لزم يوسف بو حمود دكانه في الحارة التحتانية ليس حرصاً على البيع والربح بل حرصه على وصاله مع قريبة سبهه التنورية هو الذي ألصقه بالدكان والعمل به. الدكان غرفة ترابية، بابها مفتوح على الدرب الواصل بين الحارة التحتانية والحارة الفوقانية. ومن جهة مفتوح على مصطبة بيت سبهه وأخيها صالح. وكانت المصطبة محط اهتمام وحب يوسف، لأن قريبة سبهه لا تنقطع عنها، ونبض قلب يوسف لا يتوقف تعجله وقلقه ما دامت الشمس تشرق عليه من جهة المصطبة. ويزداد قلقه أكثر وأكثر حين تأتي الحبيبة، تبغي الابتياع من الدكان، يحاول يوسف أن يقول الشعر، وهو يكلمها، فلا ينطلق لسانه... تربكها نظراته فيضعف نطقها، ويزداد ألقها، وكأن الخفر كياسة تضاف إلى كياستها، فيعلق قلب العاشق أكثر بالعشيقة. [size=12]تشتري حاجاتها، وتطلب من يوسف أن يكتب أمام اسم عمتها سبهه تلك الحاجات وتكلفتها، فيرفض كتابة اسم عمتها ويكتب اسمها، ولا يكتب أمامه اسم الحاجات وتكلفتها، بل يخربش خربشة لا يعرفها هو نفسه ولا هي تعرفها. [size=12]بعد لحظات من خروج قريبة سبهه، وصل ابن الأحمد على غير عادته حاملاً كيسه الأبيض المملوء بما لذ وطاب وبغير اللذيذ والطيب. [size=12]كيس ابن أحمد مشهود لـه بالشجاعة والغنى والتنوع، يتسع في أكثر الأحيان لعلب الحلاوة، والفاكهة والأحذية العائدة من الإصلاح، وأحياناً الأحذية الجديدة... [size=12]ينتقي ابن الأحمد حذاءه بعناية خاصة يختاره من المتانة بمكان، ولا بد لأي حذاء يريد أن يلبسه أن تتقدمه فتحات خاصة بالرباط، وإلا فلن يقبل انتعاله وقد سأله يوسف بو حمود مشيراً إلى الحذاء الذي ينتعله ابن الأحمد. [size=12]ـ لمَ تختار هذا النوع من الأحذية؟ [size=12]أجابه: [size=12]ـ هيبة الحذاء من رباطه. [size=12]ضحك يوسف ضحكته المعهودة، التي لا تكاد تبدأ، حتى تضيع في زحمة مخاوفه وأحزانه، لكنها هذه المرة اختفت في زحمة تلهفة وقلقه إزاء الحبيبة التي تخرج إلى المصطبة بين الحين والحين. [size=12]ابن الأحمد لم ينتبه إلى نظرات جاره، لأنه لا يفهم كثيراً نظرات الحب. فأهم فنون الغرام بالنسبة لـه هو أن يتمكن الحبيب من قرص من يحب وإلا فالحب عنده يبقى ناقصاً وقاصراً وتعيساً. [size=12]همّت سبهه إلى الجرة التي أمام الباب، فلاح لعينيها الأفق جميلاً وتناهى إلى سمعها صوت ابن الأحمد، فعرفت أنه في الدكان، وتأكد لها وجوده فيها، حين رأت الكيس الأبيض المربوط، الممتلئ بالحاجات المتنوعة. ملأت سبهه الإبريق من فم الجرة وأسلمته لقريبتها، فدخلت القريبة الحسناء، التي أشعلت نار الهوى في فؤاد يوسف بو حمود، وصوت سبهه يسبقها وهي تنادي أخاها يا صالح... يا صالح. [size=12]رد صالح: [size=12]ـ ما بالك يا سبهه تنادين على أخيك الصالح؟ [size=12]عرف ابن الأحمد ويوسف أن صالح الجبيلي أو صالح التنوري في الحواكير القريبة، يلم أوراق التبغ اليابسة، أو أنه يرعى الخراف والبقرة، التي يعتني بها كي لا تجوع أو يصيبها الهزال، فيسقط في مستنقع العوز والتهلكة... [size=12]والجبيلي شقيق سبهه، معروف بطباعه العجيبة في حكاية الأحداث التي يعرفها أو يتخيلها. وهو يحاول أن يتفاصح في الحديث، فلا يستمر تفاصحه قليلاً أو كثيراً، لأن صدأ التعاسات في عمره وروحه وحلقه، يقطع عليه أمر الفصاحة. فغصّة الشقاء لا تدع لأي صوت أن يعلو صوتها.. وصوت الشقاء ليس فصيحاً. [size=12]بعد طول نداء ورد بين سبهه وأخيها، صعد عبر دريب الحواكير وأمامه الخراف والبقرة. [size=12]أحفة الحواكير، المكسوة بعشب الربيع، تبدو كأنها ترتدي وشاحاً صوفياً كبيراً أخضر اللون... والحواكير تترامى حتى أرض وابن الصالح وابن الأحمد، التي استولى عليها ابن الحسن. [size=12]عينا يوسف لا تعرفان النظر إلى غير المصطبة، وأذناه تحاولان الإصغاء إلى كل همسة أو حركة، أملاً منهما في أن توفقا إلى صوت الحبيبة التي غدت تسرح في باله وتمرح كسرحان خراف الجبيلي في الحواكير والمروج المعشبة. يحس يوسف حين تبين قريبة سبهه أن سرباً من طيور الهناءة والأمل، حلّق في خافقه وروحه، وحين تتكلم يحس بأن صداحاً عتيقاً استوطن وجدانه، فأحبه. [size=12]ابن الأحمد لم تشغل باله الشواغل ذاتها، وهو منذ عهد غير قريب طلّقت نفسه أمر العشق. وكيف يعشق وعمره مكبل بالأسى الضارب والصراخ الدائم، والعشق يحتاج أحياناً إلى الصوت الخفيض الحنون؟ ابن الأحمد ودع الحنان، قبل أن يحتفل به، ولعل هذا الوداع كان قبل ولادته. وعداؤه مع الحنان يظهر في ملامح وجهه، وفي نظراته الأسيانة، وهو يعاين الحواكير والمروج وحفاف أرض أبيه العالية. [size=12]دفع الجبيلي بالخراف إلى الغرفة الخربة القريبة من المصطبة... وأغلق وراءها الباب، ثم انشغل بربط البقرة في شجرة التين. [size=12]عادت سبهه إلى المصطبة وعادت شياله قريبتها، التي عذبت روح يوسف حباً وشوقاً واحتفاءً. صوت الكؤوس أيقظ في ابن الأحمد صورة شجرة التوت وأبي يوسف والمصطبة، التي كانت تلم الجيران، قدر أن سبهه نادت أخاها صالحاً ليدعوهما إلى شرب الشاي، ويرحب بهما خاصة أن علاقة طيبة كانت تربطه بوالد ابن الأحمد. [size=12]صدقت نبوءة ابن الأحمد، وصدق صوت الكؤوس. أقبل صالح محني القامة أعشى العينين قليلاً، قدماه أتعبتهما الدروب التي عبرها وراح فيها وجاء... [size=12]باب الدكان مفتوح تحيط به الرفوف المثقلة بالحاجات والأغراض. في صدر الدكان، رفوف عالية وضع عليها الدكاني علب الراحة والحلاوة، وغيرها... وعلى أرض الدكان كرسي كبير لـه مسند واسع وقوائم متينة ترتفع عن الأرض قليلاً... هذا هو كرسي الحلاقة. فيوسف لا يكتفي بالبيع، بل يحلق لأصدقائه وللجيران ولكل راغب بهندسة شعره وتزيينه. [size=12]إلى جوار كرسي الحلاقة، تستريح عدة الحدادة البسيطة. مطرقة كبيرة قريبة الشبه بمقدم رأس ابن الأحمد ومطرقة صغيرة وأسياخ متفاوتة السماكة والأحجام من القصدير وبابور صغير متشح بالسواد دائماً كملامح صالح الجبيلي وشملته الضاربة إلى السواد، رغم أنف الدهر. [size=12]والمميز في دكان يوسف بو حمود أنه جامع شامل لكل ما تريده الحارات الفوقانية والتحتانية والشمالية والجنوبية والغربية والشرقية، ويوسف ملم بخبرات وحرف كثيرة، هو حلاق وحداد وطبيب من طراز خاص، إذا دعت الحاجة. ويميز الدكان أنه عند ملتقى المفارق وأنه يشرف على الحواكير وجانب من بيوت الحارات وعلى المروج والنبع القريب. [size=12]وصل صالح الجبيلي فرآه يوسف وابن الأحمد، قبل وصوله لأنهما كان ينتظران قدومه. نهض يوسف مسرعاً على غير عادته ورحب بجاره ومثله فعل ابن الأحمد: [size=12]ـ أهلاً بصالح. [size=12]ـ عليكما السلام وطيب الكلام يا سادة يا كرام يا أبناء الكرام. [size=12]ظل صالح محني القامة، رغم فصاحته، وابن الأحمد حاول أن يضحك أو يبتسم فلم يقدر لأن ابتسامته المرجوه، اصطدمت بأكداس التعاسات، فضاعت، كما تضيع دائماً شحاطة زهوره بين أغراض زوجها ابن الأحمد، التي يدفع بها في الكيس الأبيض الكبير، ثم لا يعرف كيف يحددها ويوزعها إلا بعد أن يخرج كل ما في الكيس. [size=12]كاد صالح يصطدم بجرة الدكان المستندة إلى جدار الدكان الخارجي. قال لـه ابن الأحمد: [size=12]ـ هل ظننت أن الجرة شجرة دلب مليئة بالطيور؟ [size=12]رد صالح: [size=12]ـ أنت تعرف علاقتي مع والدك يا ابن الأحمد ام أن غضب الدنيا عليك أفقدك وعيك ومعرفتك؟ [size=12]ـ أعرف، نعم أعرف أنك كنت صديقاً لأبي... [size=12]ـ وتعرف أنني كنت أذهب وإياه إلى شجرات النهر الكبير بحثاً عن طائر الدلبات الكبير. [size=12]قطع يوسف حديث ابن الأحمد وصالح. وقطع الحديث هين على يوسف وكأنه يقطع قضيب القصدير، ليلحم لأخت صالح غطاء القنديل، أو لابن الأحمد قائمة البابور، التي لا تكاد تهدأ حالها لكثرة الاستخدام، وكاد صالح ينسى لماذا جاء إلى الدكان لولا أن أتاه صوت أخته: [size=12]ـ أنسيت يا صالح لماذا ذهبت، أم أن ابن الأحمد ذكرك بأبيه وحياتك معه؟ [size=12]أراد صالح أن يلتفت إلى حيث وقفت أخته لكن صوت يوسف أوقفه عن فعل ذلك: [size=12]ـ نذهب معك أو تجلس عندنا ونشرب الشاي؟ [size=12]ـ سبهه وشياله بانتظارنا لنشرب عندنا على المصطبة، تحت أغصان شجرة التوت. قال ابن الأحمد وقد نهض ما أمكنه النهوض فبانت لعينيه الأشجار والبيوت والمروج: [size=12]ـ مصطبة بيتك شبيهة بمصطبة بيت أبي يوسف. [size=12]ـ لكن أبا يوسف ترك بيته، وأبناؤه هل اقتلعوا الشجرة وهدموا البيت؟ [size=12]ـ الشتاء القاسي الذي مر علينا هذا العام جاء مخيفاً وصعباً وهدم البيت قبل أن يهدمه الأولاد. [size=12]شارك يوسف: [size=12]ـ بعد ذهاب أم يوسف مع زوجها، خسرت بيضات دجاجاتها. [size=12]قال ابن الأحمد: [size=12]ـ أنا خفت أول الأمر أن نخسر البيضات لكنني عرفت فيما بعد أن أم يوسف أوكلت أمر دجاجاتها إلى زوجة كريم. [size=12]قال يوسف: [size=12]ـ فعلت خيراً، ولكن الذي يخيف في أمر الدجاجات هو ابن آوى (أبو زهرة). [size=12]أخذ القلق والعشق يوسف الدكاني أو يوسف بو حمود، وهو يلمح شياله تحمل الكراسي الصغيرة من داخل البيت إلى حيث فرشت الأغصان ظلالها، فوق المصطبة، فخففت من حر الشمس المزعج.. وكيف ينزعج يوسف بو حمود وشياله أمام عينيه وقبالة روحه يخاطبها في صمته ويناجيها؟ [size=12]نسي ابن الأحمد في زحمة، الأحاديث أن ينادي زوجته زهوة لتحضر في الحال وتحمل الكيس الأبيض. [size=12]فكر أن يرفع صوته منادياً لكنه خشي أن يخيف المجاورين ويفزعهم فلا يقدروا بعد ذلك على شرب الشاي والتلذذ بها. [size=12]صوت ابن الأحمد قوي وجهوري إلى حد بعيد، حتى إنه حين ينادي يعرف كل من في الحارات أن ابن الأحمد حضر من المدينة، حاملاً كيسه الأبيض وسلته القصبية. والجميع يعرف ماذا يريد ابن الأحمد، حين ينادي.. وهو ينوع في نداءاته بما يلائم الحال الذي هو فيه والأمر الذي يريده: [size=12]حين ينادي زهوه، وهي على النبع ينادي بصوت فيه خشونة مختلفة عن الخشونة التي تكون في صوته وهو ينادي هذه الزوجة المعذبة، حين يكون عائداً ينادي من المدينة حاملاً الكيس والسلة القصبية. [size=12]ونداؤه وهو في أرضه خشونته مختلفة عنها وهو ينادي من أمام البيت، وصوته حين يصرخ في وجه أولاده وهو قليلاً ما يوفق إليهم، ليصرخ في وحههم، لأنهم يخافون من مواجهته حتى في حالات سروره النادرة ندرة طائر النهر الكبير الذي عاش أبوه والجبيلي يبحثان عنه. حتى في هذه الحالات لا يجرؤون على الاقتراب من أبيهم اقتراباً مطمئناً، إذ كانت أقدامهم دائماً مهيأة للهرب، وجلودهم خائفة من لسع عصاه. [size=12]صالح لا ينظر كثيراً إلى الوجوه، لكنه لأول مرة وجد نفسه ينظر نظرات محددة إلى يوسف وابن الأحمد، وكأن رغبة كانت غافية، تجلت في نفسه. [size=12]أراد معرفة جاريه وأراد مقارنتهما بوالديهما، خاصة مقارنة ابن الأحمد بأبيه: [size=12]تراءت صورة أحمد السعيد والد ابن الأحمد، تراءت لـه قامته الناحلة الطويلة وملامحه المعذبة... لكنه كان لا يهاب الحياة... سريرته ليست قاحلة كسريرة ولده... سريرته كانت خصبة بالنبوءات، ورأسه زاهية بالخيالات الشجاعة... [size=12]قال صالح في نفسه: [size=12]"ليس كأحمد السعيد أحد، في سريرته وحياته، بنى كوخه في الأرض العالية وبنى قريباً من الكوخ البيت الترابي المشهور، اختار مكاناً لائقاً للبيت والكوخ، واختار حياة رضية، ثراؤها يأتي من سريرته الخصبة بالنبوءات والحب". [size=12]شياله تجاوزت الثلاثين، وازدادت عذوبة روحها وكياستها وأنوثتها نضجت... فأشعلت في يوسف بو حمود نيران لهفة واشتياق، لا يعرف كيف يطفئها، أو يتفادى أذاها على الأقل. [size=12]ابن الأحمد بقي يزم شفتيه وكأنهما فوجئتا بابتسامة طارئة أو بقبلة من نوع خاص، فأرادتا الاعتذار، والجبيلي بقي يتكلم برغبة عن صديق أيامه وحياته والد ابن الأحمد: [size=12]أحمد السعيد هو أول من عرفت من أهالي قرية شجرة التوت. هل تعلم هذا يا ابن الأحمد؟ [size=12]ينتبه ابن الأحمد ويدع المجال متاحاً لشفتيه أن تعودا من رحلة الصراع الدائم مع أية ابتسامة، تود الظهور، ينتبه ويسأل الجبيلي: [size=12]ـ ومتى عرفت والدي؟ [size=12]ـ كان لوالدك صديق عزيز على روحه، في قريتنا ... وصديق والدك قريبي وجاري، وكنت ألتقيه في كل مرة يزوره. [size=12]ـ ومن هو هذا الصديق؟ [size=12]ـ هو عم أسعد الشحاذ وأبو زوجة كريم قريبك وجارك. [size=12]ـ هو من ضيعة... ... ... [size=12]لم يتابع ابن الأحمد سؤاله لأن شعوراً قاسياً بالمهانة سد عليه حلقه ومنعه من الكلام. [size=12]ـ أنت تريد أن تسأل عن زوج ابنتك التي هربت منه؟ [size=12]ـ نعم يا جبيلي. [size=12]شعور ابن الأحمد بالمهانة، يشبه عضات كلب مسعور، وقد حاول أن ينسى هذا الشعور لكنه لم يقدر... عاد الجبيلي إلى الحديث، وابن الأحمد عاد إليه شعوره بالتعاسة، أما يوسف الدكاني، فظل منصرفاً بنظراته إلى شياله التي أخذها الحديث مع سبهه. [size=12]شياله وسبهه جلستا قريبتين من الجدار، فأسندت كل منهما ظهرها إلى الجدار... والجبيلي وابن الأحمد ويوسف تحلقوا حول الجذع القديم. [size=12]عاد الجبيلي يروي سيرة علاقته بوالد ابن الأحمد: [size=12]كان أبوك شجاعاً، لا يخاف العدا، ولا يحسب للمسافات حساباً. [size=12]يمتطي ظهر حصانه الأسود وينطلق إلى ضيعتنا... فيستقبله عم أسعد بالترحيب وكان يشاركنا جلستنا هذه عبدو الشاعر شقيق زوجة كريم. [size=12]سأل ابن الأحمد: [size=12]ـ وأسعد الشحاذ ألم يكن يشارككم جلساتكم. [size=12]ـ أسعد مقامه ليس من مقامنا هو مثلك همه في كيسه. [size=12]زمّ ابن الأحمد شفتيه زم الغاضب. [size=12]ـ هل تعتبرني مثل أسعد يا جبيلي، وهل تعتبر كيسي مثل كيسه؟ [size=12]ـ أنت خير من أسعد، لكن كيسك يشبه كيسه. [size=12]ازداد غضبه ابن الأحمد لأن الجبيلي استمر في موقفه السيئ تجاه كيسه، وقد حاول أن يتذكر صورة أسعد، وهو يحمل كيسه، ويسعى في جهات القرية وحاراتها ودروبها بحثاً عن القمح وغيره، لكن محاولته باءت بالفشل لأن صوت أسعد جاء من جهة الحارة الفوقانية: [size=12]ـ أين أنت يا بو حمود: "دكانك مفتوح والقلب مجروح وحبيبي عم يجي، وحبيبي بيروح... وحبيبي يتركني... عم سوح... والقلب مجروح... حبيبي شيال حبيبي عالبال... وراح أرسل مرسال يحكيلو عالروح... والقلب المجروح... دكانك مفتوح... دكانك مفتوح...". [size=12]دوّي صوت أسعد في كل مكان من القرية وأخبر من ليس يخبر بحكاية غرام يوسف وشياله ولم يكتف بالأغنية بل ختمها بختام خاص: [size=12]"يا بن حمود لا تحزن كثيراً [size=12]حبيب الروح رح يبعث جواب" [size=12]شياله فهمت كل كلمة قالها أسعد وقد أخذها الخفر حيناً والنظر إلى يوسف حيناً. تنهدات يوسف كانت سهت سهواً يسيراً لولا صوت أسعد الذي فضح ما استتر من أمره وأمر شياله... [size=12]هبط أسعد الحجارة المرفوعة إلى جوار الدكان، كدرج بائس، ليس ينفع في تيسير خطوات الآتين إلى الدكان أو أي بيت من بيوت الحارة. بل يعرقل الخطوات ويوقع الأذى بالمسرعين. [size=12]أسعد هبط متمهلاً وما نفعهُ في العجلة والإسراع؟ هو وكيسه علامتا فقر وعوز ولن يسرق أحداً منهما سارق، إلا إذا كان جاهلاً حياة أسعد وواقع حاله وحال كيسه. [size=12]وهو لا يتعجل في هبوط الحجارة المرفوعة قرب حائط الدكان، لأن الحجارة هذه أهدته يوماً سقطة، أجلسته وقتاً غير قصير لا يقدر على المشي المتوازن. وهو في كل الحالات لا يملك أي رصيد من التوازن. [size=12]ثم إن أسعد يفهم جيداً بأن (العجلة من عمل الشيطان، والتأني من عمل الرحمن...). [size=12]ويفهم (بأن السلامة تأتي من التأني والندامة تأتي من العجلة) خاصة إذا كانت السرعة تتعلق بهبوط الحجارة المضطربة بشكل دائم. [size=12]وهو يمشي غير متوازن وكيف يتوازن ونسغ حياته البؤس والعوز... جاكيته تكتنز من الوسخ ما يكفي لعشر سترات. وقميصه ليس خيراً من الآنسة جاكيته. وبنطلونه تاهت فيه بقع الزيت الدائمة لأن أسعد في موسم قطف الزيتون وعصره، يستبدل الكيس بـ (تنكة) يسعى بها على المعاصر لعله يوفق إلى ملئها... وحين يدركه الجوع، وهو مدركه على مر الساعات، يبحث عن رغيف... وهذا يحق له... [size=12]لأن الجميع يعرفه... يطلب رغيفاً من أي رجل أو امرأة... وحين عثوره على الرغيف ينشغل انشغالاً تاماً بأكل الزيت، فيأكل ما يأكل، وينطف على ثيابه ما ينطف. [size=12]الجبيلي وأسعد عاشا أياماً طويلة معاً في ضيعة أبو عبدو الشاعر أو ضيعة النبع. وهذا هو اسمها القديم ثم أضافت لها الأيام اسماً آخر، ضيعة الصديق الصدوق والذي سمّاها باسمها الجديد هو أحمد السعيد والد ابن الأحمد. [size=12]جرح ابن الأحمد الذي سببته لـه كلمات الجبيلي عنه وعن كيسه لم يندمل وقد زاده ألماً حضور أسعد وكيسه. [size=12]راقب ابن الأحمد أسعد وكيسه مراقبة دقيقة وخاطب نفسه: [size=12]"هل أمشي مثل أسعد؟ وهل حذاؤه المخلع المرقع مثل حذائي؟ حذاؤه من النايلون وحذائي من الجلد... سامحك الله يا جبيلي يا صديق والدي كيف سمحت لنفسك أن تقارب بيني وبين أسعد ثم تابع مخاطبته لنفسه: [size=12]وبنطلون أسعد ليس كبنطلوني، وسترته ليست كسترتي... وهو معذب مقهور يسعى إلى البيوت، ليطلب القمح والزيت والخبز والثياب، أما أنا فبيتي في قرية شجرة التوت معروف وبابه الخشبي لا يمكن لأحد أن يفتحه إلا بإذني، أما هو لا بيت لـه ولا باب يغلقه على أغراضه ومن أين لـه الأغراض؟ [size=12]وكيس أسعد ليس يشبه كيسي في شيء... كيسي أغسله كل أسبوع أما كيسه فلا يغسله... أخطأت يا جبيلي". [size=12]وصل أسعد إلى المصطبة بعد أن عرج ما يكفي لينبه الناظرين إلى عرجه، أسعد خلق لم تهده الدنيا إلا العرج والعوز واللعاب الذي يرشه على أي قريب من فمه... ثم يتبع العرج بالسعال العالي ليؤكد مجيئه. [size=12]تنبهت سبهه لحضور قريبها أسعد ودعته إلى الجلوس على كرسيها قرب (شياله) فسارع أسعد حالاً إلى الجلوس ليظفر بمشاهدة شياله عن كثب. صفعت رائحته غير المسعدة للنفس والأنفاس، والمؤذية للروح والإحساس، صفعت رائحته أنف شياله صفعاً ليس هيناً. [size=12]الجبيلي ويوسف وابن الأحمد ردوا تحية أسعد المصحوبة باللعاب قال أسعد: [size=12]ـ كيف أحوال العباد في البلاد؟ [size=12]ردّوا عليه: [size=12]أهلاً بأسعد.. [size=12]ثم اتبع يوسف: [size=12]ـ أهلاً بأسعد الذي صوته يرعد. [size=12]ـ أنت الحبيب يا يوسف وأريد منك علبة راحة وعلبة بسكويت. [size=12]ـ لماذا تريد هذا يا أسعد؟ [size=12]للحبيبة الغالية. [size=12]ضحك يوسف ضحكته المعهودة التي لا تكاد تبين حتى تختفي، أما الجبيلي فلم يضحك. حتى الضحك لا يعرف على ملامح الجبيلي بل إن الضحك والأسى في ملامحه لا يعرفان ولا يقدر الناظر إليه أن يميزهما. ملامحه تشبه إلى حد بعيد ملامح جذع سنديانه، شققه توالي الفصول عليه، فلا يعرف أخضر الجذع من يابسه... وكذا أمر ملامح الجبيلي... الفرح متداخل مع الحزن والحب متداخل مع الكره، كوجبة معاصرة لا يعرف أساسها ولا الأطعمة الداخلة فيها... [size=12]شياله واجهت بصبر رائحة أسعد الشحاذ المختلطة اختلاطاً فظيعاً، برائحة العرق القديم، المتشبث بجلده إلى حد لا فلات للتعرق من جلد أسعد ولا لجلد أسعد من التعرق... رائحة هذا التعرق ليست وحدها المتمسكة برفقة جلد أسعد، بل تخالطها رائحة التعرق الجديد الذي لا يتوقف جلد أسعد عن إفرازه لكثرة حراكه وسيره. [size=12]وهناك رائحة الأوساخ المتراكمة على ثيابه حتى صارت جزءاً من ثيابه ولوناً من ألوانها.. وأسنان أسعد أكثر فظاعة من أية فظاعة أخرى.. فهو يتركها أبداً دون أن يسمح ليد النظافة أن تمتد إليها حتى إن قريبه عبدو الشاعر سأله يوماً: [size=12]ـ لماذا لا تنظف أسنانك يا أسعد، فرائحة فمك مزعجة؟ [size=12]ـ أنت لا تعرف الأذى والمرض إلا حين تكثر من اللعب بالأسنان. [size=12]أسعد يعتبر النظافة لعباً مؤذياً للأسنان. أرادت شياله أن تهجر كرسيها هرباً من رائحة أسعد لولا أنه أقبل عليها يكلمها هامساً فجاء همسه صراخاً عالياً مفزعاً: [size=12]ـ ألا تذكرين الأغنية التي كتبها لك ابن عمي عبدو الشاعر؟ [size=12]عبدو الشاعر هو قريبي وقد رجع من سفره. [size=12]تذكرت شياله عبدو الشاعر وقت كان يزور أهلها ويغنى لها أغنيات لم تسمعها من سواه... [size=12]تذكرت قامته الممتلئة وروحه المشبعه بالحب والغناء... تذكرت عينيه اللتين تضجان بالكلام والشوق... [size=12]نظرت إلى يوسف وقريبها الجبيلي وابن الأحمد وكأنها لا تنظر. حتى رائحة أسعد ابتعدت عن أنفاسها ابتعاداً يسيراً... حين تذكرت عبدو الشاعر قالت في سرها: [size=12]"حين ينظر عبدو الشاعر لا أحد يعرف أن ينظر مثله، يقول في نظراته كلاماً حنوناً، وحين يغني صوته يطرب الروح وحين يحب ما أجمله وأحلاه... لكنني لم أره منذ سنوات وقد يكون أحب وتزوج". أسعد لم ينتبه إلى شياله ليعرف انطباعها عن قريبه (عبدو الشاعر) لأن كل همه تحول إلى كأس الشاي الكبير التي قدمتها سبهه لـه ومما زاده انتباهاً أن كأس الشاي جاءت ومعها كعكة محترمة خصت بها سبهه أسعد وحده دون الآخرين. [size=12]وقد أقبل على الكعكة والشاي دون أن يتقدم بالشكر لقريبته. أطلق العنان لفمه لكي يعض الكعكة وأهمل كل أمر خارج ذلك، وقد شكت الكعكة من سوء تعامل فمه معها، لكن شكواها لم تسمع لأنها ضاعت هي وشكواها في بطنه الموقر قليلاً جداً جداً.. بطن أسعد مستعد لاحتواء أي طعام أو شراب يمكن الفم أن يتعامل معه.. حتى حذاء ابن الأحمد إذا تمكن يوماً من عضه فبطنه كفيل باحتوائه والعمل على هضمه، وإذا حصل هذا فحذاء ابن الأحمد سيكون فقده صعباً وسيقوم برثائه.. [size=12]حين أنجز عض الكعكة التفت إلى سبهه فألفاها جالسة إلى جوار شياله فناداها: [size=12]ـ الكعكة لا تكفي لبطن أسعد. [size=12]انتبه الجبيلي لكنه لم يوقف حديثه عن أيامه مع أحمد السعيد وصديقه والد زوجة كريم وعبدو الشاعر. أما ابن الأحمد فقد سرق صوت أسعد إصغاءه لأن كيسه مزود ببعض الكعك... [size=12]خشي ابن الأحمد أن يلمح أسعد الكعك في الكيس، فيكون الضحية... ازداد ارتباكه ولم يخلصه من أزمته إلا صوت (سبهه): [size=12]ـ ألا تسمعون مثلي أصواتاً عالية، تأتي من قبل شجرة التوت. [size=12]سأل الجبيلي: [size=12]ـ أية شجرة التي تذكرينها؟ [size=12]هناك شجرة واحدة، معروفة ومعهودة يا صالح هي شجرة ابن عم يوسف وابن الأحمد. ألا تذكرها يا يوسف؟ [size=12]أجاب يوسف: [size=12]ـ كيف لا أذكرها وجذعها إلى الآن يفرع. [size=12]ابن الأحمد همّ بالنداء على زوجته لكن الأصوات العالية عادت ثانية... [size=12]أسعد لم يشغل باله كثيراً... بالأصوات والضجة، بل الذي استرعى انتباهه هو كيس ابن الأحمد، والأغراض التي فيه. واسترعى انتباهه أكثر كيس الكعك الذي عاينه داخل الكيس الكبير... [size=12]أرادت شياله سؤال أسعد عن (عبدو الشاعر) لكنه بقي متوجهاً بنظراته واهتمامه إلى جهة كيس ابن الأحمد، ولعله فكر في أن يبدّل كيسه به، لكن حذر ابن الأحمد وحرصه منعاه من الإقدام على ذلك. عادت الأصوات أكثر صخباً وضجة... وازداد حضور شجرة التوت وصاحبها في ذاكرة يوسف وابن الأحمد وسبهه، التي ربطتها علاقة طيبة بأم يوسف... [size=12]الجبيلي انتبه إلى ضرورة تحويل الحديث إلى شجرة التوت وأيامها وأيام صاحبها... وفعل ذلك ببراعة المتحدث الذي يحب أن يستمر بالكلام... انتقل الجبيلي من قصته الطويلة مع أحمد السعيد وعلاقته بضيعة النبع ووالد (عبدو الشاعر) إلى شجرة التوت وأيامها. [/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size] |