هاشم وبني المطلب ابني عبد مناف، ولامه على موافقته لقريش على هذا الظلم، فقال المطعم: ويحك، ماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد، قال: قد وجدت ثانيًا، قال: من هو؟ قال: أنا. قال: ابغنا ثالثًا. قال: قد فعلت. قال: من هو؟ قال: زهير بن أبي أمية، قال: ابغنا رابعًا.
فذهب إلى أبي البخترى بن هشام، فقال له نحوًا مما قال للمطعم، فقال: وهل من أحد يعين على هذا؟ قال: نعم. قال: من هو؟ قال زهير بن أبي أمية، والمطعم بن عدى، وأنا معك، قال: ابغنا خامسًا.
فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد، فكلمه وذكر له قرابتهم وحقهم، فقال له: وهل على هذا الأمر الذي تدعونى إليه من أحد؟ قال: نعم، ثم سمى له القوم، فاجتمعوا عند الحَجُون، وتعاقدوا على القيام بنقض الصحيفة، وقال زهير: أنا أبدأكم فأكون أول من يتكلم.
فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير عليه حلة، فطاف بالبيت سبعًا، ثم أقبل على الناس، فقال: يا أهل مكة، أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى، لا يباع ولا يبتاع منهم؟ والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة.
قال أبو جهل ـ وكان في ناحية المسجد: كذبت، والله لا تشق.
فقال زمعة بن الأسود: أنت والله أكذب، مارضينا كتابتها حيث كتبت.
قال أبو البخترى: صدق زمعة، لا نرضى ما كتب فيها، ولا نقر به.
قال المطعم بن عدى: صدقتما، وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى الله منها ومما كتب فيها.
وقال هشام بن عمرو نحوًا من ذلك.
فقال أبو جهل: هذا أمر قضى بليل، وتُشُووِر فيه بغير هذا المكان.
وأبو طالب جالس في ناحية المسجد، إنما جاءهم لأن الله كان قد أطلع رسوله صلى الله عليه وسلم على أمر الصحيفة، وأنه أرسل عليها الأرضة، فأكلت جميع ما فيها من جور وقطيعة وظلم إلا ذكر الله عز وجل، فأخبر بذلك عمه، فخرج إلى قريش فأخبرهم أن ابن أخيه قد قال كذا وكذا، فإن كان كاذبًا خلينا بينكم وبينه، وإن كان صادقًا رجعتم عن قطيعتنا وظلمنا، قالوا: قد أنصفت.
وبعد أن دار الكلام بين القوم وبين أبي جهل، قام المطعم إلى الصحيفة ليشقها، فوجد الأرضة قد أكلتها إلا (باسمك اللهم)، وما كان فيها من اسم الله فإنها لم تأكله.
ثم نقض الصحيفة وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الشعب، وقد رأي المشركون آية عظيمة من آيات نبوته، ولكنهم ـ كما أخبر الله عنهم {وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} [القمر:2] ـ أعرضوا عن هذه الآية وازدادوا كفرًا إلى كفرهم .
*آخر وفد قريش إلي أبي طالب :
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشعب، وجعل يعمل على شاكلته، وقريش وإن كانوا قد تركوا القطيعة، لكنهم لم يزالوا عاملين على شاكلتهم من الضغط على المسلمين والصد عن سبيل الله، وأما أبو طالب فهو لم يزل يحوط ابن أخيه، لكنه كان قد جاوز الثمانين من سنه، وكانت الآلام والحوادث الضخمة المتوالية منذ سنوات ـ لاسيما حصار الشعب ـ قد وهنت وضعفت مفاصله وكسرت صلبه، فلم يمض على خروجه من الشعب إلا أشهر معدودات، وإذا هو يلاحقه المرض ويلح به، وحينئذ خاف المشركون سوء سمعتهم في العرب إن أتوا بعد وفاته بمنكر على ابن أخيه، فحاولوا مرة أخرى أن يفاوضوا النبي صلى الله عليه وسلم بين يديه، ويعطوا بعض ما لم يرضوا إعطاءه قبل ذلك. فقاموا بوفادة هي آخر وفادتهم إلى أبي طالب.
قال ابن إسحاق وغيره: لما اشتكى أبو طالب، وبلغ قريشًا ثقله، قالت قريش بعضها لبعض: إن حمزة وعمر قد أسلما، وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها، فانطلقوا بنا إلى أبي طالب، فليأخذ على ابن أخيه، وليعطه منا، والله ما نأمن أن يبتزونا أمرنا، وفي لفظ: فإنا نخاف أن يموت هذا الشيخ فيكون إليه شيء فتعيرنا به العرب، يقولون: تركوه حتى إذا مات عمه تناولوه.
مشوا إلى أبي طالب فكلموه، وهم أشراف قومه؛ عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، وأبو سفيان بن حرب، في رجال من أشرافهم ـ وهم خمسة وعشرون تقريبًا ـ فقالوا: يا أبا طالب، إنك منا حيث قد علمت، وقد حضرك ما ترى، وتخوفنا عليك، وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك، فادعه فخذ له منا، وخذ لنا منه؛ ليكف عنا ونكف عنه، وليدعـنا وديننا وندعه ودينه، فبعث أبو طالب، فجاءه فقال: يابن أخي، هؤلاء أشراف قومك، قد اجتمعوا لك ليعطوك، وليأخذوا منك، ثم أخبـره بالذي قالوا له وعرضوا عليه من عدم تعرض كل فريق للآخر. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرأيتم إن أعطيتكم كلمة تكلمتم بها، ملكتم بها العرب، ودانت لكم بها العجم) ، وفي لفظ أنه قال مخاطبًا لأبي طالب: (إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها تدين لهم بها العرب، وتؤدى إليهم بها العجم الجزية)، وفي لفظ آخر قال: (أي عم، أفلا أدعوهم إلى ما هو خير لهم؟) قال: وإلام تدعوهم؟ قال: (أدعوهم إلى أن يتكلموا بكلمة تدين لهم بها العرب، ويملكون بها العجم)، ولفظ رواية ابن إسحاق: (كلمة واحدة تعطونها تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم)، فلما قال هذه المقالة توقفوا وتحيروا ولم يعرفوا كيف يرفضون هذه الكلمة الواحدة النافعة إلى هذه الغاية والحد. ثم قال أبو جهل: ما هي؟ وأبيك لنعطيكها وعشر أمثالها، قال: تقولون: (لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه). فصفقوا بأيديهم، ثم قالوا: أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلهًا واحدًا؟ إن أمرك لعجب.
ثم قال بعضهم لبعض: إنه والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئًا مما تريدون، فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم، حتى يحكم الله بينكم وبينه، ثم تفرقوا.
موضوع: رد: }}{{ السيرة النبوية }}{{ كاملة ــ بدءًا من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسلم 16/5/2012, 3:40 pm
عــام الحـــزن
*وفاة أبي طالب :
ألح المرض بأبي طالب، فلم يلبث أن وافته المنية، وكانت وفاته في رجب سنة عشر من النبوة، بعد الخروج من الشعب بستة أشهر. وقيل: توفي في رمضان قبل وفاة خديجة رضي الله عنها بثلاثة أيام.
وفي الصحيح عن المسيب: أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل، فقال: (أي عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله) فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب، ترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزالا يكلماه حتى قال آخر شيء كلمهم به: على ملة عبد المطلب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لأستغفرن لك ما لم أنه عنـه)، فـنزلت:{ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113] ونزلت: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56].
ولا حاجة إلى بيان ما كان عليه أبو طالب من الحياطة والمنع، فقد كان الحصن الذي احتمت به الدعوة الإسلامية من هجمات الكبراء والسفهاء، ولكنه بقى على ملة الأشياخ من أجداده، فلم يفلح كل الفلاح.
ففي الصحيح عن العباس بن عبد المطلب، قال للنبى صلى الله عليه وسلم: ما أغنيت عن عمك، فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: (هو في ضَحْضَاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار)
وعن أبي سعيد الخدرى أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم ـ وذكر عنده عمه ـ فقال: (لعله تنفعه شفاعتى يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من النار تبلغ كعبيه)
*خديجة إلى رحمة الله :
وبعد وفاة أبي طالب بنحو شهرين أو بثلاثة أيام ـ على اختلاف القولين ـ توفيت أم المؤمنين خديجة الكبرى رضي الله عنها وكانت وفاتها في شهر رمضان في السنة العاشرة من النبوة، ولها خمس وستون سنة على أشهر الأقوال، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذاك في الخمسين من عمره.
إن خديجة كانت من نعم الله الجليلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بقيت معه ربع قرن تحن عليه ساعة قلقه، وتؤازره في أحرج أوقاته، وتعينه على إبلاغ رسالته، وتشاركه في مغارم الجهاد المر،وتواسيه بنفسها ومالها، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (آمنت بى حين كفر بى الناس، وصدقتنى حين كذبني الناس، وأشركتنى في مالها حين حرمنى الناس، ورزقنى الله ولدها وحرم ولد غيرها)
وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: يا رسول الله، هـذه خديجة قـد أتت، معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فاقـرأ عليها السلام من ربها، وبشرها ببيت في الجنة من قَصَبٍ لا صَخَبَ فيه ولا نَصَبَ.
*تراكم الأحزان :
وكما اشتدت وطأة أهل مكة على النبي صلى الله عليه وسلم اشتدت على أصحابه حتى التجأ رفيقه أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى الهجرة عن مكة، فخرج حتى بلغ بَرْك الغِمَاد، يريد الحبشة، فأرجعه ابن الدُّغُنَّة في جواره. وقعت هاتان الحادثتان المؤلمتان خلال أيام معدودة، فاهتزت مشاعر الحزن والألم في قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لم تزل تتوالى عليه المصائب من قومه. فإنهم تجرأوا عليه وكاشفوه بالنكال والأذى بعد موت أبي طالب، فازداد غمًا على غم، حتى يئس منهم، وخرج إلى الطائف رجـاء أن يستجيبوا لدعوتـه، أو يؤووه وينصـروه على قومــه، فلم يـر مـن يؤوى ولم يـر ناصرًا، بل آذوه أشد الأذى، ونالوا منه ما لم ينله قومـه.
قال ابن إسحاق: لما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تطمع به في حياة أبي طالب، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه ترابًا، ودخل بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها: (لا تبكى يابنية، فإن الله مانع أباك). قال: ويقول بين ذلك: (ما نالت منى قريش شيئًا أكرهه حتى مات أبو طالب).
ولأجل توالى مثل هذه الآلام في هذا العام سمى بعام الحزن، وعرف به في السيرة والتاريخ.
*الزواج بسودة رضي الله عنها :
وفي شوال من هذه السنة ـ سنة 10 من النبوة ـ تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم سودة بنت زمعة، كانت ممن أسلم قديمًا وهاجرت الهجرة الثانية إلى الحبشة، وكان زوجها السكران بن عمرو، وكان قد أسلم وهاجر معها، فمات بأرض الحبشة، أو بعد الرجوع إلى مكة، فلما حلت خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوجها، وكانت أول امرأة تزوجها بعد وفاة خديجة، وكانت قد وهبت نوبتها لعائشة رضي الله عنها أخيرًا.
*عوامل الصبر والثبات :
وهنا يقف الحليم حيران، ويتساءل عقلاء الرجال فيما بينهم: ما هي الأسباب والعوامل التي بلغت بالمسلمين إلى هذه الغاية القصوى، والحد المعجز من الثبات؟ كيف صبروا على هذه الاضطهادات التي تقشعر لسماعها الجلود، وترجف لها الأفئدة؟ ونظرًا إلى هذا الذي يتخالج القلوب نرى أن نشير إلى بعض هذه العوامل والأسباب إشارة عابرة بسيطة:
1 ـ الإيمــان بالله:
إن السبب الرئيسي في ذلك أولًا وبالذات هو الإيمان بالله وحده ومعرفته حق المعرفة، فالإيمان الجازم إذا خالطت بشاشته القلوب يزن الجبال ولا يطيش، وإن صاحب هذا الإيمان المحكم وهذا اليقين الجازم يرى متاعب الدنيا مهما كثرت وكبرت وتفاقمت واشتدت ـ يراها في جنب إيمانه ـ طحالب عائمة فوق سَيْل جارف جاء ليكسر السدود المنيعة والقلاع الحصينة، فلا يبالى بشيء من تلك المتاعب أمام ما يجده من حلاوة إيمانه، وطراوة إذعانه، وبشاشة يقينه { فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد:17].
ويتفرع من هذا السبب الوحيد أسباب أخرى تقوى هذا الثبات والمصابرة وهي:
2 ـ قيادة تهوى إليها الأفئدة:
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ـ وهو القائد الأعلى للأمة الإسلامية، بل وللبشرية جمعاء ـ يتمتع من جمال الخلق، وكمال النفس، ومكارم الأخلاق، والشيم النبيلة، والشمائل الكريمة، بما تتجاذب إليه القلوب وتتفإني دونه النفوس، وكانت أنصبته من الكمال الذي يحبَّبُ لم يرزق بمثلها بشر. وكان على أعلى قمة من الشرف والنبل والخير والفضل. وكان من العفة والأمانة والصدق، ومن جميع سبل الخير على ما لم يتمار ولم يشك فيه أعداؤه فضلًا عن محبيه ورفقائه، لا تصدر منه كلمة إلا ويستيقنون صدقها.
اجتمع ثلاثة نفر من قريش، وكان قد استمع كل واحد منهم إلى القرآن سرًا عن صاحبيه، ثم انكشف سرهم، فسأل أحدهم أبا جهل ـ وكان من أولئك الثلاثة: ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف؛ أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب، وكنا كَفَرَسىْ رِهَان قالوا: لنا نبى يأتيه الوحى من السماء، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبدًا، ولا نصدقه.
وكان أبو جهل يقول: يا محمد، إنا لا نكذبك ولكن نكذب بما جئت به، فأنزل الله:{ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33].
وغمزه صلى الله عليه وسلم الكفار يومًا ثلاث مرات فقال في الثالثة: (يا معشر قريش، جئتكم بالذبح)، فأخذتهم تلك الكلمة حتى إن أشدهم عداوة يرفؤه بأحسن ما يجد عنده.
ولما ألقوا عليه سَلاَ جَزُورٍ وهو ساجد، دعا عليهم، فذهب عنهم الضحك، وساورهم الهم والقلق، وأيقنوا أنهم هالكون.
ودعا على عتبة بن أبي لهب فلم يزل على يقين من لقاء ما دعا به عليه حتى إنه حين رأي الأسد قال: قتلنى والله ـ محمد ـ وهو بمكة.
وكان أبي بن خلف يتوعده بالقتل. فقال: (بل أنا أقتلك إن شاء الله)، فلما طعن أبيًا في عنقه يوم أحد ـ وكان خدشًا غير كبير ـ كان أبي يقول: إنه قد كان قال لى بمكة: أنا أقتلك، فو الله لو بصق على لقتلني ـ وسيأتي.
وقال سعد بن معاذ ـ وهو بمكة ـ لأمية بن خلف: لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنهم ـ أي المسلمين ـ قاتلوك) ففزع فزعًا شديدًا، وعهد ألا يخرج عن مكة، ولما ألجأه أبو جهل للخروج يوم بدر اشترى أجود بعير بمكة ليمكنه من الفرار، وقالت له امرأته: يا أبا صفوان، وقد نسيت ما قال لك أخوك اليثربي؟ قال: لا والله ما أريد أن أجوز معهم إلا قريبًا.
هكذا كان حال أعدائه صلى الله عليه وسلم،أما أصحابه ورفقاؤه فقد حل منهم محل الروح والنفس، وشغل منهم مكان القلب والعين، فكان الحب الصادق يندفع إليه اندفاع الماء إلى الحُدور، وكانت النفوس تنجذب إليه انجذاب الحديد إلى المغناطيس.
فصورته هيولى كل جسم ** ومغناطيس أفئـدة الرجــال
وكان من أثر هذا الحب والتفاني أنهم كانوا ليرضون أن تندق أعناقهم ولا يخدش له ظفر أو يشاك شوكة.
وطيء أبو بكر بن أبي قحافة يومًا بمكة، وضرب ضربًا شديدًا، دنا منه عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفين ويحرفهما لوجهه، ونزا على بطن أبي بكر، حتى ما يعرف وجهه من أنفه، وحملت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله، ولا يشكون في موته، فتكلم آخر النهار فقال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فمسوا منه بألسنتهم وعذلوه، ثم قاموا وقالوا لأمه أم الخير: انظرى أن تطعميه شيئًا أو تسقيه إياه، فلما خلت به ألحت عليه، وجعل يقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: والله لا علم لى بصاحبك، فقال: اذهبى إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه، فخرجت حتى جاءت أم جميل فقالت: إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله، قالت: ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله، وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك ذهبت، قالت: نعم، فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعًا دنفًا، فدنت أم جميل وأعلنت بالصياح، وقالت: والله إن قومًا نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر، وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم، قال: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: هذه أمك تسمع، قال: فلا شيء علىك منها، قالت: سالم صالح، فقال: أين هو؟ قالت: في دار ابن الأرقم، قال: فإن لله على ألا أذوق طعامًا ولا أشرب شرابًا أو آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمهلتا حتى إذا هدأت الرِّجْل، وسكن الناس خرجتا به، يتكئ عليهما، حتى أدخلتـاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وسننقل نوادر الحب والتفإني في مواضع شتى من هذا الكتاب، ولا سيما ما وقع في يوم أحد، وما وقع من خبيب وأمثاله.
3 ـ الشعور بالمسئولية:
فكان الصحابة يشعرون شعورًا تامًا ما على كواهل البشر من المسئولية الفخمة الضخمة، وأن هذه المسئولية لا يمكن عنها الحياد والانحراف بحال، فالعواقب التي تترتب على الفرار عن تحملها أشد وخامة وأكبر ضررًا عما هم فيه من الاضطهاد، وأن الخسارة التي تلحقهم ـ وتلحق البشرية جمعاء ـ بعد هذا الفرار لا يقاس بحال على المتاعب التي كانوا يواجهونها نتيجة هذا التحمل.
4 ـ الإيمـان بالآخـرة:
وهو مما كان يقوى هذا الشعور ـ الشعور بالمسئولية ـ فقد كانوا على يقين جازم بأنهم يقومون لرب العالمين، ويحاسبون على أعمالهم دقها وجلها، صغيرها وكبيرها، فإما إلى النعيم المقيم، وإما إلى عذاب خالد في سواء الجحيم، فكانوا يقضون حياتهم بين الخوف والرجاء، يرجون رحمة ربهم ويخافون عذابه، وكانوا {يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60]، وكانوا يعرفون أن الدنيا بعذابها ونعيمها لا تساوى جناح بعوضة في جنب الآخرة، وكانت هذه المعرفة القوية تهون لهم متاعب الدنيا ومشاقها ومرارتها؛ حتى لم يكونوا يكترثون لها ويلقون إليها بالًا.
5 ـ القـــرآن:
وفي هذه الفترات العصيبة الرهيبة الحالكة كانت تنزل السور والآيات تقيم الحجج والبراهين على صدق مبادئ الإسلام ـ التي كانت الدعوة تدور حولها ـ بأساليب منيعة خلابة، وترشد المسلمين إلى أسس قدر الله أن يتكون عليها أعظم وأروع مجتمع بشرى في العالم ـ وهو المجتمع الإسلامى ـ وتثير مشاعر المسلمين ونوازعهم على الصبر والتجلد، تضرب لذلك الأمثال، وتبين لهم ما فيه من الحكم {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214 ] {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1: 3].
كما كانت تلك الآيات ترد على إيرادات الكفار والمعاندين ردًا مفحمًا، ولا تبقى لهم حيلة، ثم تحذرهم مرة عن عواقب وَخِيمَة ـ إن أصروا على غيهم وعنادهم ـ في جلاء ووضوح، مستدلة بأيام الله، والشواهد التاريخية التي تدل على سنة الله في أوليائه وأعدائه، وتلطفهم مرة، وتؤدى حق التفهيم والإرشاد والتوجيه حتى ينصرفوا عما هم فيه من الضلال المبين.
وكان القرآن يسير بالمسلمين في عالم آخر، ويبصرهم من مشاهد الكون وجمال الربوبية، وكمال الألوهية، وآثار الرحمة والرأفة، وتجليات الرضوان ما يحنون إليه حنينًا لا يقوم له أي عقبة.
وكانت في طى هذه الآيات خطابات للمسلمين، فيها {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ} [ التوبة:21 ]، وتصور لهم صورة أعدائهم من الكفرة الطغاة الظالمين يحاكمون ويصادرون، ثم {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر:48].
6 ـ البشارات بالنجاح:
ومع هذا كله كان المسلمون يعرفون منذ أول يوم لاقوا فيه الشدة والاضطهاد ـ بل ومن قبله ـ أن الدخول في الإسلام ليس معناه جر المصائب والحتوف، بل إن الدعوة الإسلامية تهدف ـ منذ أول يومها ـ إلى القضاء على الجاهلية الجهلاء ونظامها الغاشم، وأن من نتائجها في الدنيا بسط النفوذ على الأرض، والسيطرة على الموقف السياسي في العالم لتقود الأمة الإنسانية والجمعية البشرية إلى مرضاة الله، وتخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة الله.
وكان القرآن ينزل بهذه البشارات ـ مرة بالصراحة وأخرى بالكناية ـ ففي تلك الفترات القاصمة التي ضيقت الأرض على المسلمين، وكادت تخنقهم وتقضى على حياتهم كانت تنزل الآيات بما جرى بين الأنبياء السابقين وبين أقوامهم الذين قاموا بتكذيبهم والكفر بهم، وكانت تشتمل هذه الآيات على ذكر الأحوال التي تطابق تمامًا أحوال مسلمى مكة وكفارها، ثم تذكر هذه الآيات بما تمخضت عنه تلك الأحوال من إهلاك الكفرة والظالمين، وإيراث عباد الله الصالحين الأرض والديار. فكانت في هذه القصص إشارات واضحة إلى فشل أهل مكة في المستقبل، ونجاح المسلمين مع نجاح الدعوة الإسلامية.
وفي هذه الفترات نزلت آيات تصرح ببشارة غلبة المؤمنين، قال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاء صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ} [الصافات:171: 177]،وقال: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر:45]، وقال: {جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ الْأَحْزَابِ} [ص:11]. ونزلت في الذين هاجروا إلى الحبشة: {وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} [النحل:41]. وسألوه عن قصة يوسف فأنزل الله في طيها: {لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ} [يوسف:7]. أي فأهل مكة السائلون يلاقون ما لاقى إخوانه من الفشل، ويستسلمون كاستسلامهم، وقال وهو يذكر الرسل: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُم مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم:13، 14].وحينما كانت الحرب مشتعلة بين الفرس والرومان، وكان الكفار يحبون غلبة الفرس لكونهم مشركين، والمسلمون يحبون غلبة الرومان لكونهم مؤمنين بالله والرسل والوحى والكتب واليوم الآخر، وكانت الفرس يغلبون ويتقدمون، أنزل الله بشارة بغلبة الروم في بضع سنين، ولكنه لم يقتصر على هذه البشارة الواحدة، بل صرح ببشارة أخرى، وهي نصر الله للمؤمنين حيث قال: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّه} [الروم: 4، 5].
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه يقـوم بمـثل هذه البشارات بين آونـة وأخـرى، فكـان إذا وافي الموسم، وقـام بـين الناس في عُكاظ، ومَجَنَّة، وذى المَجَاز لتبليغ الرسالة، لـم يكـن يبشرهم بالجـنة فحسب، بل يقول لهم بكل صراحة: (يأيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، وتملكوا بها العرب، وتدين لكم بها العجم، فإذا متم كنتم ملوكًا في الجنة).
وقد أسلفنا ما أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم عتبة بن ربيعة حين أراد مساومته على رغائب الدنيا، وما فهمه ورجاه عتبة من ظهور أمره عليه الصلاة والسلام.
وكذلك ما أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم آخر وفد جاء إلى أبي طالب، فقد صرح لهم أنه يطلب منهم كلمة واحدة يعطونها تدين لهم بها العرب، ويملكون العجم.
وقال خباب بن الأرت: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد برده وهو في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت: ألا تدعو الله، فقعد، وهو محمر وجهه، فقال: (لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله ـ زاد بيان الراوى ـ والذئب على غنمه) وفي رواية: (ولكنكم تستعجلون)
ولم تكن هذه البشارات مخفية مستورة، بل كانت فاشية مكشوفة، يعلمها الكفرة، كما كان يعلمها المسلمون، حتى كان الأسود بن المطلب وجلساؤه إذا رأوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تغامزوا بهم، وقالوا: قد جاءكم ملوك الأرض الذين يرثون كسرى وقيصر، ثم يصفرون ويصفقون.
وأمام هذه البشارات بالمستقبل المجيد المستنير في الدنيا، مع ما فيه من الرجاء الصالح الكبير البالغ إلى النهاية في الفوز بالجنة كان الصحابة يرون أن الاضطهادات التي تتوالى عليهم من كل جانب، والمصائب التي تحيط بهم من كل الأرجاء ليست إلا: (سحابة صيف عن قليل تقشع).
هذا ولم يزل الرسول صلى الله عليه وسلم يغذى أرواحهم برغائب الإيمان، ويزكى نفوسهم بتعليم الحكمة والقرآن، ويربيهم تربية دقيقة عميقة، يحدو بنفوسهم إلى منازل سمو الروح، ونقاء القلب، ونظافة الخلق، والتحرر من سلطان الماديات، والمقاومة للشهوات، والنزوع إلى رب الأرض والسموات، ويذكى جمرة قلوبهم، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويأخذهم بالصبر على الأذى، والصفح الجميل، وقهر النفس. فازدادوا رسوخًا في الدين،وعزوفا عن الشهوات، وتفانيًا في سبيل المرضاة، وحنينًا إلى الجنة، وحرصًا على العلم، وفقهًا في الدين، ومحاسبة للنفس، وقهرًا للنزعات وغلبة على العواطف، وتسيطرًا على الثائرات والهائجات، وتقيدًا بالصبر والهدوء والوقار.
المرحلة الثالثة: دعـوة الإسـلام خـارج مكـة
*الرسول صلى الله عليه وسلم في الطائف :
في شوال سنة عشر من النبوة [في أواخر مايو أو أوائل يونيو سنة 619 م] خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وهي تبعد عن مكة نحو ستين ميلًا، سارها ماشيًا على قدميه جيئة وذهوبًا، ومعه مولاه زيد بن حارثة، وكان كلما مر على قبيلة في الطريق دعاهم إلى الإسلام، فلم تجب إليه واحدة منها.
فلما انتهي إلى الطائف عمد ثلاثة إخوة من رؤساء ثقيف، وهم عبد ياليل ومسعود وحبيب أبناء عمرو بن عمير الثقفي، فجلس إليهم ودعاهم إلى الله، وإلى نصرة الإسلام، فقال أحدهم: هو يَمْرُط ثياب الكعبة [أي يمزقها] إن كان الله أرسلك. وقال الآخر: أما وَجَدَ الله أحدًا غيرك، وقال الثالث:والله لا أكلمك أبدًا، إن كنت رسولًا لأنت أعظم خطرًا من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغى أن أكلمك. فقام عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لهم: [إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني].
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أهل الطائف عشرة أيام، لا يدع أحدًا من أشرافهم إلا جاءه وكلمه، فقالوا: اخرج من بلادنا. وأغروا به سفهاءهم، فلما أراد الخروج تبعه سفهاؤهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس، فوقفوا له سِمَاطَيْن [أي صفين] وجعلوا يرمونه بالحجارة، وبكلمات من السفه، ورجموا عراقيبه، حتى اختضب نعلاه بالدماء. وكان زيد بن حارثة يقيه بنفسه حتى أصابه شِجَاج في رأسه، ولم يزل به السفهاء كذلك حتى ألجأوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة على ثلاثة أميال من الطائف، فلما التجأ إليه رجعوا عنه، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حُبْلَة من عنب فجلس تحت ظلها إلى جدار. فلما جلس إليه واطمأن، دعا بالدعاء المشهور الذي يدل على امتلاء قلبه كآبة وحزنًا مما لقى من الشدة، وأسفًا على أنه لم يؤمن به أحد، قال:
(اللهم إليك أشكو ضَعْف قُوَّتِى، وقلة حيلتى، وهوإني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تَكِلُنى؟ إلى بعيد يَتَجَهَّمُنِى؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سَخَطُك، لك العُتْبَى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك).
فلما رآه ابنا ربيعة تحركت له رحمهما، فدعوا غلامًا لهما نصرانيًا يقال له: عَدَّاس، وقالا له:خذ قطفًا من هذا العنب، واذهب به إلى هذا الرجل. فلما وضعه بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مد يده إليه قائلًا: (باسم الله) ثم أكل.
فقال عداس: إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أي البلاد أنت؟ وما دينك؟ قال: أنا نصراني من أهل نِينَوَى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قرية الرجل الصالح يونس بن مَتَّى). قال له: وما يدريك ما يونس ابن متى؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذاك أخي، كان نبيًا وأنا نبي)، فأكب عداس على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ويديه ورجليه يقبلها.
فقال ابنا ربيعة أحدهما للآخر: أما غلامك فقد أفسده عليك. فلما جاء عداس قالا له: ويحك ما هذا؟ قال: يا سيدى، ما في الأرض شيء خير من هذا الرجل، لقد أخبرني بأمر لا يعلمه إلا نبى، قالا له: ويحك يا عداس ، لا يصرفنك عن دينك، فإن دينك خير من دينه.
ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق مكة بعد خروجه من الحائط كئيبًا محزونًا كسير القلب، فلما بلغ قرن المنازل بعث الله إليه جبريل ومعه ملك الجبال، يستأمره أن يطبق الأخشبين على أهل مكة.
وقد روى البخاري تفصيل القصة ـ بسنده ـ عن عروة بن الزبير، أن عائشة رضي الله عنها حدثته أنها قالت للنبى صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ قال: (لقيت من قومكِ ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يالِيل بن عبد كُلاَل، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت ـ وأنا مهموم ـ على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقَرْنِ الثعالب ـ وهو المسمى بقَرْنِ المنازل ـ فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. فناداني ملك الجبال، فسلم عليّ ثم قال: يا محمد، ذلك، فما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين ـ أي لفعلت، والأخشبان: هما جبلا مكة: أبو قُبَيْس والذي يقابله، وهو قُعَيْقِعَان ـ قال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده لا يشرك به شيئا).
وفي هذا الجواب الذي أدلى به الرسول صلى الله عليه وسلم تتجلى شخصيته الفذة، وما كان عليه من الخلق العظيم لا يدرك غوره.
وأفاق رسول الله صلى الله عليه وسلم واطمأن قلبه لأجل هذا النصر الغيبى الذي أمده الله عليه من فوق سبع سموات، ثم تقدم في طريق مكة حتى بلغ وادى نخلة، وأقام فيه أيامًا. وفي وادى نخلة موضعان يصلحان للإقامة ـ السَّيْل الكبير والزَّيْمَة ـ لما بهما من الماء والخصب، ولم نقف على مصدر يعين موضع إقامته صلى الله عليه وسلم فيه.
وخلال إقامته صلى الله عليه وسلم هناك بعث الله إليه نفرًا من الجن ذكرهم الله في موضعين من القرآن: في سورة الأحقاف: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:29: 31].
ومن سياق هذه الآيات ـ وكذا من سياق الروايات التي وردت في تفسير هذا الحادث ـ يتبين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم حضور ذلك النفر من الجن حين حضروا وسمعوا، وإنما علم بعد ذلك حين أطلعه الله عليه بهذه الآيات، وأن حضورهم هذا كان لأول مرة، ويقتضى سياق الروايات أنهم وفدوا بعد ذلك مرارًا.
وحقًا كان هذا الحادث نصرًا آخر أمده الله من كنوز غيبه المكنون بجنوده التي لا يعلمها إلا هو، ثم إن الآيات التي نزلت بصدد هذا الحادث كانت في طيها بشارات بنجاح دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن أي قوة من قوات الكون لا تستطيع أن تحول بينها وبين نجاحها: {وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [الأحقاف:32]، {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا} [الجن:12].
أمام هذه النصرة، وأمام هذه البشارات، أقشعت سحابة الكآبة والحزن واليأس التي كانت مطبقة عليه منذ أن خرج من الطائف مطرودًا مدحورًا، حتى صمم على العود إلى مكة، وعلى القيام باستئناف خطته الأولى في عرض الإسلام وإبلاغ رسالة الله الخالدة بنشاط جديد وبجد وحماس.
وحينئذ قال له زيد بن حارثة: كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك؟ يعنى قريشًا، فقال: (يا زيد، إن الله جاعل لما ترى فرجًا ومخرجًا، وإن الله ناصر دينه، ومظهر نبيه). وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا دنا من مكة مكث بحِرَاء، وبعث رجلًا من خزاعة إلى الأخنس بن شَرِيق ليجيره، فقال: أنا حليف، والحليف لا يجير ، فبعث إلى سهيل بن عمرو، فقال سهيل: إن بني عامر لا تجير على بني كعب، فبعث إلى المطعم بن عدى، فقال المطعم: نعم ، ثم تسلح ودعا بنيه وقومه ، فقال: البسوا السلاح، وكونوا عند أركان البيت، فإني قد أجرت محمدًا، ثم بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن ادخل، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه زيد بن حارثة حتى انتهي إلى المسجد الحرام، فقام المطعم بن عدى على راحلته فنادى: يا معشر قريش، إني قد أجرت محمدًا فلا يهجه أحد منكم، وانتهي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الركن فاستلمه، وطاف بالبيت، وصلى ركعتين، وانصرف إلى بيته، ومطعم بن عدى وولده محدقون به بالسلاح حتى دخل بيته.
وقيل: إن أبا جهل سأل مطعمًا: أمجير أنت أم متابع ـ مسلم؟. قال: بل مجير. قال: قد أجرنا من أجرت.
وقد حفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم للمطعم هذا الصنيع، فقال في أسارى بدر: (لو كان المطعم بن عدى حيًا ثم كلمنى في هؤلاء النتنى لتركتهم له).
*عرض الإسلام علي القبائل والأفراد :
في ذى القعدة سنة عشر من النبوة ـ في أواخر يونيو أو أوائل يوليو سنة 619 م ـ عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة؛ ليستأنف عرض الإسلام على القبائل والأفراد، ولاقتراب الموسم كان الناس يأتون إلى مكة رجالا، وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق لأداء فريضة الحج، وليشهدوا منافع لهم، ويذكروا اسم الله في أيام معلومات، فانتهز رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الفرصة، فأتاهم قبيلة قبيلة يعرض عليهم الإسلام ويدعوهم إليه ، كما كان يدعوهم منذ السنة الرابعة من النبوة ، وقد بدأ يطلب منهم من هذه السنة ـ العاشرة ـ أن يؤووه وينصروه ويمنعوه حتى يبلغ ما بعثه الله به.
*القبائل التي عرض عليها الإسلام :
قال الزهرى: وكان ممن يسمى لنا من القبائل الذين أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعاهم وعرض نفسه عليهم: بنو عامر بن صَعْصَعَة، ومُحَارِب بن خَصَفَة، وفزارة، وغسان، ومرة، وحنيفة، وسليم، وعَبْس، وبنو نصر، وبنو البَكَّاء، وكندة، وxxx، والحارث بن كعب، وعُذْرَة، والحضارمة، فلم يستجب منهم أحد.
وهذه القبائل التي سماها الزهرى لم يكن عرض الإسلام عليها في سنة واحدة ولا في موسم واحد، بل إنما كان ما بين السنة الرابعة من النبوة إلى آخر موسم قبل الهجرة. ولا يمكن تسمية سنة معينة لعرض الإسلام على قبيلة معينة، ولكن الأكثر كان في السنة العاشرة.
أما كيفية عرض الإسلام على هذه القبائل، وكيف كانت ردودهم على هذا العرض فقد ذكرها ابن إسحاق، ونلخصها فيما يلي:
1 ـ بنو xxx: أتى النبي صلى الله عليه وسلم إلى بطن منهم يقال لهم: بنو عبد الله، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه، حتى إنه ليقول لهم: (يا بني عبد الله، إن الله قد أحسن اسم أبيكم)، فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم.
2 ـ بنو حنيفة: أتاهم في منازلهم فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فلم يكن أحد من العرب أقبح عليه ردًا منهم.
3 ـ وأتى إلى بني عامر بن صعصعة: فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فقال بَيْحَرَة بن فِرَاس [رجل منهم]: والله، لو إني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب، ثم قال: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: (الأمر إلى الله، يضعه حيث يشاء)، فقال له: أفَتُهْدَفُ نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا، لا حاجة لنا بأمرك، فأبوا عليه.
ولما رجعت بنو عامر تحدثوا إلى شيخ لهم لم يواف الموسم لكبر سنه، وقالوا له: جاءنا فتى من قريش من بني عبد المطلب يزعم أنه نبى، يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه، ونخرج به إلى بلادنا، فوضع الشيخ يديه على رأسه ثم قال: يا بني عامر وهل لها من تَلاَف؟ هل لذُنَابَاها من مَطْلَب؟ والذي نفس فلان بيده ما تَقَوَّلَها إسماعيلى قط، وإنها لحق، فأين رأيكم كان عنكم؟.
*المؤمنون من غير أهل مكة :
وكما عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام على القبائل والوفود، عرض على الأفراد والأشخاص، وحصل من بعضهم على ردود صالحة، وآمن به عدة رجال بعد هذا الموسم بقليل، وهاك نبذة منهم:
1 ـ سويد بن الصامت:
كان شاعرًا لبيبًا، من سكان يثرب، يسميه قومه [الكامل] لجلده وشعره وشرفه ونسبه، جاء مكة حاجًا أو معتمرًا، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، فقال: لعل الذي معك مثل الذي معى. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما الذي معك؟) قال: حكمة لقمان. قال: (اعرضها عليَّ). فعرضها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن هذا لكلام حسن، والذي معى أفضل من هذا؛ قرآن أنزله الله تعالى عليّ، هو هدى ونور)، فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، ودعاه إلى الإسلام، فأسلم، وقال: إن هذا لقول حسن. فلما قدم المدينة لم يلبث أن قتل في وقعة بين الأوس والخزرج قبل يوم بعاث. والأغلب أنه أسلم في أوائل السنة الحادية عشرة من النبوة.
2 ـ إياس بن معاذ:
كان غلامًا حدثا من سكان يثرب، قدم في وفد من الأوس، جاءوا يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، وذلك قبيل حـرب بعاث في أوائل سنة 11 من النبوة؛ إذ كانت نيران العداوة متقدة في يثرب بين القبيلتين ـ وكان الأوس أقل عددًا من الخزرج ـ فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقدمهم جاءهم، فجلس إليهم، وقال لهم: (هل لكم في خير مما جئتم له؟) فقالوا: وما ذاك؟ قال: (أنا رسول الله، بعثنى إلى العباد، أدعوهم إلى أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئًا، وأنزل عليّ الكتاب)، ثم ذكر لهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن. فقال إياس بن معاذ: أي قوم، هذا والله خير مما جئتم له، فأخذ أبو الحيسر أنس بن رافع ـ رجل من الوفد ـ حفنة من تراب البطحاء فرمى بها وجه إياس، وقال: دعنا فلعمرى لقد جئنا لغير هذا، فصمت إياس، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانصرفوا إلى المدينة من غير أن ينجحوا في عقد حلف مع قريش.
وبعد رجوعهم إلى يثرب لم يلبث إياس أن هلك، وكان يهلل ويكبر ويحمد ويسبح عند موته، فلا يشكون أنه مات مسلمًا.
3 ـ أبو ذر الغفاري:
وكان من سكان نواحي يثرب، ولعله لما بلغ إلى يثرب خبر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بسويد بن الصامت وإياس بن معاذ، وقع في أذن أبي ذر أيضًا، وصار سببًا لإسلامه.
روى البخاري عن ابن عباس قال: قال أبو ذر: كنت رجلًا من غفار، فبلغنا أن رجلًا قد خرج بمكة يزعم أنه نبى، فقلت لأخي: انطلق إلى هذا الرجل وكلمه، وائتنى بخبره، فانطلق فلقيه، ثم رجع، فقلت: ما عندك؟ فقال: والله، لقد رأيت رجلًا يأمر بالخير، وينهي عن الشر، فقلت له: لم تشفنى من الخبر، فأخذت جرابًا وعصا، ثم أقبلت إلى مكة، فجعلت لا أعرفه، وأكره أن أسأل عنه، وأشرب من ماء زمزم وأكون في المسجد. قال: فمر بى عليّ. فقال: كأن الرجل غريب؟ قال: قلت: نعم. فقال: فانطلق إلى المنزل، فانطلقت معه لا يسألنى عن شيء ولا أسأله ولا أخبره. فلما أصبحت غدوت إلى المسجد لأسأل عنه، وليس أحد يخبرنى عنه بشيء. قال: فمر بى عليّ فقال: أما نال للرجل يعرف منزله بعد؟ قال: قلت: لا. قال: فانطلق معي، قال: فقال: ما أمرك؟ وما أقدمك هذه البلدة؟ قال: قلت له:إن كتمت عليّ أخبرتك، قال: فإني أفعل، قال: قلت له: بلغنا أنه قد خرج هاهنا رجل يزعم أنه نبى الله، فأرسلت أخي يكلمه فرجع ولم يشفنى من الخبر، فأردت أن ألقاه.
فقال له: أما إنك قد رشدت. هذا وجهي إليه، ادخل حيث أدخل فإني إن رأيت أحدًا أخافه عليك قمت إلى الحائط كإني أصلح نعلى، وامض أنت. فمضى ومضيت معه حتى دخل، ودخلت معه على النبي صلى الله عليه وسلم.فقلت له:اعرض عليّ الإسلام. فعرضه، فأسلمت مكإني ، فقال لي: (يا أبا ذر، اكتم هذا الأمر، وارجع إلى بلدك، فإذا بلغك ظهورنا فأقبل). فقلت: والذي بعثك بالحق لأصرخن بها بين أظهرهم، فجئت إلى المسجد، وقريش فيه ، فقلت: يا معشر قريش، إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئ. فقاموا، فضربت لأموت، فأدركنى العباس فأكب عليّ، ثم أقبل عليهم فقال: ويلكم تقتلون رجلًا من غفار؟ ومتجركم وممركم على غفار، فأقلعوا عنى. فلما أن أصبحت الغد، رجعت، فقلت مثل ما قلت بالأمس. فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئ، فصنع بي ما صنع بالأمس، فأدركني العباس، فأكب عليّ وقال مثل مقالته بالأمس.
4 ـ طُفَيْل بن عمرو الدَّوْسى:
كان رجلًا شريفًا، شاعرًا لبيبًا، رئيس قبيلة دوس، وكانت لقبيلته إمارة أو شبه إمارة في بعض نواحى اليمن، قدم مكة في عام 11 من النبوة، فاستقبله أهلها قبل وصوله إليها، وبذلوا له أجل تحية وأكرم تقدير، وقالوا له: يا طفيل، إنك قدمت بلادنا، وهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا، وقد فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وإنما قوله كالسحر، يفرق بين الرجل وأبيه، وبين الرجل وأخيه ، وبين الرجل وزوجـه، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا، فلا تكلمه ولا تسمعن منه شيئًا.
يقول طفيل: فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت ألا أسمع منه شيئًا، ولا أكلمه، حتى حشوت أذنى حين غدوت إلى المسجد كُرْسُفًا؛ فرقًا من أن يبلغنى شيء من قوله، قال: فغدوت إلى المسجد فإذا هو قائم يصلى عند الكعبة، فقمت قريبًا منه، فأبي الله إلا أن يسمعنى بعض قوله، فسمعت كلامًا حسنًا، فقلت في نفسى: واثكل أمي، والله إني رجل لبيب شاعر؛ ما يخفي عليّ الحسن من القبيح، فما يمنعنى أن أسمع من هذا الرجل ما يقول؟ فإن كان حسنًا قبلته، وإن كان قبيحًا تركته، فمكثت حتى انصرف إلى بيته فاتبعته، حتى إذا دخل بيته دخلت عليه، فعرضت عليه قصة مقدمى، وتخويف الناس إياي، وسد الأذن بالكرسف، ثم سماع بعض كلامه، وقلت له: اعرض عليّ أمرك، فعرض عليّ الإسلام، وتلا عليّ القرآن. فوالله ما سمعت قولًا قط أحسن منه، ولا أمرًا أعدل منه، فأسلمت وشهدت شهادة الحق، وقلت له: إني مطاع في قومى، وراجع إليهم، وداعيهم إلى الإسلام، فادع الله أن يجعل لى آية، فدعا.
وكانت آيته أنه لما دنا من قومه جعل الله نورًا في وجهه مثل المصباح، فقال: اللهم في غير وجهي. أخشى أن يقولوا: هذه مثلة، فتحول النور إلى سوطه، فدعا أباه وزوجته إلى الإسلام فأسلما، وأبطأ عليه قومه في الإسلام، لكن لم يزل بهم حتى هاجر بعد الخندق، ومعه سبعون أو ثمانون بيتًا من قومه، وقد أبلى في الإسلام بلاء حسنًا، وقتل شهيدًا يوم اليمامة.
5 ـ ضِمَاد الأزدى:
كان من أزْدِ شَنُوءَة من اليمن، وكان يرقى من هذا الريح، قدم مكة فسمع سفهاءها يقولون: إن محمدًا مجنون، فقال: لو إني أتيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدى، فلقيه، فقال: يا محمد، إني أرقى من هذا الريح، فهل لك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد).
فقال: أعد عليّ كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، فقال: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن قاموس البحر، هات يدك أبايعك على الإسلام، فبايعه.
*ست نسمات طيبة من أهل يثرب :
وفي موسم الحج من سنة 11 من النبوة ـ يوليو سنة 620م ـ وجدت الدعوة الإسلامية بذورًا صالحة، سرعان ما تحولت إلى شجرات باسقات، اتقى المسلمون في ظلالها الوارفة لفحات الظلم والعدوان حتى تغير مجرى الأحداث وتحول خط التاريخ.
وكان من حكمته صلى الله عليه وسلم إزاء ما كان يلقى من أهل مكة من التكذيب والصد عن سبيل الله أنه كان يخرج إلى القبائل في ظلام الليل، حتى لا يحول بينه وبينهم أحد من أهل مكة المشركين.
فخرج ليلة ومعه أبو بكر وعلى، فمر على منازل ذُهْل وشيبان بن ثعلبة ، وكلمهم في الإسلام. وقد دارت بين أبي بكر وبين رجل من ذهل أسئلة وردود طريفة، وأجاب بنو شيبان بأرجى الأجوبة، غير أنهم توقفوا في قبول الإسلام.
ثم مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعقبة منى، فسمع أصوات رجال يتكلمون فعمدهم حتى لحقهم، وكانوا ستة نفر من شباب يثرب كلهم من الخزرج، وهم:
1 ـ أسعد بن زُرَارة [من بني النجار].
2 ـ عوف بن الحارث بن رفاعة ابن عَفْراء [من بني النجار].
3 ـ رافع بن مالك بن العَجْلان [من بني زُرَيْق].
4 ـ قُطْبَة بن عامر بن حديدة [من بني سلمة].
5 ـ عُقْبَة بن عامر بن نابي [من بني حَرَام بن كعب ].
6 ـ جابر بن عبد الله بن رِئاب [من بني عبيد بن غَنْم ].
وكان من سعادة أهل يثرب أنهم كانوا يسمعون من حلفائهم من يهود المدينة، إذا كان بينهم شيء، أن نبيًا من الأنبياء مبعوث في هذا الزمان سيخرج، فنتبعه، ونقتلكم معه قتل عاد وإرم.
فلما لحقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: (من أنتم؟) قالوا: نفر من الخزرج، قال: (من موالى اليهود؟) أي حلفائهم، قالوا: نعم. قال: (أفلا تجلسون أكلمكم؟) قالوا: بلى، فجلسوا معه، فشرح لهم حقيقة الإسلام ودعوته، ودعاهم إلى الله عز وجل، وتلا عليهم القرآن. فقال بعضهم لبعض: تعلمون والله يا قوم، إنه للنبى الذي توعدكم به يهود، فلا تسبقنكم إليه، فأسرعوا إلى إجابة دعوته، وأسلموا.
وكانوا من عقلاء يثرب، أنهكتهم الحرب الأهلية التي مضت قريبًا، والتي لا يزال لهيبها مستعرًا، فأملوا أن تكون دعوته سببًا لوضع الحرب، فقالوا: إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم، فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين ، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك.
ولما رجع هؤلاء إلى المدينة حملوا إليها رسالة الإسلام، حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيه ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
*استطراد ـ زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة :
وفي شوال من هذه السنة ـ سنة 11 من النبوة ـ تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة الصديقة رضي الله عنها وهي بنت ست سنين وبني بها بالمدينة في شوال في السنة الأولى من الهجرة وهي بنت تسع سنين.
الإســراء والمعــراج
وبينما النبي صلى الله عليه وسلم يمـر بهذه المرحلة، وأخذت الدعوة تشق طريقًا بين النجاح والاضطهـاد، وبـدأت نجـوم الأمل تتلمح في آفاق بعيدة، وقع حادث الإسراء والمعـراج. واختلف في تعيين زمنه على أقوال شتى:
1 ـ فقيل: كان الإسراء في السنة التي أكرمه الله فيها بالنبوة، واختاره الطبرى.
2 ـ وقيل: كان بعد المبعث بخمس سنين، رجح ذلك النووى والقرطبى.
3 ـ وقيل: كان ليلة السابع والعشرين من شهر رجب سنة 10 من النبوة.
4 ـ وقيل: قبل الهجرة بستة عشر شهرًا، أي في رمضان سنة 12 من النبوة.
5 ـ وقيل: قبل الهجرة بسنة وشهرين، أي في المحرم سنة 13 من النبوة.
6 ـ وقيل: قبل الهجرة بسنة، أي في ربيع الأول سنة 13 من النبوة.
وَرُدَّتِ الأقوالُ الثلاثة الأول بأن خديجة رضي الله عنها توفيت في رمضان سنة عشر من النبوة، وكانت وفاتها قبل أن تفرض الصلوات الخمس. ولا خلاف أن فرض الصلوات الخمس كان ليلة الإسراء. أما الأقوال الثلاثة الباقية فلم أجد ما أرجح به واحدًا منها، غير أن سياق سورة الإسراء يدل ع
موضوع: رد: }}{{ السيرة النبوية }}{{ كاملة ــ بدءًا من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسلم 16/5/2012, 3:41 pm
*بيعة العقبة الأولى :
قد ذكرنا أن ستة نفر من أهل يثرب أسلموا في موسم الحج سنة 11 من النبوة، ووعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإبلاغ رسالته في قومهم.
وكان من جراء ذلك أن جاء في الموسم التالي ـ موسم الحج سنة 12 من النبوة، يوليو سنة 621م ـ اثنا عشر رجلًا، فيهم خمسة من الستة الذين كانوا قد التقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في العام السابق ـ والسادس الذي لم يحضر هو جابر بن عبد الله بن رِئاب ـ وسبعة سواهم، وهم:
1 ـ معاذ بن الحارث، ابن عفراء من بني النجار [من الخزرج]
2 ـ ذَكْوَان بن عبد القيس من بني زُرَيْق. [من الخزرج]
3 ـ عبادة بن الصامت من بني غَنْم [من الخزرج]
4 ـ يزيد بن ثعلبة من حلفاء بني غنم [من الخزرج]
5 ـ العباس بن عُبَادة بن نَضْلَة من بني سالم [من الخزرج]
6 ـ أبو الهَيْثَم بن التَّيَّهَان من بني عبد الأشهل [من الأوس].
7 ـ عُوَيْم بن ساعدة من بني عمرو بن عَوْف [من الأوس].
الأخيران من الأوس، والبقية كلهم من الخزرج.
التقى هؤلاء برسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة بمنى فبايعوه بيعة النساء، أي وفق بيعتهن التي نزلت بعد الحديبية.
روى البخاري عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تعالوا بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف، فمن وفي منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به في الدنيا، فهو له كفارة، ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله، فأمـره إلى الله؛ إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عـنه). قــال: فبايعته ـ وفي نسخة: فبايعناه ـ على ذلك.
*سفير الإسلام في المدينة :
وبعد أن تمت البيعة وانتهى الموسم بعث النبي صلى الله عليه وسلم مع هؤلاء المبايعين أول سفير في يثرب؛ ليعلم المسلمين فيها شرائع الإسلام، ويفقههم في الدين، وليقوم بنشر الإسلام بين الذين لم يزالوا على الشرك، واختار لهذه السفارة شابًا من شباب الإسلام من السابقين الأولين، وهو مُصْعَب بن عُمَيْر العبدرى رضي الله عنه.
*النجاح المغتبط :
نزل مصعب بن عمير على أسعد بن زُرَارة، وأخذا يبثان الإسلام في أهل يثرب بجد وحماس، وكان مصعب يُعْرَف بالمقرئ.
ومن أروع ما يروى من نجاحه في الدعوة أن أسعد بن زرارة خرج به يومًا يريد دار بني عبد الأشهل ودار بني ظَفَر، فدخلا في حائط من حوائط بني ظفر، وجلسا على بئر يقال لها: بئر مَرَق، واجتمع إليهما رجال من المسلمين ـ وسعد بن معاذ وأُسَيْد بن حُضَيْر سيدا قومهما من بني عبد الأشهل يومئذ على الشرك ـ فلما سمعا بذلك قال سعد لأسيد: اذهب إلى هذين اللذين قد أتيا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما، وانههما عن أن يأتيا دارينا، فإن أسعد بن زرارة ابن خالتي، ولولا ذلك لكفيتك هذا.
فأخذ أسيد حربته وأقبل إليهما، فلما رآه أسعد قال لمصعب: هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه، قال مصعب: إن يجلس أكلمه. وجاء أسيد فوقف عليهما متشتمًا، وقال: ما جاء بكما إلينا؟ تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة، فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كف عنك ما تكره، فقال: أنصفت، ثم ركز حربته وجلس، فكلمه مصعب بالإسلام، وتلا عليه القرآن. قال: فو الله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم، في إشراقه وتهلله، ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله؟ كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟
قالا له: تغتسل، وتطهر ثوبك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلى ركعتين. فقام واغتسل، وطهر ثوبه وتشهد وصلى ركعتين، ثم قال: إن ورائى رجلًا إن تبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرشده إليكما الآن ـ سعد بن معاذ ـ ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد في قومه، وهم جلوس في ناديهم. فقال سعد: أحلف بالله لقد جاءكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم.
فلما وقف أسيد على النادى قال له سعد: ما فعلت؟ فقال: كلمت الرجلين، فوالله ما رأيت بهما بأسًا، وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت.
وقد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه ـ وذلك أنهم قد عرفوا أنه ابن خالتك ـ لِيُخْفِرُوك. فقام سعد مغضبًا للذى ذكر له، فأخذ حربته، وخرج إليهما، فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيدًا إنما أراد منه أن يسمع منهما، فوقف عليهما متشتمًا، ثم قال لأسعد بن زرارة: والله يا أبا أمامة، لولا ما بينى وبينك من القرابة ما رُمْتَ هذا منى، تغشانا في دارنا بما نكره؟
وقـد كان أسعد قال لمصعب: جاءك والله سيد من ورائه قومه، إن يتبعك لم يتخلف عنك منهم أحد، فقال مصعب لسعد بن معاذ: أو تقعد فتسمع؟ فإن رضيت أمرًا قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره، قال: قد أنصفت، ثم ركز حربته فجلس. فعـرض عليــه الإسلام، وقـرأ علـيه القـرآن، قـال: فعرفنـا والله في وجهـه الإسلام قبـل أن يتكلم، في إشـراقه وتهلّله، ثـم قـال: كيـف تصنـعون إذا أسلمتـم؟ قالا: تغتسل، وتطهر ثوبك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلى ركعتين. ففعل ذلك.
ثم أخذ حربته فأقبل إلى نادى قومه، فلما رأوه قالوا: نحلف بالله لقد رجع بغير الوجه الذي ذهب به.
فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمرى فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأيًا، وأيمننا نقيبة، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علىّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله. فما أمسى فيهم رجل ولا امرأة إلا مسلمًا ومسلمة، إلا رجل واحد ـ وهو الأُصَيْرِم ـ تأخر إسلامه إلى يوم أحد، فأسلم ذلك اليوم وقاتل وقتل، ولم يسجد لله سجدة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (عمل قليلًا وأجر كثيرًا).
وأقام مصعب في بيت أسعد بن زرارة يدعو الناس إلى الإسلام، حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون، إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد وخَطْمَة ووائل. كان فيهم قيس بن الأسلت الشاعر ـ وكانوا يطيعونه ـ فوقف بهم عن الإسلام حتى كان عام الخندق سنة خمس من الهجرة.
وقبل حلول موسم الحج التالى ـ أي حج السنة الثالثة عشرة ـ عاد مصعب بن عمير إلى مكة يحمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشائر الفوز، ويقص عليه خبر قبائل يثرب، وما فيها من مواهب الخير، وما لها من قوة ومنعة.
*بيعة العقبة الثانية :
في موسم الحج في السنة الثالثة عشرة من النبوة ـ يونيو سنة 622م ـ حضر لأداء مناسك الحج بضع وسبعون نفسًا من المسلمين من أهل يثرب،جاءوا ضمن حجاج قومهم من المشركين، وقد تساءل هؤلاء المسلمون فيما بينهم ـ وهم لم يزالوا في يثرب أو كانوا في الطريق: حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف؟
فلما قدموا مكة جرت بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم اتصالات سرية أدت إلى اتفاق الفريقين على أن يجتمعوا في أوسط أيام التشريق في الشعب الذي عند العقبة حيث الجمرة الأولى من منى، وأن يتم الاجتماع في سرية تامة في ظلام الليل.
ولنترك أحد قادة الأنصار يصف لنا هذا الاجتماع التاريخي الذي حول مجرى الأيام في صراع الوثنية والإسلام. يقول كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه:
خرجنا إلى الحج، وواعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة من أوسط أيام التشريق، فلما فرغنا من الحج، وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لها، ومعنا عبد الله بن عمرو بن حَرَام أبو جابر، سيد من ساداتنا، وشريف من أشرافنا، أخذناه معنا ـ وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا ـ فكلمناه وقلنا له: يا أبا جابر، إنك سيد من ساداتنا، وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبا للنار غدًا. ثم دعوناه إلى الإسلام، وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إيانا العقبة، قال: فأسلم وشهد معنا العقبة وكان نقيبًا.
قال كعب: فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، نتسلل تسلل القَطَا، مستخفين، حتى اجتمعنا في الشِّعْب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلًا، وامرأتان من نسائنا؛ نُسَيْبَة بنت كعب ـ أم عُمَارة ـ من بني مازن بن النجار،وأسماء بنت عمرو ـ أم منيع ـ من بني سلمة.
فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا، ومعه عمه: العباس بن عبد المطلب ـ وهو يومئذ على دين قومه ـ إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه، ويتوثق له، وكان أول متكلم.
*بداية المحادثة وتشريح العباس لخطورة المسئولية :
وبعد أن تكامل المجلس بدأت المحادثات لإبرام التحالف الدينى والعسكرى، وكان أول المتكلمين هو العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، تكلم ليشرح لهم ـ بكل صراحة ـ خطورة المسئولية التي ستلقى على كواهلهم نتيجة هذا التحالف. قال:
يا معشر الخزرج ـ وكان العرب يسمون الأنصار خزرجـًا، خزرجـها وأوسـها كليهما ـ إن محمدًا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه،فهو في عز من قومه ومنعة في بلده. وإنه قد أبي إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك. وإن كنتم ترون أنكم مُسْلِمُوه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه. فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده.
قال كعب: فقلنا له: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت.
وهذا الجواب يدل على ما كانوا عليه من عزم صميم، وشجاعة مؤمنة، وإخلاص كامل في تحمل هذه المسئولية العظيمة، وتحمل عواقبها الخطيرة.
وألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بيانه، ثم تمت البيعة.
*بنود البيعة :
وقد روى ذلك الإمام أحمد عن جابر مفصلًا. قال جابر: قلنا: يا رسول الله، علام نبايعك؟ قال:
(على السمع والطاعة في النشاط والكسل.
وعلى النفقة في العسر واليسر.
وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وعلى أن تقوموا في الله، لا تأخذكم في الله لومة لائم.
وعلى أن تنصرونى إذا قدمت إليكم، وتمنعونى مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة).
وفي رواية كعب ـ التي رواها ابن إسحاق ـ البند الأخير فقط من هذه البنود، ففيه: قال كعب: فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلا القرآن، ودعا إلى الله، ورغب في الإسلام، ثم قال: (أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نسائكم وأبناءكم). فأخذ البراء ابن مَعْرُور بيده ثم قال: نعم، والذي بعثك بالحق نبيًا، لنمنعنك مما نمنع أُزُرَنا منه، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أبناء الحرب وأهل الْحَلْقَة، ورثناها كابرًا عن كابر.
قال: فاعترض القول ـ والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ أبو الهيثم بن التَّيَّهَان، فقال: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالًا، وإنا قاطعوها ـ يعنى اليهود ـ فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله إن ترجع إلى قومك وتدعنا؟
قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (بل الدَّمُ الدَّمُ، والهَدْمُ الْهَدْمُ، أنا منكم وأنتم منى، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم).
*التأكيد من خطورة البيعة :
وبعد أن تمت المحادثة حول شروط البيعة، وأجمعوا على الـشروع في عقدها قام رجلان من الرعيل الأول ممن أسلموا في مواسم سنتى 11 و 12 من النبوة، قام أحدهما تلو الآخر؛ ليؤكدا للقوم خطورة المسئولية، حتى لا يبايعوه إلا على جلية من الأمر، وليعرفا مدى استعداد القوم للتضحية، ويتأكدا من ذلك.
قال ابن إسحاق: لما اجتمعوا للبيعة قال العباس بن عبادة بن نَضْلَة: هل تدورن علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم، قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس. فإن كنتم ترون أنكم إذا نَهََكَتْ أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتلا أسلمتموه، فمن الآن، فهو والله إن فعلتم خزى الدنيا والآخرة. وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نَهْكَة الأموال وقتل الأشراف فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخـرة.
قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا بذلك؟ قال: (الجنة). قالوا: ابسط يدك، فبسط يده فبايعوه.
وفي رواية جابر [قال]: فقمنا نبايعه،فأخذ بيده أسعد بن زرارة ـ وهو أصغر السبعين ـ فقال: رويدا يا أهل يثرب، إنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف، فإما أنتم تصبرون على ذلك فخذوه، وأجركم على الله، وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه فهو أعذر لكم عند الله.
*عقد البيعة :
وبعد إقرار بنود البيعة، وبعد هذا التأكيد والتأكد بدأ عقد البيعة بالمصافحة، قال جابر ـ بعد أن حكى قول أسعد بن زرارة ـ قال: فقالوا: يا أسعد، أمِطْ عنا يدك. فوالله لا نذر هذه البيعة، ولا نستقيلها.
وحينئذ عرف أسعد مدى استعداد القوم للتضحية في هذا السبيل وتأكد منه ـ وكان هو الداعية الكبير مع مصعب بن عمير ـ فكان هو السابق إلى هذه البيعة. قال ابن إسحاق: فبنو النجار يزعمون أن أبا أمامة أسعد بن زرارة كان أول من ضرب على يده. وبعد ذلك بدأت البيعة العامة، قال جابر: فقمنا إليه رجلًا رجلًا فأخذ علينا البيعة، يعطينا بذلك الجنة.
وأما بيعة المرأتين اللتين شهدتا الوقعة فكانت قولًا. ما صافح رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة أجنبية قط.
*اثنا عشر نقيبًا :
وبعد أن تمت البيعة طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يختاروا اثنى عشر زعيمًا يكونون نقباء على قومهم، يكفلون المسئولية عنهم في تنفيذ بنود هذه البيعة، فقال للقوم: أخرجوا إلىّ منكم اثنى عشر نقيبًا ليكونوا على قومهم بما فيهم.
فتم اختيارهم في الحال، وكانوا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس.وهاك أسماءهم:
نقباء الخزرج
1ـ أسعد بن زُرَارَة بن عدس.
2ـ سعد بن الرَّبِيع بن عمرو.
3ـ عبد الله بن رواحة بن ثعلبة.
4ـ رافع بن مالك بن العَجْلان.
5ـ البراء بن مَعْرُور بن صَخْر.
6ـ عبد الله بن عمرو بن حَرَام.
7ـ عبادة بن الصامت بن قيس.
8 ـ سعد بن عبادة بن دُلَيْم.
9ـ المنذر بن عمرو بن خُنَيْس.
نقباء الأوس
1ـ أُسَيْد بن حُضَيْر بن سِمَاك.
2ـ سعد بن خَيْثَمَة بن الحارث.
3ـ رفاعة بن عبد المنذر بن زبير.
ولما تم اختيار هؤلاء النقباء أخذ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ميثاقًا آخر بصفتهم رؤساء مسئولين.
قال لهم: (أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء، ككفالـة الحواريين لعيسى ابن مريم، وأنا كفيل على قومي) ـ يعنى المسلمين ـ قالوا: نعم.
شيطان يكتشف المعاهدة
ولما تم إبرام المعاهدة، وكان القوم على وشك الارفضاض، اكتشفها أحد الشياطين؛ وحيث إن هذا الاكتشاف جاء في اللحظة الأخيرة، ولم يكن يمكن إبلاغ زعماء قريش هذا الخبر سرًا، ليباغتوا المجتمعين وهم في الشعب، قام ذلك الشيطان على مرتفع من الأرض،وصاح بأنفذ صوت سمع قط: يا أهل الجَبَاجب ـ المنازل ـ هل لكم في مُذَمَّم والصباة معه؟ قد اجتمعوا على حربكم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا أزَبُّ العقبة، أما والله يا عدو الله لأتفرغن لك. ثم أمرهم أن ينفضوا إلى رحالهم).
*استعداد الأنصار لضرب قريش :
وعند سماع صوت هذا الشيطان قال العباس بن عبادة بن نضلة: والذي بعثك بالحق، إن شئت لنميلن على أهل منى غدًا باسيافنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم)، فرجعوا وناموا حتى أصبحوا.
*قريش تقدم الاحتجاج إلى رؤساء يثرب :
لما قـرع هذا الخبر آذان قريش وقعت فيهم ضجة، وساورتهم القلاقل والأحزان؛ لأنهم كانوا على معرفة تامة بعواقب مثل هذه البيعة ونتائجها بالنسبة إلى أنفسهم وأموالهم، فما أن أصبحوا حتى توجه وفد كبير من زعماء مكة وأكابر مجرميها إلى أهل يثرب؛ ليقدم احتجاجه الشديد على هذه المعاهدة، قال الوفد:
(يا معشر الخزرج، إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حى من العرب أبغض إلينا من أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم).
ولما كان مشركو الخزرج لا يعرفون شيئًا عن هذه البيعة؛ لأنها تمت في سرية تامة في ظلام الليل، انبعث هؤلاء المشركون يحلفون بالله: ما كان من شيء وما علمناه، حتى أتوا عبد الله بن أبي بن سلول، فجعل يقول: هذا باطل، وما كان هذا،وما كان قومى ليفتاتوا على بمثل هذا، ولو كنت بيثرب ما صنع قومي هذا حتى يؤامروني.
أما المسلمون فنظر بعضهم إلى بعض، ثم لاذوا بالصمت، فلم يتحدث أحد منهم بنفي أو إثبات.
ومال زعماء قريش إلى تصديق المشركين، فرجعوا خائبين.
*تأكد الخبر لدى قريش ومطاردة المبايعين :
عاد زعماء مكة وهم على شبه اليقين من كذب هذا الخبر، لكنهم لم يزالوا يَتَنَطَّسُونه ـ يكثرون البحث عنه ويدققون النظر فيه ـ حتى تأكد لديهم أن الخبر صحيح، والبيعة قد تمت فعلًا. وذلك بعد ما نفر الحجيج إلى أوطانهم، فسارع فرسانهم بمطاردة اليثربيين، ولكن بعد فوات الأوان، إلا أنهم تمكنوا من رؤية سعد بن عبادة والمنذر ابن عمرو فطاردوهما، فأما المنذر فأعجز القوم، وأما سعد فألقوا القبض عليه، فربطوا يديه إلى عنقه بنِسْع رَحْلِه، وجعلوا يضربونه ويجرونه ويجرون شعره حتى أدخلوه مكة، فجاء المطعم بن عدى والحارث بن حرب بن أمية فخلصاه من أيديهم؛ إذ كان سعد يجير لهما قوافلهما المارة بالمدينة، وتشاورت الأنصار حين فقدوه أن يكروا إليه، فإذا هو قد طلع عليهم، فوصل القوم جميعًا إلى المدينة.
هذه هي بيعة العقبة الثانية ـ التي تعرف ببيعة العقبة الكبرى ـ وقد تمت في جو تعلوه عواطف الحب والولاء، والتناصر بين أشتات المؤمنين، والثقة والشجاعة والاستبسال في هذا السبيل. فمؤمن من أهل يثرب يحنو على أخيه المستضعف في مكة، ويتعصب له،ويغضب من ظالمه، وتجيش في حناياه مشاعر الود لهذا الأخ الذي أحبه بالغيب في ذات الله.
ولم تكن هذه المشاعر والعواطف نتيجة نزعة عابرة تزول على مر الأيام، بل كان مصدرها هو الإيمان بالله وبرسوله وبكتابه، إيمان لا يزول أمام أي قوة من قوات الظلم والعدوان، إيمان إذا هبت ريحه جاءت بالعجائب في العقيدة والعمل، وبهذا الإيمان استطاع المسلمون أن يسجلوا على أوراق الدهر أعمالًا، ويتركوا عليها آثارًا خلا عن نظائرها الغابر والحاضر، وسوف يخلو المستقبل.
موضوع: رد: }}{{ السيرة النبوية }}{{ كاملة ــ بدءًا من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسلم 16/5/2012, 3:43 pm
*طلائـع الهجـرة :
وبعد أن تمت بيعة العقبة الثانية ونجح الإسلام في تأسيس وطن له وسط صحراء تموج بالكفر والجهالة ـ وهو أخطر كسب حصل عليه الإسلام منذ بداية دعوته ـ أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين بالهجرة إلى هذا الوطن.
ولم يكن معنى الهجرة إلا إهدار المصالح، والتضحية بالأموال، والنجاة بالشخص فحسب، مع الإشعار بأنه مستباح منهوب قد يهلك في أوائل الطريق أو نهايتها، وبأنه يسير نحو مستقبل مبهم، لا يدرى ما يتمخض عنه من قلاقل وأحزان.
وبدأ المسلمون يهاجرون وهم يعرفون كل ذلك، وأخذ المشركون يحولون بينهم وبين خروجهم؛ لما كانوا يحسون به من الخطر، وهاك نماذج من ذلك:
1 ـ كان من أول المهاجرين أبو سلمة ـ هاجر قبل العقبة الكبرى بسنة على ما قاله ابن إسحاق ـ وزوجته وابنه، فلما أجمع على الخروج قال له أصهاره: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه؟ علام نتركك تسير بها في البلاد؟ فأخذوا منه زوجته، وغضب آل أبي سلمة لرجلهم،فقالوا: لا نترك ابننا معها إذ نزعتموها من صاحبنا، وتجاذبوا الغلام بينهم فخلعوا يده، وذهبوا به. وانطلق أبو سلمة وحده إلى المدينة.
وكانت أم سلمة رضي الله عنها و بعد ذهاب زوجها وضياع ابنها تخرج كل غداة بالأبطح تبكى حتى تمسى، ومضى على ذلك نحو سنة، فرق لها أحد ذويها وقال: ألا تخرجون هذه المسكينة؟ فرقتم بينها وبين زوجها وولدها، فقالوا لها: الحقى بزوجك إن شئت، فاسترجعت ابنها من عصبته، وخرجت تريد المدينة ـ رحلة تبلغ حوالى خمسمائة كيلو متر تمر بين شواهق الجبال ومهالك الأودية ـ وليس معها أحد من خلق الله. حتى إذا كانت بالتَّنْعِيم لقيها عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، وبعد أن عرف حالها شيعها حتى أقدمها إلى المدينة، فلما نظر إلى قباء، قال: زوجك في هذه القرية فادخليها على بركة الله، ثم انصرف راجعًا إلى مكة.
2 ـ وهاجر صُهَيْب بن سِنان الرومى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أراد الهجرة قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكًا xxxxًا، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك؟ والله لا يكون ذلك. فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالى أتخلون سبيلى؟ قالوا: نعم، قال: فأني قد جعلت لكم مالى، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ربح صهيب، ربح صهيب).
3 ـ وتواعد عمر بن الخطاب، وعَيَّاش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص بن وائل موضعًا اسمه التَّنَاضُب فوق سَرِف يصبحون عنده، ثم يهاجرون إلى المدينة، فاجتمع عمر وعياش، وحبس عنهما هشام.
ولما قدما المدينة ونزلا بقباء قدم أبو جهل وأخوه الحارث إلى عياش ـ وأم الثلاثة واحدة، وهي أسماء بنت مُخَرِّبَة ـ فقالا له: إن أمك قد نذرت ألا يمس رأسها مشط، ولا تستظل بشمس حتى تراك، فَرَقَّ لها. فقال له عمر: يا عياش، إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم، فوالله لو آذى أمك القمل لامتشطت، ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت، فأبي عياش إلا الخروج معهما ليبر قسم أمه، فقال له عمر: أما إذ قد فعلت ما فعلت فخذ ناقتى هذه، فإنها ناقة نجيبة ذلول، فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريب فانج عليها.
فخرج عليها معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل: يابن أمي، والله لقد استغلظت بعيري هذا، أفلا تعقبني على ناقتك هذه؟ قال: بلى، فأناخ وأناخا ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض عدوا عليه فأوثقاه وربطاه، ثم دخلا به مكة نهارًا موثقًا، وقالا: يا أهل مكة، هكذا فافعلوا بسفهائكم، كما فعلنا بسفيهنا هذا.
هذه ثلاثة نماذج لما كان المشركون يفعلونه بمن يريد الهجرة إذا علموا ذلك. ولكن على رغم ذلك خرج الناس أرسالًا يتبع بعضهم بعضًا. وبعد شهرين وبضعة أيام من بيعة العقبة الكبرى لم يبق بمكة من المسلمين إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعلى ـ أقاما بأمره لهما ـ وإلا من احتبسه المشركون كرهًا، وقد أعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جهازه ينتظر متى يؤمر بالخروج، وأعد أبو بكر جهازه.
روى البخاري عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين: (أني أريت دار هجرتكم، ذات نخل بين لابَتَيْن) ـ وهما الحرتان ـ فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر قبل المدينة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (على رِسْلِك، فأني أرجو أن يؤذن لي). فقال له أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: (نعم)، فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السَّمَر ـ وهو الخَبَطُ ـ أربعة أشهر.
*في دار الندوة [برلمان قريش] :
ولما رأى المشركون أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تجهزوا وخرجوا، وحملوا وساقوا الذرارى والأطفال والأموال إلى الأوس والخزرج أصابتهم الكآبة والحزن، وساورهم القلق والهم بشكل لم يسبق له مثيل، فقد تجسد أمامهم خطر حقيقى عظيم، أخذ يهدد كيانهم الوثني والاقتصادي.
فقد كانوا يعلمون ما في شخصية محمد صلى الله عليه وسلم من غاية قوة التأثير مع كمال القيادة والإرشاد، وما في أصحابه من العزيمة والاستقامة والفداء في سبيله، ثم ما في قبائل الأوس والخزرج من القوة والمنعة، وما في عقلاء هاتين القبيلتين من عواطف السلم والصلاح، والتداعي إلى نبذ الأحقاد، ولاسيما بعد أن ذاقوا مرارة الحروب الأهلية طيلة أعوام من الدهر.
كما كانوا يعرفون ما للمدينة من الموقع الاستراتيجي بالنسبة إلى المحجة التجارية التى تمر بساحل البحر الأحمر من اليمن إلى الشام. وقد كان أهل مكة يتاجرون إلى الشام بقدر ربع مليون دينار ذهب سنويًا، سوى ما كان لأهل الطائف وغيرها. ومعلوم أن مدار هذه التجارة كان على استقرار الأمن في تلك الطريق.
فلا يخفي ما كان لقريش من الخطر البالغ في تمركز الدعوة الإسلامية في يثرب، ومجابهة أهلها ضدهم.
شعر المشركون بتفاقم الخطر الذي كان يهدد كيانهم، فصاروا يبحثون عن أنجح الوسائل لدفع هذا الخطر الذي مبعثه الوحيد هو حامل لواء دعوة الإسلام محمدصلى الله عليه وسلم.
وفي يوم الخميس 26 من شهر صفر سنة 14 من النبوة، الموافق 12 من شهر سبتمبر سنة 622م ـ أي بعد شهرين ونصف تقريبًا من بيعة العقبة الكبرى ـ عقد برلمان مكة [دار الندوة] في أوائل النهارأخطر اجتماع له في تاريخه، وتوافد إلى هذا الاجتماع جميع نواب القبائل القرشية؛ ليتدارسوا خطة حاسمة تكفل القضاء سريعًا على حامل لواء الدعوة الإسلامية؛ وتقطع تيار نورها عن الوجود نهائيًا. وكانت الوجوه البارزة في هذا الاجتماع الخطير من نواب قبائل قريش:
1 ـ أبو جهل بن هشام، عن قبيلة بني مخزوم.
2، 3، 4ـ جبير بن مُطْعِم، وطُعَيْمَة بن عدى، والحارث بن عامر، عن بني نَوْفَل بن عبد مناف.
5، 6، 7ـ شيبة وعتبة ابنا ربيعة وأبو سفيان بن حرب، عن بني عبد شمس بن عبد مناف.
8 ـ النَّضْر بن الحارث، عن بني عبد الدار.
9، 10، 11ـ أبو البَخْتَرِى بن هشام، وزَمْعَة بن الأسود، وحَكِيم بن حِزَام، عن بني أسد بن عبد العزى.
12، 13ـ نُبَيْه ومُنَبِّه ابنا الحجاج، عن بني سهم.
14ـ أمية بن خَلَف، عن بني جُمَح.
ولما جاءوا إلى دار الندوة حسب الميعاد، اعترضهم إبليس في هيئة شيخ جليل، عليه بَتٌّ له، ووقف على الباب، فقالوا: من الشيخ؟ قال: شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى ألا يعدمكم منه رأيًا ونصحًا. قالوا: أجل، فادخل، فدخل معهم.
*النقاش البرلماني والإجماع على قرار غاشم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم :
وبعد أن تكامل الاجتماع بدأ عرض الاقتراحات والحلول، ودار النقاش طويلًا. قال أبو الأسود: نخرجه من بين أظهرنا وننفيه من بلادنا، ولا نبالي أين ذهب، ولا حيث وقع، فقد أصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت.
قال الشيخ النجدى: لا والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حسن حديثه، وحلاوة منطقه، وغلبته على قلوب الرجال بما يأتى به؟ والله لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحل على حى من العرب، ثم يسير بهم إليكم ـ بعد أن يتابعوه ـ حتى يطأكم بهم في بلادكم، ثم يفعل بكم ما أراد، دبروا فيه رأيًا غير هذا.
قال أبو البخترى: احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابًا، ثم تربصوا به ما أصاب أمثاله من الشعراء الذين كانوا قبله ـ زهيرًا والنابغة ـ ومن مضى منهم، من هذا الموت، حتى يصيبه ما أصابهم.
قال الشيخ النجدى: لا والله ما هذا لكم برأي، والله لئن حبستموه ـ كما تقولون ـ ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه، فلأوشكوا أن يثبوا عليكم، فينزعوه من أيديكم، ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم، ما هذا لكم برأي، فانظروا في غيره.
وبعد أن رفض البرلمان هذين الاقتراحين، قدم إليه اقتراح آثم وافق عليه جميع أعضائه، تقدم به كبير مجرمى مكة أبو جهل بن هشام. قال أبو جهل: والله إن لى فيه رأيًا ما أراكم وقعتم عليه بعد. قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟ قال: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابًا جليدًا نَسِيبا وَسِيطًا فينا، ثم نعطى كل فتى منهم سيفًا صارمًا، ثم يعمدوا إليه، فيضربوه بها ضربة رجل واحد، فيقتلوه، فنستريح منه، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعًا، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعًا، فرضوا منا بالعَقْل، فعقلناه لهم.
قال الشيخ النجدى: القول ما قال الرجل، هذا الرأي الذي لا رأي غيره.
ووافق برلمان مكة على هذا الاقتراح الآثم بالإجماع، ورجع النواب إلى بيوتهم وقد صمموا على تنفيذ هذا القرار فورًا.
.
هجـرة النبـي صلى الله عليه وسلم
*بين تدبير قريش وتدبير الله سبحانه وتعالى :
من طبيعة مثل هذا الاجتماع السرية للغاية، وألا يبدو على السطح الظاهر أي حركة تخالف اليوميات، وتغاير العادات المستمرة، حتى لا يشم أحد رائحة التآمر والخطر، ولا يدور في خلد أحد أن هناك غموضًا ينبئ عن الشر، وكان هذا مكرًا من قريش، ولكنهم ماكروا بذلك الله سبحانه وتعالى، فخيبهم من حيث لا يشعرون. فقد نزل جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم بوحى من ربه تبارك وتعالى فأخبره بمؤامرة قريش، وأن الله قد أذن له في الخروج، وحدد له وقت الهجرة، وبين له خطة الرد على قريش فقال: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه.
وذهب النبي صلى الله عليه وسلم في الهاجرة ـ حين يستريح الناس في بيوتهم ـ إلى أبي بكر رضي الله عنه ليبرم معه مراحل الهجرة، قالت عائشة رضي الله عنها: بينما نحن جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعًا، في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمى، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر.
قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.، فاستأذن،فأذن له فدخل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: (أخرج مَنْ عندك). فقال أبو بكر: إنما هم أهلك، بأبي أنت يا رسول الله. قال: (فأني قد أذن لى في الخروج)، فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعم).
ثم أبرم معه خطة الهجرة، ورجع إلى بيته ينتظر مجىء الليل. وقد استمر في أعماله اليومية حسب المعتاد حتى لم يشعر أحد بأنه يستعد للهجرة، أو لأي أمر آخر اتقاء مما قررته قريش.
*تطويق منزل الرسول صلى الله عليه وسلم :
أما أكابر مجرمي قريش فقضوا نهارهم في الإعداد سرا لتنفيذ الخطة المرسومة التى أبرمها برلمان مكة [دار الندوة] صباحًا، واختير لذلك أحد عشر رئيسًا من هؤلاء الأكابر، وهم:
1ـ أبو جهل بن هشام.
2ـ الحَكَم بن أبي العاص.
3ـ عُقْبَة بن أبي مُعَيْط.
4ـ النَّضْر بن الحارث.
5ـ أُمية بن خَلَف.
6ـ زَمْعَة بن الأسود.
7ـ طُعَيْمة بن عَدِىّ.
8 ـ أبو لهب.
9ـ أبي بن خلف.
10ـ نُبَيْه بن الحجاج.
11ـ أخوه مُنَبِّه بن الحجاج.
وكان من عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينام في أوائل الليل بعد صلاة العشاء، ويخرج بعد نصف الليل إلى المسجد الحرام، يصلي فيه قيام الليل، فأمر عليًا رضي الله عنه تلك الليلة أن يضطجع على فراشه، ويتسجى ببرده الحضرمي الأخضر، وأخبره أنه لا يصيبه مكروه.
فلما كانت عتمة من الليل وساد الهدوء، ونام عامة الناس جاء المذكورون إلى بيته صلى الله عليه وسلم سرًا، واجتمعوا على بابه يرصدونه، وهم يظنونه نائمًا حتى إذا قام وخرج وثبوا عليه، ونفذوا ما قرروا فيه.
وكانوا على ثقة ويقين جازم من نجاح هذه المؤامرة الدنية، حتى وقف أبو جهل وقفة الزهو والخيلاء، وقال مخاطبًا لأصحابه المطوقين في سخرية واستهزاء: إن محمدًا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم، ثم بعثتم من بعد موتكم، فجعلت لكم جنان كجنان الأردن، وإن لم تفعلوا كان له فيكم ذبح، ثم بعثتم من بعد موتكم، ثم جعلت لكم نار تحرقون فيها.
وقد كان ميعاد تنفيذ تلك المؤامرة بعد منتصف الليل في وقت خروجه صلى الله عليه وسلم من البيت، فباتوا متيقظين ينتظرون ساعة الصفر، ولكن الله غالب على أمره، بيده ملكوت السموات والأرض، يفعل ما يشاء، وهو يجير ولا يجـار عليه، فقـد فعـل مـا خاطب به الرسول صلى الله عليه وسلم فيما بعد: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30].
*الرسول صلى الله عليه وسلم يغادر بيته :
وقد فشلت قريش في خطتهم فشلًا ذريعًا مع غاية التيقظ والتنبه؛ إذ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من البيت، واخترق صفوفهم، وأخذ حفنة من البطحاء فجعل يذره على رءوسهم، وقد أخذ الله أبصارهم عنه فلا يرونه، وهو يتلو: {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [يس:9]. فلم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابًا، ومضى إلى بيت أبي بكر، فخرجا من خوخة في دار أبي بكر ليلًا حتى لحقا بغار ثَوْر في اتجاه اليمن.
وبقى المحاصرون ينتظرون حلول ساعة الصفر، وقبيل حلولها تجلت لهم الخيبة والفشل، فقد جاءهم رجل ممن لم يكن معهم، ورآهم ببابه فقال: ما تنتظرون؟ قالوا: محمدًا. قال: خبتم وخسرتم، قد والله مر بكم، وذر على رءوسكم التراب، وانطلق لحاجته، قالوا: والله ما أبصرناه، وقاموا ينفضون التراب عن رءوسهم.
ولكنهم تطلعوا من صير الباب فرأوا عليًا، فقالوا: والله إن هذا لمحمد نائمًا، عليه برده، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا. وقام علىٌّ عن الفراش، فسقط في أيديهم، وسألوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لا علم لي به.
*من الدار إلى الغار :
غادر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته في ليلة 27 من شهر صفر سنة 14 من النبوة، الموافق 12/13 سبتمبر سنة 622م. وأتى إلى دار رفيقه ـ وأمنّ الناس عليه في صحبته وماله ـ أبي بكر رضي الله عنه. ثم غادر منزل الأخير من باب خلفي؛ ليخرجا من مكة على عجل وقبل أن يطلع الفجر.
ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن قريشًا سَتَجِدُّ في الطلب، وأن الطريق الذي ستتجه إليه الأنظار لأول وهلة هو طريق المدينة الرئيسى المتجه شمالًا، فسلك الطريق الذي يضاده تمامًا، وهو الطريق الواقع جنوب مكة، والمتجه نحو اليمن، سلك هذا الطريق نحو خمسة أميال حتى بلغ إلى جبل يعرف بجبل ثَوْر وهو جبل شامخ، وَعِر الطريق، صعب المرتقى، ذو أحجار كثيرة، فحفيت قدما رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: بل كان يمشى في الطريق على أطراف قدميه كى يخفي أثره فحفيت قدماه، وأيا ما كان فقد حمله أبو بكر حين بلغ إلى الجبل، وطفق يشتد به حتى انتهي به إلى غار في قمة الجبل عرف في التاريخ بغار ثور.
*إذ هما في الغار :
ولما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر: والله لا تدخله حتى أدخل قبلك، فإن كان فيه شيء أصابني دونك، فدخل فكسحه، ووجد في جانبه ثقبًا فشق إزاره وسدها به، وبقى منها اثنان فألقمهما رجليه، ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ادخل، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووضع رأسه في حجره ونام، فلدغ أبو بكر في رجله من الجحر، ولم يتحرك مخافة أن ينتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسقطت دموعه على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (ما لك يا أبا بكر؟) قال: لدغت، فداك أبي وأمي، فتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب ما يجده.
وكَمُنَا في الغار ثلاث ليال، ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد. وكان عبد الله بن أبي بكر يبيت عندهما. قالت عائشة: وهو غلام شاب ثَقِف لَقِن، فيُدْلِج من عندهما بسَحَرٍ، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمرًا يكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، و [كان] يرعى عليهما عامر بن فُهَيْرَة مولى أبي بكر مِنْحَة من غنم، فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رِسْل ـ وهو لبن مِنْحَتِهما ورَضيفِهما ـ حتى يَنْعِق بها عامر بن فُهَيْرَة بغَلَس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالى الثلاث، وكان عامر بن فهيرة يتبع بغنمه أثر عبد الله بن أبي بكر بعد ذهابه إلى مكة ليُعَفي عليه.
أما قريش فقد جن جنونها حينما تأكد لديها إفلات رسول الله صلى الله عليه وسلم صباح ليلة تنفيذ المؤامرة. فأول ما فعلوا بهذا الصدد أنهم ضربوا عليًا، وسحبوه إلى الكعبة، وحبسوه ساعة، علهم يظفرون بخبرهما.
ولما لم يحصلوا من عليّ على جدوى جاءوا إلى بيت أبي بكر وقرعوا بابه، فخرجت إليهم أسماء بنت أبي بكر، فقالوا لها: أين أبوك؟ قالت: لا أدرى والله أين أبي؟ فـرفع أبو جهل يـده ـ وكان فاحشًا خبيثًا ـ فلطم خـدها لطمـة طـرح منها قرطها.
وقررت قريش في جلسة طارئة مستعجلة استخدام جميع الوسائل التي يمكن بها القبض على الرجلين، فوضعت جميع الطرق النافذة من مكة [في جميع الجهات] تحت المراقبة المسلحة الشديدة، كما قررت إعطاء مكافأة ضخمة قدرها مائة ناقة بدل كل واحد منهما لمن يعيدهما إلى قريش حيين أو ميتين، كائنًا من كان.
وحينئذ جدت الفرسان والمشاة وقصاص الأثر في الطلب، وانتشروا في الجبال والوديان، والوهاد والهضاب، لكن من دون جدوى وبغير عائدة.
وقد وصل المطاردون إلى باب الغار، ولكن الله غالب على أمره، روى البخاري عن أنس عن أبي بكر قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار، فرفعت رأسى فإذا أنا بأقدام القوم، فقلت: يا نبي الله، لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا. قال: (اسكت يا أبا بكر، اثنان، الله ثالثهما)، وفي لفظ: (ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما).
وقد كانت معجزة أكرم الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم، فقد رجع المطاردون حين لم يبق بينه وبينهم إلا خطوات معدودة.
موضوع: رد: }}{{ السيرة النبوية }}{{ كاملة ــ بدءًا من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسلم 16/5/2012, 3:44 pm
*في الطريق إلى المدينة :
وحين خمدت نار الطلب، وتوقفت أعمال دوريات التفتيش، وهدأت ثائرات قريش بعد استمرار المطاردة الحثيثة ثلاثة أيام بدون جدوى، تهيأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه للخروج إلى المدينة.
وكانا قد استأجرا عبد الله بن أُرَيْقِط الليثى، وكان هاديًا خِرِّيتًا ـ ماهرًا بالطريق ـ وكان على دين كفار قريش، وأمناه على ذلك، وسلما إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثَوْر بعد ثلاث ليال براحلتيهما، فلما كانت ليلة الاثنين ـ غرة ربيع الأول سنة 1هـ / 16 سبتمبر سنة 622م ـ جاءهما عبد الله بن أريقط بالراحلتين، وكان قد قال أبو بكر للنبى صلى الله عليه وسلم عند مشاورته في البيت: بأبي أنت يا رسول الله، خذ إحدى راحلتى هاتين، وقرب إليه أفضلهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثمن. وأتتهما أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها بسُفْرَتِهما، ونسيت أن تجعل لها عِصَامًا، فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة، فإذا ليس لها عصام، فشقت نطاقها باثنين، فعلقت السفرة بواحد، وانتطقت بالآخر فسميت: ذات النطاقين.
ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه وارتحل معهما عامر بن فُهَيْرة، وأخذ بهم الدليل ـ عبد الله بن أريقط ـ على طريق السواحل.
وأول ما سلك بهم بعد الخروج من الغار أنه أمعن في اتجاه الجنوب نحو اليمن، ثم اتجه غربًا نحو الساحل، حتى إذا وصل إلى طريق لم يألفه الناس، اتجه شمالًا على مقربة من شاطئ البحر الأحمر، وسلك طريقًا لم يكن يسلكه أحد إلا نادرًا.
وقد ذكر ابن إسحاق المواضع التي مر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الطريق، قال: لما خرج بهما الدليل سلك بهما أسفل مكة، ثم مضى بهما على الساحل حتى عارض الطريق أسفل من عُسْفَان، ثم سلك بهما على أسفل أمَج، ثم استجاز بهما حتى عارض بهما الطريق بعد أن أجاز قُدَيْدًا، ثم أجاز بهما من مكانه ذلك فسلك بهما الْخَرَّار، ثم سلك بهما ثَنَّية الْمَرَّة، ثم سلك بهما لِقْفًا، ثم أجاز بهما مَدْلَجَة لِقْف، ثم استبطن بهما مَدْلَجة مِجَاج، ثم سلك بهما مَرْجِح مِجَاح، ثم تبطن بهما مَرْجِح من ذى الغُضْوَيْن، ثم بطن ذى كَشْر، ثم أخذ بهما على الْجَدَاجِد، ثم على الأجرد، ثم سلك بهما ذا سلم من بطن أعدا مَدْلَجَة تِعْهِنَ، ثم على العَبَابيد، ثم أجاز بهما الفَاجَة، ثم هبط بهما الْعَرْج، ثم سلك بهما ثنية العَائِر ـ عن يمين رَكُوبة ـ حتى هبط بهما بطن رِئْم، ثم قدم بهما على قُباء.
وهاك بعض ما وقع في الطريق
1ـ روى البخاري عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: أسرينا ليلتنا ومن الغد حتى قام قائم الظهيرة وخلا الطريق، لا يمر فيه أحد، فرفعت لنا صخرة طويلة، لها ظل لم تأت عليها الشمس، فنزلنا عنده، وسويت للنبي صلى الله عليه وسلم مكانًا بيدى، ينام عليه، وبسطت عليه فروة، وقلت: نم يا رسول الله، وأنا أنفض لك ما حولك، فنام، وخرجت أنفض ما حوله، فإذا أنا براع مقبل بغنمه إلى الصخرة، يريد منها مثل الذي أردنا، فقلت له: لمن أنت يا غلام؟ فقال: لرجل من أهل المدينة أو مكة. قلت: أفي غنمك لبن؟ قال: نعم. قلت: أفتحلب؟ قال: نعم. فأخذ شاة، فقلت: انفض الضرع من التراب والشعر والقَذَى، فحلب في قعب كُثْبة من لبن، ومعى إداوة حملتها للنبي صلى الله عليه وسلم، يرتوى منها، يشرب ويتوضأ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فكرهت أن أوقظه، فوافقته حين استيقظ، فصببت من الماء على اللبن حتى برد أسفله، فقلت: اشرب يا رسول الله، فشرب حتى رضيت، ثم قال: (ألم يأن للرحيل؟) قلت: بلى، قال: فارتحلنا.
2ـ وكان من دأب أبي بكر رضي الله عنه أنه كان ردفًا للنبى صلى الله عليه وسلم، وكان شيخًا يعرف، ونبى الله صلى الله عليه وسلم شاب لا يعرف، فيلقى الرجل أبا بكر فيقول: من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فيقول: هذا الرجل يهدينى الطريق، فيحسب الحاسب أنه يعنى به الطريق، وإنما يعنى سبيل الخير.
3ـ وفي اليوم الثاني أو الثالث مر بخيمتى أم مَعْبَد الخزاعية، وكان موقعهما بالمُشَلَّل من ناحية قُدَيْد على بعد نحو 130 كيلو مترًا من مكة، وكانت أم معبد امرأة برزة جلدة تحتبى بفناء الخيمة، ثم تطعم وتسقى من مر بها، فسألاها: هل عندها شيء؟ فقالت: والله لو كان عندنا شيء ما أعوزكم، القِرَى والشاء عازب، وكانت سَنَةٌ شَهْباء.
فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في كسر الخيمة، فقال: (ما هذه الشاة يا أم معبد؟) قالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم، فقال: (هل بها من لبن؟) قالت: هي أجهد من ذلك. فقال: (أتأذنين لى أن أحلبها؟) قالت: نعم بأبي وأمي إن رأيت بها حلبًا فاحلبها. فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ضرعها، وسمى الله ودعا، فتَفَاجَّتْ عليه ودَرَّتْ، فدعا بإناء لها يَرْبِض الرهط، فحلب فيه حتى علته الرغوة، فسقاها، فشربت حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا، ثم شرب، وحلب فيه ثانيًا، حتى ملأ الإناء، ثم غادره عندها فارتحلوا.
فما لبثت أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا عجافا يتساوكن هزلًا، فلما رأي اللبن عجب، فقال: من أين لك هذا؟ والشاة عازب، ولا حلوبة في البيت؟ فقالت: لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت، ومن حاله كذا وكذا، قال: أني والله أراه صاحب قريش الذي تطلبه، صِفِيه لى يا أم معبد، فوصفته بصفاته الكريمة وصفًا بديعًا كأن السامع ينظر إليه وهو أمامه ـ وسننقله في بيان صفاته صلى الله عليه وسلم في أواخر الكتاب ـ فقال أبو معبد: والله هذا صاحب قريش الذي ذكروا من أمره ما ذكروا، لقد هممت أن أصحبه، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلًا. وأصبح صوت بمكة عاليًا يسمعونه ولا يرون القائل:
جزى الله رب العرش خير جزائه ** رفيقين حَلاَّ خيمــتى أم مَعْبـَــدِ
فيا لقُصَىّ مــا زَوَى الله عنكــم ** به من فعال لا يُحَاذى وسُــؤْدُد
لِيَهْنِ بني كعـب مكــان فَتاتِهـــم ** ومقعدُهــا للمؤمنـين بَمْرصَـــد
سَلُوا أختكم عن شاتهـا وإنائـهـا ** فإنكم إن تسألوا الشـاة تَشْـهَـــد
قالت أسماء: ما درينا أين توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل من الجن من أسفل مكة فأنشد هذه الأبيات، والناس يتبعونه ويسمعون صوته ولا يرونه حتى خرج من أعلاها. قالت: فلما سمعنا قوله عرفنا حيث توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن وجهه إلى المدينة.
4ـ وتبعهما في الطريق سُرَاقة بن مالك. قال سراقة: بينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومى بني مُدْلج، أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال: يا سراقة، أني رأيت آنفًا أسْوِدَة بالساحل، أراها محمدًا وأصحابه. قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت له: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلانًا وفلانًا انطلقوا بأعيننا، ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت فدخلت، فأمرت جاريتى أن تخرج فرسى، وهي من وراء أكَمَة، فتحبسها عَلَىَّ، وأخذت رمحى، فخرجت به من ظهر البيت، فخَطَطْتُ بزُجِّهِ الأرض، وخَفَضْتُ عاليه، حتى أتيت فرسى فركبتها، فرَفَعْتُها تُقَرِّب بى حتى دنوت منهم، فعَثَرَتْ بى فرسى فخررت عنها، فقمت، فأهويت يدى إلى كنانتى، فاستخرجت منها الأزلام، فاستقسمت بها، أضُرُّهُمْ أم لا؟ فخرج الذي أكره، فركبت فرسي ـ وعصيت الأزلام ـ تُقَرّبُ بي، حتى إذا سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات ـ سَاخَتْ يدا فرسى في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضت، فلم تَكَدْ تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت بالأزلام، فخرج الذي أكره، فناديتهم بالأمان، فوقفوا، فركبت فرسى حتى جئتهم، ووقع في نفسى حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمْرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يَرْزَأني، ولم يسألأني إلا أن قال: (أَخْفِ عنا)، فسألته أن يكتب لى كتاب أمْنٍ، فأمر عامر بن فُهَيْرة، فكتب لى في رقعة من أدم، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية عن أبي بكر قال: ارتحلنا والقوم يطلبوننا، فلم يدركنا منهم أحد غير سراقة بن مالك بن جُعْشُم، على فرس له، فقلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله، فقال: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} [التوبة:40].
ورجع سراقة فوجد الناس في الطلب فجعل يقول: قد استبرأت لكم الخبر، قد كفيتم ما ها هنا. وكان أول النهار جاهدًا عليهما، وآخره حارسًا لهما.
5 ـ وفي الطريق لقى النبي صلى الله عليه وسلم بُريْدَة بن الحُصَيْب الأسلمى ومعه نحو ثمانين بيتًا، فأسلم وأسلموا، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء الآخرة فصلوا خلفه، وأقام بريدة بأرض قومه حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أُحُد.
وعن عبد الله بن بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتفاءل ولا يتطير، فركب بريدة في سبعين راكبًا من أهل بيته من بني سهم، فلقى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: (ممن أنت؟) قال: من أسلم، فقال: لأبي بكر: سلمنا، ثم قال: (مِنْ بني مَنْ؟) قال: من بني سهم. قال: (خرج سهمك)
6ـ ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي أوْس تميم بن حَجَر أو بأبي تميم أوس بن حجر الأسلمى، بقحداوات بين الجُحْفَة وهَرْشَى ـ بالعرج ـ وكان قد أبطأ عليه بعض ظهره، فكان هو وأبو بكر على جمل واحد، فحمله أوس على فحل من إبله، وبعث معهما غلامًا له اسمه مسعود، وقال: اسلك بهما حيث تعلم من محارم الطريق ولا تفارقهما، فسلك بهما الطريق حتى أدخلهما المدينة، ثم رد رسول الله صلى الله عليه وسلم مسعودًا إلى سيده، وأمره أن يأمر أوسًا أن يسم إبله في أعناقها قيد الفرس، وهو حلقتان، ومد بينهما مدًا، فهي سمتهم. ولما أتى المشركون يوم أحد أرسل أوس غلامه مسعود بن هُنَيْدَة من العَرْج على قدميه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بهم. ذكره ابن مَاكُولا عن الطبرى، وقد أسلم بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان يسكن العرج.
7ـ وفي الطريق ـ في بطن رِئْم ـ لقى رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير، وهو في ركب من المسلمين، كانوا تجارًا قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثيابًا بياضًا.
* النزول بقباء:
وفي يوم الاثنين 8 ربيع الأول سنة 14 من النبوة ـ وهي السنة الأولى من الهجرة ـ الموافق 23 سبتمبر سنة 622م نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء.
قال عروة بن الزبير: سمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحَرَّة، فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يومًا بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم أَوْفي رجل من يهود على أُطُم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مُبَيَّضِين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودى أن قال بأعلى صوته: يا معاشر العرب، هذا جدكم الذي تنتظرون، فثار المسلمون إلى السلاح. وتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة.
قال ابن القيم: وسُمِعت الوَجْبَةُ والتكبير في بني عمرو بن عوف، وكبر المسلمون فرحًا بقدومه، وخرجوا للقائه، فتلقوه وحيوه بتحية النبوة، فأحدقوا به مطيفين حوله، والسكينة تغشاه، والوحى ينزل عليه: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4].
قال عروة بن الزبير: فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول. فقام أبو بكر للناس، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتًا، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحىى ـ وفي نسخة: يجىء ـ أبا بكر، حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك.
وكانت المدينة كلها قد زحفت للاستقبال، وكان يومًا مشهودًا لم تشهد المدينة مثله في تاريخها، وقد رأي اليهود صدق بشارة حَبْقُوق النبي: إن الله جاء من التيمان، والقدوس من جبال فاران.
ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء على كلثوم بن الهدم، وقيل: بل على سعد بن خَيْثَمَة، والأول أثبت.
ومكث على بن أبي طالب رضي الله عنه بمكة ثلاثًا حتى أدى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التي كانت عنده للناس، ثم هاجر ماشيًا على قدميه حتى لحقهما بقباء، ونزل على كلثوم بن الهَدْم.
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء أربعة أيام: الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس. وأسس مسجد قباء وصلى فيه، وهو أول مسجد أسس على التقوى بعد النبوة، فلما كان اليوم الخامس ـ يوم الجمعة ـ ركب بأمر الله له، وأبو بكر ردفه، وأرسل إلى بني النجار ـ أخواله ـ فجاءوا متقلدين سيوفهم، فسار نحو المدينة وهم حوله، وأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، فجمع بهم في المسجد الذي في بطن الوادى، وكانوا مائة رجل.
*الدخول في المدينة :
ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم بعد الجمعة حتى دخل المدينة ـ ومن ذلك اليوم سميت بلدة يثرب بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعبر عنها بالمدينة مختصرًا ـ وكان يومًا مشهودًا أغر، فقد ارتجت البيوت والسكك بأصوات الحمد والتسبيح، وتغنت بنات الأنصار بغاية الفرح والسرور:
طـلـع الــبـدر عـلـينا **مـن ثـنيــات الـوداع
وجـب الشـكـر علـينا ** مـــا دعــا لـلـه داع
أيـهـا المبــعــوث فـينا ** جـئـت بـالأمـر المطاع
والأنصار وإن لم يكونوا أصحاب ثروات طائلة إلا أن كل واحد منهم كان يتمنى أن ينزل الرسول صلى الله عليه وسلم عليه، فكان لا يمر بدار من دور الأنصار إلا أخذوا خطام راحلته: هلم إلى العدد والعدة والسلاح والمنعة، فكان يقول لهم: (خلوا سبيلها فإنها مأمورة)، فلم تزل سائرة به حتى وصلت إلى موضع المسجد النبوى اليوم فبركت، ولم ينزل عنها حتى نهضت وسارت قليلًا، ثم التفتت ورجعت فبركت في موضعها الأول، فنزل عنها، وذلك في بني النجار ـ أخواله صلى الله عليه وسلم ـ وكان من توفيق الله لها، فإنه أحب أن ينزل على أخواله، يكرمهم بذلك، فجعل الناس يكلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في النزول عليهم، وبادر أبو أيوب الأنصارى إلى رحـله، فأدخله بيته،فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (المرء مع رحله)، وجـاء أسعد بن زرارة فأخـذ بزمام راحلته، فكانت عنــده.
وفي رواية أنس عند البخاري، قال نبى الله صلى الله عليه وسلم: (أي بيوت أهلنا أقرب؟) فقال أبو أيوب: أنا يا رسول الله، هذه دارى، وهذا بأبي. قال: (فانطلق فهيئ لنا مقيلًا)، قال: قوما على بركة الله.
وبعد أيام وصلت إليه زوجته سَوْدَة، وبنتاه فاطمة وأم كلثوم، وأسامة بن زيد، وأم أيمن، وخرج معهم عبد الله بن أبي بكر بعيال أبي بكر، ومنهم عائشة، وبقيت زينب عند أبي العاص، لم يمكنها من الخروج حتى هاجرت بعد بدر.
قالت عائشة: وقدمنا المدينة وهي أوبأ أرض الله، فكان بُطْحَان يجرى نَجْلًا، أي ماءً آجِنًا.
وقالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وعك أبو بكر وبلال، فدخلت عليهما فقلت: يا أبه كيف تجدك؟ ويا بلال كيف تجدك؟ قالت: فكان أبو بكر إذا أخذته الحُمَّى يقول:
كل امرئ مُصَبَّحٌ في أهله ** والموت أدنى من شِرَاك نَعْلِه
وكان بلال إذا أقلع عنه يرفع عقيرته ويقول:
ألا ليت شِعْرِى هل أبيتَنَّ ليلة ** بـوَادٍ وحـولى إذْخِرٌ وجَلِيـــلُ
قالت عائشة: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فقال: (اللهم العن شيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، وأمية بن خلف، كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء). ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وصححها، وبارك في صاعها ومدها، وانقل حماها فاجعلها بالجُحْفَة).
وقد استجاب الله دعاءه صلى الله عليه وسلم، فأرى في المنام أن امرأة سوداء ثائرة الرأس خرجت من المدينة حتى نزلت بالمَهْيَعَة، وهي الجحفة. وكان ذلك عبارة عن نقل وباء المدينة إلى الجحفة، وبذلك استراح المهاجرون عما كانوا يعانونه من شدة مناخ المدينة.
إلى هنا انتهي بيان قسم من حياته صلى الله عليه وسلم بعد النبوة، وهو العهد المكى. وفيما يلى نقدم بالإيجاز عهده المدنى صلى الله عليه وسلم. وبالله التوفيق. </B></I>
}}{{ السيرة النبوية }}{{ كاملة ــ بدءًا من مولده وحتى وفاته صلى الله عليه وسلم