وقد جعل الله سبحانه للحسنات والطاعات آثارا محبوبة لذيذة طيبة لذتها فوق لذة المعصية بأضعاف مضاعفة لا نسبة لها إليها وجعل للسيئات والمعاصي آلاما وآثارا مكروهة وحزازات تربي على لذة تناولها بأضعاف مضاعفة قال
- ابن عباس: "إن للحسنة نورا في القلب وضياء في الوجه وقوة في البدن وزيادة في الرزق ومحبة في قلوب الخلق وإن للسيئة سوادا في الوجه وظلمة في القلب ووهنا في البدن ونقصا في الرزق وبغضة في قلوب الخلق" وهذا يعرفه صاحب البصيرة ويشهده من نفسه ومن غيره.
فما حصل للعبد حال مكروهة قط إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر قال تعالى: 42 :30 {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} وقال لخيار خلقه
وأصحاب نبيه: 3 :165 {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} وقال: 4 :79 {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}.
والمراد بالحسنة والسيئة هنا: النعم والمصائب التي تصيب العبد من الله ولهذا قال: {مَا أَصَابَكَ} ولم يقل: ما أصبت.
فكل نقص وبلاء وشر في الدنيا والآخرة فسببه الذنوب ومخالفة أوامر الرب فليس في العالم شر قط إلا الذنوب وموجباتها.
وآثار الحسنات والسيئات في القلوب والأبدان والأموال: أمر مشهود في العالم لا ينكره ذو عقل سليم بل يعرفه المؤمن والكافر والبر والفاجر.
وشهود العبد هذا في نفسه وفي غيره وتأمله ومطالعته: مما يقوي إيمانه بما جاءت به الرسل وبالثواب والعقاب فإن هذا عدل مشهود محسوس في هذا العالم ومثوبات وعقوبات عاجلة دالة على ما هو أعظم منها لمن كانت له بصيرة كما قال بعض الناس: إذا صدر مني ذنب ولم أبادره ولم أتداركه بالتوبة: انتظرت أثره السيء فإذا أصابني أو فوقه أو دونه كما حسبت يكون هجيراى: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ويكون ذلك من شواهد الإيمان- وأدلته فإن الصادق متى أخبرك أنك إذا فعلت كذا وكذا ترتب عليه من المكروه كذا وكذا فجعلت كلما فعلت شيئا من ذلك حصل لك ما قال من المكروه
لم تزدد إلا علما بصدقه وبصيرة فيه وليس هذا لكل أحد بل أكثر الناس ترين الذنوب على قلبه فلا يشهد شيئا من ذلك ولا يشعر به ألبتة.
وإنما يكون هذا لقلب فيه نور الإيمان وأهوية الذنوب والمعاصي تعصف فيه فهو يشاهد هذا وهذا ويرى حال مصباح إيمانه مع قوة تلك الأهوية والرياح فيرى نفسه كراكب البحر عند هيجان الرياح وتقلب السفينة وتكفئها ولا سيما إذا انكسرت به وبقي على لوح تلعب به الرياح فهكذا المؤمن يشاهد نفسه عند ارتكاب الذنوب إذا أريد به الخير وإن أريد به غير ذلك فقلبه في واد آخر.
ومتى انفتح هذا الباب للعبد: انتفع بمطالعة تاريخ العالم وأحوال الأمم وماجريات الخلق بل انتفع بماجريات أهل زمانه وما يشاهده من أحوال الناس وفهم حينئذ معنى قوله تعالى: 13 :33 {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} وقوله: 3 :18 {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فكل ما تراه في الوجود من شر وألم وعقوبة وجدب ونقص في نفسك وفي غيرك فهو من قيام الرب تعالى بالقسط وهو عدل الله وقسطه وإن أجراه على يد ظالم فالمسلط له أعدل العادلين كما قال تعالى لمن أفسد في الأرض: 17 :5 {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ} الآية.
فالذنوب مثل السموم مضرة بالذات فإن تداركها من سقي بالأدوية المقاومة لها وإلا قهرت القوة الإيمانية وكان الهلاك كما قال بعض السلف: "المعاصي بريد الكفر كما أن الحمى بريد الموت".
فشهود العبد نقص حاله إذا عصى ربه وتغير القلوب عليه وجفولها منه- وانسداد الأبواب في وجهه وتوعر المسالك عليه وهوانه على أهل بيته وأولاده وزوجته وإخوانه وتطلبه ذلك حتى يعلم من أين أتى ووقوعه على السبب الموجب لذلك: مما يقوي إيمانه فإن أقلع وباشر الأسباب التي تفضي به إلى ضد هذه الحال رأى العز بعد الذل والغنى بعد الفقر والسرور بعد الحزن والأمن بعد الخوف والقوة في قلبه بعد ضعفه ووهنه ازداد إيمانا مع إيمانه فتقوى شواهد الإيمان في قلبه وبراهينه وأدلته في حال معصيته وطاعته فهذا من الذين قال الله فيهم 39 :35 {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
وصاحب هذا المشهد متى تبصر فيه وأعطاه حقه: صار من أطباء القلوب العالمين بدائها ودوائها فنفعه الله في نفسه ونفع به من شاء من خلقه والله أعلم.
فصل: المشهد العاشر: مشهد الرحمة.
فإن العبد إذا وقع في الذنب خرج من قلبه تلك الغلظة والقسوة والكيفية الغضبية التي كانت عنده لمن صدر منه ذنب حتى لو قدر عليه لأهله وربما دعا الله عليه أن يهلكه ويأخذه غضبا منه لله وحرصا على أن لا يعصى فلا يجد في قلبه رحمة للمذنبين الخاطئين ولا يراهم إلا بعين الاحتقار والازدراء ولا يذكرهم إلا بلسان الطعن فيهم والعيب لهم والذم فإذا جرت عليه المقادير وخلي ونفسه استغاث الله والتجأ إليه وتململ بين يديه تململ السليم ودعاه دعاء المضطر فتبدلت تلك الغلظة على المذنبين رقة وتلك القساوة على الخاطئين رحمة ولينا
مع قيامه بحدود الله وتبدل دعاؤه عليهم دعاء لهم وجعل لهم وظيفة من عمره يسأل الله أن يغفر لهم.
فما أنفعه له من مشهد ! وما أعظم جدواه عليه والله أعلم.
الامام العالم الحجه ابن القيم رحمه الله