الفصل السادس :
"خادمة القصر"
[/rtl]
طرق "سيسيل" الباب ،وما إن سمع صوت سيده يسمح له بالدخول ،ودخل وهو يحمل معه إناءً فيه بعض الزهور ،بدل تلك التي تلفت ،في ذلك الحين ،كان الأمير ينظر من النافذة بشرود .
قال "سيسيل" مازحاً ،بعد أن وضع الإناء مكانه :
-ماذا يا مولاي ؟أراك شارد البال ،هل فعلت الأميرة "فيونا" فعلها بك ؟
التفت إليه الأمير ،وبدا على قسماته الغضب ،ولم يجب ،فتراجع "سيسيل" قائلاً :
-حسناً ،يبدو أنه يجب علي إزالة تلك الأزهار التالفة ،وإلقاؤها خارجاً.
-أرى أنها فكرة جيدة .
ولكن طرق الباب الخافت ،غيّر الخطط ،فنظر الأمير نحوه بدهشة ،وتوجه "سيسيل" ليفتحه ،ثم صاح :
-آه ،أنت !وها هو الفطور ... يا لك من فتاة نشيطة .
وبعد دقائق ،أدخل صينية الفطور ووضعها على الطاولة المخصصة ،وقسماته تدل على أنه تعرض لنظرة سخط وكره شديد ،فابتسم الأمير "إيليان" ،وقال :
-أرى أن الفطور حضر قبل موعده .
-لتعرف أن جلالة الملكة تهتم براحة سموك .
ضحك ساخراً،وقال :
-آه ،نعم ... كثيراً .
-لا أتوقع ذلك منك ،سيدي .
قال ،وهو يتوجه نحو طاولة الطعام :
-توقع مني أي شيء هذه الأيام .
نظر "سيسيل" نحو سيده بدهشة ،وفتح ثغره واجماً ،ولم يستطع أن يقول شيئاً .
ابتسم الأمير بدهاء ،وقال ،وهو يحرك الحساء بملعقته :
-ما الذي جعلك تنظر إلي بتلك النظرة يا "سيسيل" ؟
قال مندهشاً :
-أنا ؟! ... كيف كنت أنظر ؟
ضحك الأمير ،وقال باستهزاء :
-كأنك تلقيت على وجهك صفعة قوية .
لم يستطع "سيسيل" أن يسيطر على فاه حين فتحه إلى أعلى درجة ،ثم ضرب جبهته بكفه ،وقال :
-آه ... إنها تلك الفتاة ،إنها تحتقرني قبل أن تعرفني حتى !
فبدا على وجه الأمير بعض السرور ،وقال :
-إذاً بدأت بمغازلتها من اللحظة التي رأيتها فيها ... من متى كنت تفهم بالنساء "سيسيل" ؟
فرد "سيسيل" مدافعاً :
-لا ،لا ،لم أكن أقصد ذلك ... ولكنني أجبت سموك تساؤلك عن علامات وجهي في تلك اللحظة .
فاستطرد الأمير غير عابئ بما يقول :
-وهل هي جميلة ؟
فنظر "سيسيل" إليه بدهشة وشك ،قال في نفسه :
"ربما يريد الإيقاع بي"
فرد عليه قائلاً :
-لا أعرف ذوقك في النساء يا سيدي ؛لأحكم لك عليها .
فابتسم الأمير بدهاء ،وقال :
-لم أعرفك ذكياً هكذا .
ثم نهض ،وارتدى وشاحه ،وخرج من الغرفة .
***
نظرت الملكة "رافاييل" إلى وصيفتها الشابة "روز" ،والتي كانت ترتب بعض الأقمشة ،ثم تأوهت ،فنظرت إليها وصيفتها بتساؤل ،وقالت :
-ما خطب جلالتك ؟
فردت بحزن :
-يحدثني قلبي أنه سيفعلها.
-تعنين الخادمة الجديدة ؟
-لا ... لم أكن أعينها حرفياً ،أعني ابنة "سايمون كوتنيسي" ،لقد أدركت أنه سيبحث عنها ؛حتى لا يتزوج ابنة "كاثولي" ،إنه شاب متهور .
-ولكن كيف يحرص على ذلك ما دام لم يرها ،لنفرض أنه وجدها ،وكانت قبيحة ،ماذا سيفعل حينها ؟
-لماذا تبغضين الفتيات هكذا يا "روز" ؟جميعنا يعلم مدى جمال "تالينا آن" ،إنها أكثر الفتيات سحراً في هذا العالم .
-جلالتك ،ألا تلاحظين أنك بالغتِ في وصفها ؟
-لم لا ؟... إنها تستحق كل تقدير ،لولا والدها "سايمون" لكنا أمواتاً ... وأصبحت المملكة تقبع بين يدي ذلك المريض "شارلمان" .
أخفضت "روز" رأسها بأسى ،وقالت :
-أنت محقة مولاتي ... لقد كدت أنسى ذلك .
-لا يجب أن تفعلِ ذلك ... إنه عمل تاريخي عظيم .
ثم تنهدت مرة أخرى ،وقالت :
-ماذا عن الخادمة الجديدة ؟هل تعرفين عنها شيئاً مؤخراً ؟
فرفعت رأسها بحماس ،وقالت بفرح :
-تقصدين "أيليتا" ؟!إنهم يكثرون الإشادة بها ،وكثرة من يبغضها يدل على نجاحها الباهر .
-الآن ؟! ... هذه أخبارٌ جيدة ... لكنني أريدك أن تراقبِ الوضع جيداً ،ولا تغفلِ عن صغيرة أو كبيرة ،أريد تقريراً بالتفصيل الممل .
فانحنت باحترام ،وقالت :
-حاضر جلالتك .
ثم انحنت مستأذنة ،وعادت تنخرط بالعمل .
***
كانت "إيليتا" تدندن بصوت خافت ،لا يسمع إلا إياها ،وهي تنظف غرفة الأمير "إيليان" بعد خروجه و"سيسيل" إلى التدريب .كما أنها انسجمت في عملها ،لما له أثر عليها في نسيان أحزانها ،وشغل وقت فراغها .
ولكن سرعان ما فاجئها صوت الباب ،فالتفتت إليه ،وما إن رأته ،حتى بدا عليها الخوف الشديد ،فابتسم ابتسامة واسعة ،ماكرة ،وقال :
-هل أفزعتك ؟
-هل ترى أن هذا سؤال أصلاً ؟
فضحك بخفة ،وقال :
-جيدٌ أني حضرت أنا ،وليس سموه ،وإلا شك في نظرتك تلك .
فتغيرت قسماتها إلى علامات الغضب والتوعد ،وقالت :
-ولماذا عدت ؟
-لأحضر سيف سموه ،لقد أراد منافسة حقيقية .
فقالت بدهشة :
-إنها مجازفة ... حتى إن جرحه السابق لم يشفى بعد !
فرفع كتفيه بلامبالاة ،وقال :
-وما شأني أنا في هذا ؟
-ظننتك خليله المخلص !
-نعم أنا كذلك ،لكنه لا يستمع لنصائحي ... إذاً ،انتهى دوري .
-يا لك من رجل مستهتر ،غير مسئول ... أنا لا أفهم كيف يثقون بك .
-إذا ... أنت من النوع الذي لا يثق بالآخرين ؟
فأدركت أنه لن ينهي هذا الحوار ،فقالت غير عابئة ،وهي تعود لعملها :
-أعتقد أنك تأخرت على سيدك .
***
كانتا "أليسون" و"إيليتا" تتمشيا في الحديقة الواسعة بعيداً عن القصر ،وهما يتحدثا ويضحكا ،فقالت "أليسون" ممازحة :
-إذن ... أنت لم تتوقفِ عن حلمك .
فنظرت إليها نظرة عميقة ،وقالت :
-تتكلمين مثل ذاك الشاب .
فقالت بانفعال :
-أي شاب ؟
-ذاك الذي يعتبر نفسه رفيق سمو الأمير المخلق .
وقالت ذلك بتهكم واضح ،لكنها عندما نظرت "أليسون" رأت تلك النظرة الشاردة ،وذاك الوميض القوي ،وما إن لاحظت رؤيتها لها حتى ابتسمت واحمرت وجنتاها ... فقالت "إيليتا" :
-عرفت لماذا تحبين البقاء في القصر يا "أليسون" .
فقالت بخجل ،وهي تهز يدها بلامبالاة :
-دعك من هذا ،إنها سخافات .
فعادت "إيليتا" جملتها بشيء من التهكم والشرود :
-نعم ،إنها سخافات .
-لا تسخرِ مني "إيليتا"
فضحكت :
-أنا لا أفعل .
فرفعت يدها ممازحة ،وقالت :
-بلى .. وسأريك .
فركضت "إيليتا" في مرح ،وهي تنظر خلفها ،وتضحك ،لرؤيتها وجه "أليسون" المتوعد ،وهي تلاحقها ،وتقول :
-سأريك أيتها الخبيثة .
وركضتا إلى أن تعبتا ،واستطاعت "أليسون" اسقاط "أيليتا" ،وسقطت بجانبها برشاقة ،على ضفة نهر مائلة معشوشبة ،ثم ضحكتا بمرح وسرور .
قالت "أليسون" وهي تمسح بعض الدموع العالقة في عينها :
-لم أضحك هكذا في حياتي !
-ولا أنا أيضاً .
فنظرتا إلى بعضهما ،وابتسمتا ،ثم رفعت "أليسون" يدها أمامها ،وقالت :
-صديقتان ...
فرفعت "إيليتا" يدها أيضاً ،ووضعتها على يد "أليسون" ،وأردفت معها :
-إلى الأبد .
ثم ابتسمتا كلا منهما ابتسامتها الواسعة التي تخصها .
وبعد بضع دقائق من الاستلقاء على ضفة النهر ،نهضتا ،وقد أدركتا أن عليهم العودة سريعاً ،ولكنهما وهما يقفان ،ويرتبان أنفسهما ،لاحظا وجود كوخ صغير من خشب البلوط ،فدهشتا،وقالت "أليسون" :
-لا أذكر أن هذا الكوخ كان موجوداً هنا ...
ثم نظرت نحو "إيليتا" في قلق ،وقالت :
-ربما ابتعدنا عن القصر ،أكثر مما ينبغي .
***
في اليوم التالي ،دخلت "إيليتا" غرفة الأمير ،لتزيل الغرز عن ساعده ،وحضر "سيسيل" أيضاً ،ودخلت معها "روز" لتعرفها بالأمير بالشكل اللائق ،فلم يتسنى لأحد أن يفعل ذلك ،نظراً للحالة الطارئة التي حصلت ،لذلك اختيرت "روز" لتلك المهمة .
قالت "روز" وهي تضع يداً على كتف "إيليتا" ويداً أخرى تتحرك معرفة بها :
-سمو الأمير ...
قالت ذلك لتنبه الأمير ،الذي كان مشغولاً ببعض الأوراق ،فنظر إليهما ،وتحولت نظرات الجد إلى نظرات دهشة مصدومة ،ولم يستطع إزاحة عينيه عنها ،ولم يتحرك جسده بأي حركة ،فلاحظتا كلاهما ذلك ،فأردفت "روز" :
-هذه ممرضتك الآنسة "إيليتا" .
وقد عمدت بكلمة "ممرضة" ،تقديراً لشأنها المحترم .
فقال "سيسيل" :
-شكراً لك "روز" ... ولا تقلق ... ستكون بخير .
فنظرت إليه نظرة شك مؤنبة ،وقالت :
-حسناً ... انتهت مهمتي الآن ... ولكنني أريد الآنسة للحظة .
وبالفعل ،أخذتها إلى زاوية ،وهمست لها :
-علي تركك لتؤدي عملك الآن ... ولكن عليك الحذر ،فهذا "سيسيل" عديم الفائدة ،ولا يرتكن عليه .
فهزت رأسها بالإيجاب ،وفي خاطرها ألف هاجس وهاجس .
فشدت يدها تشجعها ،ومشت بها حيث وقفتا سابقاً ،ثم استأذنت بالرحيل ،وانصرفت .
جلست "إيليتا" على ركبتيها بجانب مقعد الأمير ،الذي فرد ساعده المصاب على يد الكرسي ،وباشرت "إيليتا" عملها .
وقف "سيسيل" بعيداً ليتيح للأمير فرصة الحديث معها براحة .
أما الأمير "إيليان" ،فأخذ ينظر إليها بسكون ،يكاد لا يصدق نفسه ،ولكنه سرعان ما كسر الصمت قائلاًأأأ :
-تبدين مألوفةً لدي !
فنظرت إليه ،وكأنه لأول مرة يرى وجهها ،وعينيها المتلألئتين بجاذبية ،فتسمر مكانه ،وشعر بالخوف ،فعادت تنظر في عملها ،وقالت بصوتها العذب ،ولكن بشيء من البرود :
-وإن يكن ... لن تكون أنا .
-تبدين أقوى من ظننت ؟
نظرت إليه من جديد ،فعاد يراوده الشعور ذاته ،ثم استأنفت عملها ،ولم تجب ،فسألها بعبارة بدت خبرية أكثر منها استفهامية :
-أنت لا تحبين الكلام ؟
فنظرت إليه من جديد ،وقالت ببرود ساخر :
-شكراً لتفهمك شعوري .
ثم عادت لعملها .
***
مشت "أليسون" و"إيليتا" بعيداً عن مقر الخادمات ليتحدثوا براحة ،قالت "أليسون" بقلق فاضح :
-إنه أمر مخيف ... من يجرؤ ويبني كوخاً من خشب البلوط في الأرض الملكية .
-أنا لا أفهم ؟كيف يكون هذا مخيفاً ؟
فنظرت إليها ،وقالت بانفعال :
-بالطبع إنه كذلك ... قد يكون أي شيء ... ربما "شارلـ"...
ثم توقفت ،ووضعت يداها على فاها ،فقالت "إيليتا" :
-يبدو أنك تعلمين أكثر مما تعلمينني .
-لا يجب أن أتحدث بالأمر .
-لماذا ؟ما الذي تعرفينه ؟
ثم قالت مشجعة :
-ألسنا صديقتان ؟!
-بلى ،ولكن هذا ليس سري لأخبرك به .
-لكنه بحوزتك ... على الأقل دعيني أعرف لماذا يفعلون بنا هذا ؟
جرى صمت طويل وهما يحدقان ببعضهما ،ثم قالت "أليسون" أخيراً :
-حسناً ،سأخبرك ... لكن عديني أن لا تخبري أحداً .
فمدت لها خنصرها ،وفعلت الأخرى كذلك ،ولفاهما حول بعضهما ،فاقتربت "أليسون" منها ،والتفتت لتتأكد من خلو المكان ،وهمست :
***